أشك في أن كثيرين من أعضاء النخب السياسية الحاكمة العربية يفهمون منطق العولمة فهماً صحيحاً. والدليل على ذلك أنهم في مجال الحكم وإدارة المجتمعات لم يغيروا كثيراً من عاداتهم التقليدية التي تتمثل في الاستئثار بالحكم من دون مشاركة حقيقية، وتغييب الممارسة الديموقراطية، ومخالفة قواعد حقوق الإنسان، وعدم الاحترام الكافي للتعددية في المجتمع العربي بكل صورها. كأن العالم لم يتغير! وكأننا ما زلنا نعيش في الخمسينات أو الستينات التي شهدت أقسى صور النظم السياسية الشمولية والسلطوية استبداداً وقهراً للجماهير! انتهى هذا العهد البغيض، وكان سقوط حائط برلين رمزاً بارزاً لنهاية هذه النظم الشمولية، في حين كان انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان النموذج البارز للشمولية السياسية علامة على السقوط التاريخي للاستبداد. تحولت دول أوروبا الاشتراكية من الشمولية إلى الديموقراطية في مدة لا تتجاوز خمس سنوات. ونحن في العالم العربي ما زلنا ندعو للديموقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان، من دون استجابة حقيقية من النظم السياسية الحاكمة. وحين نتأمل هذا الموقف ندرك أنه في ما يبدو ليس هناك لدى هذه النظم فهم حقيقي لقوانين العولمة من جانب، ولا إدراك حقيقي لمفهوم زمن العولمة إن صح التعبير. قوانين العولمة لا يمكن فهمها إلا إذا أدركنا أنه قد تشكل - بعد تطورات سياسية واقتصادية وثقافية متعددة - ما نطلق عليه"المجتمع العالمي"World Society. والمجتمع العالمي أصبح فضاء جديداً لا يضم فقط الدول التي كانت منذ معاهدة وستفاليا التي أسست للنظام الدولي الحديث ورسخت مفهوم الدولة القومية، وإنما أصبح يضم أيضاً المؤسسات غير الحكومية والتي يطلق عليها الآن المجتمع المدني العالمي. وذلك بالإضافة إلى الشعوب بثقافاتها المتعددة. ولا ننسى في هذا المجال بطبيعة الأحوال المؤسسات الدولية والشركات الدولية العملاقة. في هذا المجتمع العالمي تسري التدفقات المتنوعة بسرعة البرق بحكم ثورة الاتصالات الكبرى والتي تتمثل في البث الفضائي التلفزيوني وشبكة الإنترنت. انتهت العزلة نهائياً بين الدول والشعوب. ضاقت المسافات بين البشر الذين أصبحوا يتابعون التطورات العالمية في الزمن الواقعي Real time. لم يعد قادة أي نظام سياسي يستطيعون أن يخفوا الحقائق عن شعوبهم، سواء كان هذا النظام في بلد متقدم أو في بلد متخلف. والدليل على ذلك أن إدارة الرئيس جورج بوش التي ارتكبت من الأخطاء السياسية الجسيمة بل وبقيادة المحافظين الجدد من جرائم الحرب في أفغانستانوالعراق لم تستطع أن تخفي الحقائق عن الشعب الأميركي ولا عن العالم. وأذيعت الأخبار عن سجن أبو غريب في العراق وعن المعتقلين في غوانتانامو على العالم كله. لم تستطع النظم السياسية العربية الحاكمة أن تستوعب هذه التطورات الكبرى بالقدر الكافي. ظن قادة بعض هذه النظم أنه يمكن لهم ممارسة سياسات الاستبداد القديمة وكأن شيئاً لم يحدث في العالم! إن كاميرات العالم - إن صح التعبير - مفتوحة أربعا وعشرين ساعة لكي تلتقط كل المخالفات في مجال الديموقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان. وأصبح للمجتمع المدني العالمي بهيئاته الشهيرة مثل"لجنة العفو الدولية"وغيرها صوت مسموع في إدانة الحكومات، بل وأصبحت تمارس ضغوطاً فعالة على الدول. ومن هنا كان على قادة النظم السياسية العربية أن يدركوا أن زمن"التلكؤ الديموقراطي"انتهى وأن عليها أن تبادر الى عملية إصلاح سياسي شامل. ولا يعني ذلك بالضرورة الانقلاب السياسي على الأوضاع الراهنة، بل إن مراعاة الخصوصية الثقافية لكل مجتمع عربي ضرورة أساسية لنجاح هذا الإصلاح. ولا يعني ذلك إطلاقاً الدفع بحجة الخصوصية الثقافية لعدم تطبيق مطالب الديموقراطية. فالديموقراطية - من دون أدنى شك - قابلة للتطبيق في كل مجتمع عربي أيا كانت درجة تطوره. ولكننا نعني باحترام الخصوصية الثقافية هنا عدم فرض نموذج ديموقراطي غربي على مجتمعات عربية لم تمر بعد في كل اختبارات الحداثة السياسية المعاصرة. هناك بلاد عربية ما زالت تفضل نظام الشورى المستمد من التقاليد الإسلامية على النموذج الديموقراطي الغربي الذي يقوم على التعددية السياسية والحزبية، والانتخابات الدورية وتداول السلطة. في هذه البلاد قد يبدأ الإصلاح بتشكيل مجالس للشورى، وقد تتمثل نقطة الانطلاق في تعيين أعضاء هذه المجالس. غير أن التطور لا بد أن يأخذ مداه فيصبح اختيار أعضاء هذه المجالس بالانتخاب الحر المباشر، ولا بأس أن يترك للسلطة السياسية تعيين نسبة من هؤلاء الأعضاء. وجمع النظام المصري في تشكيل مجلس الشورى بين الانتخاب الحر المباشر كقاعدة، مع الاحتفاظ بحق السلطة في تعيين عدد من الأعضاء للاستفادة من خبراتهم. ولكن لا ننسى هنا أن النموذج المصري لا يقنع بمجلس الشورى لأنه هناك مجلس الشعب والذي هو المجلس النيابي الأصلي الذي يشرع القوانين. بعبارة أخرى فلندع لتوسيع مجالس الشورى في الدول العربية التي لا تأخذ بتقاليد الديموقراطية الغربية ولا تقبل التعددية الحزبية فيها، كخطوة أولى يمكن أن تتبعها خطوات أخرى قد تؤدي في النهاية إلى القبول بمبدأ التعددية السياسية والحزبية. أما في البلاد العربية التي شهدت من قبل تجارب ليبرالية فهي قابلة أكثر للتحول الديموقراطي. ونعني بذلك أن الإصلاح السياسي ينبغي أن يتمثل في رفع القيود عن التعددية الحزبية، وإطلاق الحريات السياسية، والانتقال إلى مجال تداول السلطة حتى ولو كان ذلك بخطى وئيدة! غير أنه من ناحية أخرى يمكن القول إن قادة النظم السياسية العربية المختلفة لم يدركوا حتى الآن بالقدر الكافي أن"زمن العولمة"يختلف اختلافات جوهرية عن الزمن الماضي! والدليل على ذلك أن بعض الدول العربية - مثل مصر على سبيل المثال - كان يواجه الضغوط الأميركية والغربية بشأن ضرورة الإصلاح السياسي، بأن الإصلاح يتم فعلاً ولكن بطريقة تدريجية لا تؤثر على الاستقرار السياسي! وتبين أن هناك خلافات جوهرية بين المفهوم العربي ل"التدرج"والمفهوم الغربي. فالمفهوم العربي للتدرج قد يذهب إلى أنه يحتاج إلى عشرات السنين كي يتحقق الإصلاح السياسي، في حين أن المفهوم الغربي يرى أن التدرج - وفقاً لخطة موضوعة سلفاً - ينبغي ألا يزيد على عشر سنوات كحد أقصى! ويؤكد ملاحظتنا هذه ما صرح به أخيراً الدكتور بطرس غالي رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر من أن الإصلاح الديموقراطي فيها يحتاج لفترة من ثلاثين إلى أربعين سنة! غير أن هذه المفاهيم العربية للتدرج لا تتفق أبداً مع"زمن العولمة"الذي يرى ضرورة تحقيق الإصلاح السياسي في كل الدول وذلك في مدى زمني قصير، لأن منطق العولمة يقول إن الأوضاع غير الديموقراطية في بلد ما تؤثر سلباً على الأمن القومي العالمي. وهكذا وقعنا بين مفهوم عولمي يؤمن بالسرعة الفائقة، ومفهوم عربي يعتنق مبدأ التلكؤ البليد! ماذا نفعل كعرب في عصر العولمة المليء بالمخاطر؟ ليس أمامنا سوى ممارسة النقد الذاتي! * كاتب مصري