أذهب في ترتيلة ايامي القليلة، بينا ألتقيكِ كل يوم، ألتقيكِ فيَّ لأُوغل أبعد في مشفي السلوان. وليس من حل لي، غير ان اغسلني جيداً منكِ، في الشارع والسرير، وأن أتوحّد بي، إذ اكون الى جانبك في العربات التي لم تعد تذهب بنا الى الأبعد من المسافات، وأريد ان أسلو، وأنّا أراك تتفتّتين في أشغالكِ، حيث يتهاطل رمادكِ حولي، ويغزوك التعب. أبتعد قليلاً قليلاً، وتنسلّ خطواتي من فضاء المكان اللندني. النتوءات جارحة، وباهظةً غدت الإقامةُ في ضواحي هذا الوله، لا أريد لحبي أن يذلّني، ويكسر ضلعي، فلا تعود لي صورة كريمة، أو ذكرى ما لديكِ عني. صرتِ تحضرين الى الغرفة، تحضرين كواجب مدرسي ثقيل، محاذرة غضبي في الأيام القليلة لي هنا، أعرف اننا لم نعد نحن نحن، لم نعد نطهو الطعام معاً، أو نحتسي النبيذ ونحن نلعب الورق، وأما مذياعنا الأحمر، فما عاد يجيش، أو يرنّ كعادته بالموسيقى، والأغاني التي نحبُّ. تحددين موعد ذهابك قبل ان تأخذي الكرسيّ، وتجلسين في الجانب المواجه لي، لتصّاعد الشكوى من متاعب العمل. صار ينذر ان تجمعنا وجبة في الغرفة، هي ساعة، او بعض ساعة، تخلعين حذاءيك، وتتمدّدين بملابسك على السرير. - كم انا متعبة! وأجلس قبالتك على مقعد الطاولة، ولا يسعفنا الكلام. هكذا بالقليل من الخسارة، أستعيدني لأكتبكِ في هذا الموت، بهذا وحده أتحمّل غيابك الآتي، أقول في نفسي، كما اتحمّل خلعي، ولا أبرأ منك تماماً. أرمي بالقلم الآن على سطح الطاولة البنية التي تتوسط الغرفة، مثل عين خشبية لا ترى، أتأمّل الجدران، الخزانة، الباب المفضي الى الشرفة، وأتأمّلنا فيها معاً. يطول عليك حزني إذن، يطول خيط الأنين، ولا يفعل اليأس شيئاً من اجلنا. امشي عنك ولا أظنّني ارتويت بك، فهل فضتُ حقاً، وسوّيتك في اكثر من شكل وأُغنية، بعد ان جوّدت بين يديّ ادواتي زمناً، وشفّ الداخل لطافة، لا يقدر عليها الغياب! لا شيء أهمّ من ذلك، حتى لو ذهبتِ في النهاية الى غيري. تنقصُ ملابسي في أدراج الخزانة، وعن علاّقة الملابس يغيب معطفي الأسود الطويل، وقد صار في حوزة طوني. تخلّيت عن جزء من ممتلكاتي القديمة، وأودعتها جوف الحاوية الحديد الكائنة في الجهة المقابلة من البناية، صحبة اكياس من البلاستيك منتفخة بالعديد من المجلات والصحف، بعد ان اقتطعتُ منها ما يخصّني. أرى الأمكنة تعرى منا، الحدائق، ومقاهي الحيّ، حانة الكنيسة القريبة، الحانات البعيدة، ومحطّات "الاندرجراوند" هنا وهناك، مثلما تفرغ الآن غرفتي، شيئاً فشيئاً، وتساق محتوياتها الى الفراغ، او الموت. كتبُ الرفّ الحجريّ في صدر الغرفة تتناقصُ بدورها، وتضمر، الأحلام نفسها، والأحاسيس التي فتّحت فينا انضر البراعم تنكمش داخلي. نجوم كثيرة تخبو، او تنطفئ، بينا تتكسّر اعناق الزهر، تحت وطأة هذا الذبول التدريجيّ، وأنا أقلّم نفسي مثل شجرة منسيّة، مرّ عليها اكثر من صيف، من دون ان يمسّها مقصّ ما، وقلبي حزين. أقف أحياناً وأنا أطوف في مشاويري الليلية وأتساءل: هل انا الوحيد اليقظ السائر امام كل هذه البنايات، منقطع عن كل شيء، عن الساكن خلف الحجر، والمتحرّك البعيد الذي لا أراه، بينا يغط الجميع في عالم آخر، كأنّي خارج اي سياق زماني، وخارج المكان. أواصل المشي الى ان تكلّ الخطى فيّ، لأرى فجأة الى سكارى قليلين يمرّون عني، او على الرصيف الآخر، يهدرون فيما بينهم بما لا افهم، وأستريح شيئاً فشيئاً الى انفاس موسيقى متقطعة صادرة من حانة هنا او ملهى، قبل ان يهدّني التعب، وآوي الى سريري بهدوء أسيان، ولا يغلبني النوم، إلا بمشقة. في النهار أرى كثيرين ايضاً يحكون مع انفسهم غاضبين، او في حنان يهمسون، بينا لا احد معهم. لعلها الوحدة ما تفعل بهم هذا، او برودة المدينة المقيمة في حدودها. وحدي انا، وحدي في مثل وحدتهم اطوف، اخاف ان اجدني يوماً أتحدث كما يتحدثون، اخاف حقيقة، وحين انتبه احياناً إليّ، وأنا أغني في الشارع بصوت خفيض لنفسي، او اصفر لحناً ما، اخاف من جديد ان يكون هذا مقدمة للكلام الغريب مع الذات، فأكفّ عن الغناء، اقول لنفسي لماذا يلهو بنا الحب، ويفعل مثل هذا القلق، حتى ليسلبنا من احلامنا وأفكارنا التي قبل قليل، كانت خضراء يانعة تكبر فينا، وتضيء العتمة. امسِ التقيتُ فيروز. كنا تواعدنا عبر الهاتف على ان نلتقي في مقهى "رابللو" لأمنحها مجموعة من الكتب، لا أنوي حملها معي، وأنا أُغادر لندن بأحمالي الضاغطة، رغبتُ ان أتخفّف ما امكنني من اثقال المكان النفسية، لتعزيز حريتي. كنا نجلس في الساحة الهوائية محاطين بمزيج من الخلق والأجناس، نهضتْ هي عن مقعدها، متجهة الى داخل المقهى، بينا انصرفتُ الى نفسي، بعد قليل لمحتها مقبلة تحمل بيديها صينية، عليها كوبان من الكابتشينو وزجاجة ماء صغيرة، وضعتها على الطاولة بابتسامة تضامنية واضحة، اخذتْ احد الكوبين، ووضعتْه امامي. - تفضّل. لم فعلتِ ذلك؟ - أنا دعوتكَ. كانت ترتدي جاكيتاً أحمر على بلوزة بيضاء برقبة طويلة، وفي خفية منها رحت أتأمل وجهها الأبيض المائل الى الحمرة، وشعرها القصير الذي بدا لي مصبوغاً، وأقرب الى الشقرة، هي تصغرني بسنوات قليلة ولم تتزوّج. في عام وصولي لندن، كنت مهموماً بالبحث عن عمل ما، يدعم وجودي الهشّ هنا، قالت لي صفيّة، سأُقدّمك الى صديقة لي، تعمل في مجال الإعلام، لربما تهدينا الى مدخل مفيد، إنها تعرف اكثر مني قالت، سنزورها معاً، فهي تعيش وحدها، وداعبتني: - لكنّي اخاف ان تأخذكَ مني. لم نزرها، ولم تعد الى الحديث عنها ثانية، لكنّ اسمها ظلّ يلحّ عليّ بين وقت وآخر، وصار لديّ ما يشبه الفضول لأراها، ثم نسيتُ الأمر الى أن التقينا صدفة، ذات مساء في احتفال للجالية الفلسطينية، وقدّمتْني لها. ها هي تفاجئني بسؤال: - هل تخلّت عنكَ صفية؟ حدّقتُ فيها مليّاً لأجيب بحدة واضحة، مستنكراً طبيعة السؤال: كيف تسمحين لنفسك بمثل هذا السؤال؟ نظرت بدورها فيّ متجاهلة ردّ فعلي وقالت: - غالباً ما أراك واضح الكآبة، ووحدك. كل انسان وحيد، ولندن قاسية. لم تطلْ جلستنا، ولم نحكِ الكثير، كنت أنوي ان أُفضفض عن روحي، وأنفّض عني قتامة هذه السماء الرماديّة، وحلّ صمت بيننا. انصرفتْ، من دون ان أعرف ما يدور بخلدها من خطط وأفكار. وبعد ان أخذتْها الحافلة، عنّي، امضيت دقائق وحدي، واقفاً في المحطة دونما سبب ظاهر لي، احسستُ فجأة بغصّة ما، وحنق غير مفسّر على صفية، بينا كنت أنظر عرضياً الى ناحية البناية التي تقيم، واستدرتُ ذاهباً الى مكتبة "بادنغتون" القريبة. أُعالج الفراغ، بلقاء فيروز بين آن وآخر، نثرثر في مواضيع شتّى، وقد بتُّ احسبها ترأف بوحدتي. دُهشتْ يوم امس من كمية الكتب التي قدّمتها لها، قائلة: - لماذا، ألا تنوي ان تعود الى لندن؟ لا أعرف تماماً. - ماذا أفعل بكلّ هذه الكتب! اقرأيها. كانت اخبرتْني انها تكتب القصة القصيرة، وأرتني بعض ما نشرته من قصص، توقّفتُ عند قصة لها، فاجأني عنوانها وهو "بوابة مندلبوم". - هل كنتِ يوماً في القدس، وعرفتِ هذه البوّابة؟! كنت في القدس. - متى كان ذلك؟ عام 1967، قبل حزيران. كنت أعرف انها فلسطينية، من مخيم عين الحلوة في لبنان، وها هي توضح لي انها حضرت إحدى الدورات التدريبية في دار المعلمات بالطيرة في رام الله، الواقعة في مساحة مجلّلة بغابات الزيتون واللوز من كل الجهات، غرب مدينة القلب رام الله! إذن عرفتْ رام الله، ومشتْ شوارع الصيف فيها، إبّان كنتُ هناك، وأتفتّح فيها على الحياة، والقصيدة. قلت لها ذلك، وعقّبتْ: عجيب. أحسستُ بها اكثر، مثل أُختي التي هناك، وبعيدة. حين نهضتْ عن مقعدها لتروح، شاركتها في حمل الكتب، اخذتْ هي كيساً، وحملتُ انا الآخر. قالت لي لا تتعبْ نفسك، قلت لا بأس، امشي معك. كانت نفس المحطة التي ينتظر فيها قلبي رياحه وراحته. وقفتُ الى جانبها ننتظر الحافلة، وقفتُ لا اعرف ما اقول، كان وجهي يغادرني، وعيناي في قلق تنسكبان على الشارع غير البعيد، الذي عادة تطلع لي منه صفية كلّ صباح. عبرتْ عنّا حافلات كثيرة غير التي تريد، عبرتْ وجوه اعرفها من المكان، ووجوه اخرى لا أعرف. شردتُ لحظة. لا أعرف لماذا قالت فجأة: - إن بيت صفية قريب من هنا! لم أعلّقْ. كانت الحافلة رقم 31 قد وصلتْ، تحرّكت باتجاه الباب الذي انفتح آلياً، وانتبهتُ إليها، كانت تلتفتُ نحوي اثناء صعودها وتقول: هاتفني غداً. وصرتُ وحدي، وعلى مقعد رصيفي قريب من المحطة، شرتُ من جديد في الأفق، كان تعب يهدّني، ومال رأسي، فهل غفوت هناك! حين أفقتُ من نومي، رأيتني أقف الى امرأة، وقلت لها إنّي متُّ. أنا الآن ميت، حدث ذلك، وأنا أقف امام البنك العربي في دوّار المنارة برام الله. لا أعرف من اين جاءت العربة ودهمتني، وقعتُ على الأرض، فجأة وأنا انهض بأعضائي المضعضعة، رأيت الناشر الذي أعرف بجسده السمين واقفاً، وينظر إليّ كالأبله، كان جامداً بلا اي تعبير، لم يتلفّظ بكلمة او يقمْ بحركة ما. ورحتُ أروي للمرأة مندهشاً بسهولة هذا الموت، لكأنّ الأمر طبيعي جداً، بعد ثلاثة ايام من الحادثة، اخذوني الى المستشفى، لإجراء عملية ما، إذ قيل إن في رأسي ثلاث نقاط دم، لم أخفْ، ولم أفكر بشيء، وكان آخر ما أذكر من حياتي، انّي كنت على سرير متحرك ملفوفاً بقماش ابيض، واعياً انهم يأخذونني، وأني شيئاً فشيئاً، رحتُ أدخل في غيم ابيض، وأغيب. بعد ذلك عرفت اني متُّ، كان الناشر واقفاً ايضاً، وأنا أروي في ذات المكان، امام البنك العربي على دوّار المنارة برام الله، حيث دهمتني العربة، وكان على صمته لا يزال، كما لو انه علامة جامدة من علامات الطريق، كنت اروي في شيء من الحزن والمرارة كيف متُّ، وكيف كان يمكن ان أظل حيّاً، ويحزنني اني لم أكن أعرف هيئة من أروي لها حكاية موتي، إذ تركتْني، ومشتْ، لأفيق من جديد. تلفَّتُ حولي وأنا أنهض عند المعقد، ولم أجدني في رام الله. صفنتُ قليلاً في نفسي، استعدتُ جملة لبورخيس قرأتها قبل ايام، تقول: "بينما ننام هنا، نكون مستيقظين في مكان آخر، كلُّ شخص شخصان". مشيتُ على امتداد الشارع المؤدّي الى مكتبة الساقي. الطريق تضجّ بالأقدام والقامات، على الرصيف الآخر، امام المخزن الباكستاني، كان لا يزال الرجل الحليق الرأس وكلبه الهرم في مكانهما المعتاد، وأمامهما نفس الورقة الكرتونية الكالحة المكتوب عليها homeless، توقفتُ أتأمّل، كانت امرأتان تنحنيان لمداعبة الكلب بحنان، ثم تذهبان، من دون ان تمتد يد اي منهما الى جيب. مشيت فقيراً الى ملامسة او حنان. صرت امام غاليري الكوفة، كان نفر من العرب هناك، في انتظار ان تبدأ ندوة ما في الغاليري، ولم يصل المحاضر بعد. سلّمتُ على البعض منهم، وتوقّفتُ قليلاً. لا أرغب في حضور الندوة، فلا طاقة لي على السكون والإصغاء، كما رغبتُ عن دخول المكتبة. انتقلتُ الى الرصيف المقابل لأتّجه يساراً الى غرفتي. توقفتُ بباب البناية، وأنا اكثر وحدة من هذا السياج، الذي يسوّر حديقة الحي، حيث لا تدخلني العصافير، ولا حاجة لي في الغرفة لأصعد ثلاثة ادوار، ولا عزاء في الشرفة، أو النظر منها الى آخر الشارع، لا اريد أن أنتظر، لأرى صفيّة قادمة، حيث لا موعد بيننا... * فصل من رواية "شرفة في قفص" للكاتب الفلسطيني الراحل محمد القيسي، تصدر قريباً عن دار الآداب في بيروت.