ما زال دعاة القومية العربية، الذين جددوا في العقود الأخيرة منطلقات الخطاب القومي العربي التقليدي، يعتبرون حتى الآن أن تحقيق حلم الوحدة العربية حتى لو كان ذلك في حدود التنسيق بين سياسات الدول العربية، هو الحلم الذي ينبغي العمل الدؤوب على تحقيقه في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية. وعرضنا في المقال الماضي للمحاولات المتعددة لاستشراف مستقبل الوطن العربي من خلال مشروعات بحثية يقوم بها أساساً"مركز دراسات الوحدة العربية"في بيروت، وأحدثها مشروع بحثي قيد الإعداد اجتمع مجموعة من الخبراء العرب لمناقشته في القاهرة، ويقوم المشروع - كما ذكرنا من قبل - على أساس رسم سيناريوهات متعددة للمستقبل، هي السيناريو الكارثي، أي بقاء النزعة القطرية على حالها، والسيناريو السلبي الذي يسعى لإبقاء تماسك الكيانات القطرية، والسيناريو الإصلاحي والذي يتمثل في سعي الدول القطرية الى إدخال إصلاحات في نظمها السياسية، وأخيراً السيناريو الإيجابي وهو باختصار سيناريو الوحدة العربية أياً كان شكلها. ورغم مشروعية الحلم بتحقيق الوحدة العربية، إلا أن هناك مؤشرات متعددة كيفية وكمية تشير إلى أن تحقيقه في الأجل المتوسط وقد يكون في الأجل الطويل - نظراً لظروف متعددة خارجية وداخلية - صعب التحقيق. وفي تقديرنا أن حلم الوحدة العربية لا يمكن أن يتحقق إلا إذا قامت الدول العربية القطرية بنظمها السياسية المتعددة بإصلاح سياسي شامل. وهذا الإصلاح السياسي يطلق عليه في أدبيات علم السياسة التحول الديموقراطي، وهذه العملية عبارة - بحسب التعريف - عن الانتقال من نظم سياسية شمولية أو سلطوية إلى نظم ديموقراطية وليبرالية. وأدت العولمة بتجلياتها السياسية وأبرزها الديموقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان، والتي أصبحت شعارات"معولمة"، إلى أن يحاول المجتمع الدولي، ممثلاً بالدول الغربية الكبرى والمجتمع المدني العالمي، فرضها فرضاً على الدول العربية، وهذا الفرض يأخذ شكل الضغوط السياسية والاقتصادية. ولا شك أن أحداث 11 أيلول سبتمبر ونعني الهجوم الإرهابي على الولاياتالمتحدة الأميركية الذي قام به - حسب الرواية الأميركية الرسمية - إرهابيون عرب مسلمون، هو الذي دفع بإدارة الرئيس بوش وهي تعلن حربها الكونية على الإرهاب أن تعلن مبادرة سياسية كبرى هدفها فرض الديموقراطية فرضاً على الدول العربية، حتى ولو اتخذ ذلك - في صورته القصوى - شكل التدخل السياسي، الذين يهدف إلى تغيير بعض النظم السياسية العربية باستخدام القوة، ولعل نموذج الغزو العسكري الأميركي للعراق بزعم أن نظامه الديكتاتوري يمتلك أسلحة دمار شامل من شأنها أن تهدد الأمن القومي العالمي، صورة بارزة لخطورة دعاوى التدخل السياسي، بمعنى تغيير الأنظمة السياسية بالقوة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مبدأ التدخل السياسي ليس له أي سند في القانون الدولي، بل هو في الواقع مضاد للشرعية الدولية. غير أن الضغوط الدولية على الدول العربية لتحقيق التحول الديموقراطي استمرت، تضاف إليها مطالب الداخل العربي، ونعني بذلك مطالبة عديد من الأحزاب السياسية والمثقفين العرب ومؤسسات المجتمع المدني بتحقيق هذا التحول، لأنه أصبح ضرورة حتمية، بعد أن دخلنا في القرن الحادي والعشرين وودعنا القرن العشرين، والذي كان زاخراً بالدول الشمولية والسلطوية. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه ما هو المضمون الحقيقي للتحول الديموقراطي؟ في الإجابة على هذا السؤال يجدر بنا أن نعتمد على نظريات علم الاجتماع التي تعرّف نظرية التغيير الاجتماعي المخطط، وهذا التغيير يقوم على أربعة أركان: الأول وجود رؤية استراتيجية للتغيير، والثاني تحديد القوى السياسية الاجتماعية التي تضغط في سبيل التغيير، والثالث طرق مواجهة مقاومة التغيير، والرابع أهمية رصد التقدم في عملية التغيير عبر الزمن. وتواجه التحول الديموقراطي العربي صعوبات متعددة سياسية واجتماعية وثقافية. ومن بين الصعوبات الثقافية الزعم بأن ثمة خصوصية عربية راسخة لا تسمح بتطبيق الديموقراطية على النسق الغربي. والواقع أن هذه الحجة ترفعها بعض شرائح النخب السياسية الحاكمة العربية لعرقلة التحول الديموقراطي حفاظاً على نفوذها السياسي وأوضاعها الطبقية. وذلك لأن الديموقراطية الغربية وإن كانت ليست لها نظرية ثابتة يمكن تطبيقها على كل مجتمع في العالم، إلا أن هناك إجماعاً على مفردات الديموقراطية، وأهمها على الإطلاق تداول السلطة، والانتخابات الدورية النزيهة سواء كانت رئاسية أو برلمانية أو محلية، وحرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم، في إطار الدستور والقانون. والصعوبات السياسية التي تثيرها النخب الحاكمة العربية هي أن التحول الديموقراطي لا يمكن أن يتم مرة واحدة، وإنما هو يحتاج إلى أن يطبق بطريقة تدرجية عبر سنوات طويلة، وإلا اختل الاستقرار السياسي الراسخ. غير أن هذه حجة مردودة لأن هذا الاستقرار السياسي المزعوم لا يتم في العادة إلا من خلال قهر الجماهير وتقييد حركتها التقليدية، وتقليص دوائر المشاركة السياسية. إلا أنه يمكن القول إن ثمة صعوبات اجتماعية وثقافية تحول دون إتمام التحول الديموقراطي العربي في زمن معقول، ولعل أهم هذه الصعوبات قاطبة هي سيادة القبلية في المجتمع العربي، والتي تتحول إلى قبلية سياسية تؤثر تأثيرات سلبية في الانتخابات واختيار القيادات، كما أن بعض النظم السياسية العربية تقوم على أساس الشرعية السياسية لنظم تقليدية تحكمها عائلات محدودة العدد منذ مئات السنين، يعد ذلك ولا شك قيداً على التحول الديموقراطي، لأن الديموقراطية تعني في المقام الأول التعددية السياسية والحزبية، وعديد من هذه النظم لا تسمح أصلاً بقيام أحزاب سياسية معارضة، ولا أحزاب سياسية موالية للنظم. وبالإضافة إلى ذلك هناك نموذج الدول الريعية التي تقوم أساسا في تحصيل إيراداتها على النفط، وهي تقوم بعملية التوزيع بشكل يضمن عدم ظهور قيادات سياسية معارضة تطالب بالديموقراطية. وبغض النظر عن كل هذه الصعوبات السياسية والاجتماعية والثقافية يمكن القول إن المجتمع العالمي في العقود المقبلة لن يتسامح إطلاقا مع أنماط الدول الشمولية والسلطوية. ومن هنا لا بد من باب المبادرة الاختيارية أن تشرع النظم السياسية العربية رغم تعدد أنماطها في عملية التحول الديمقراطي. وهذه المهمة تبدو سهلة نسبيا في البلاد العربية التي لها ماض ديموقراطي وليبرالي مثل مصر وتونس والمغرب وسورية ولبنان والسودان، مع تفاوت في درجة مقاومة الطبقات الحاكمة فيها لهذا التحول. غير أن المهمة تبدو أصعب حقاً بالنسبة الى النظم السياسية العربية الشمولية التي جمدت نمو المجتمع المدني، وتلك التي لم تسمح أصلاً بقيامه. ومن هنا يمكن القول إنه إذا كان يمكن - نظريا - التحول من السلطوية إلى الديموقراطية إلا أن التحول من الشمولية إلى الديموقراطية يكاد يكون مستحيلاً إلا إذا حدث انقلاب أو قامت ثورة، وفي جميع الأحوال هناك اتفاق على مرتكزات التحول الديموقراطي وأهمها على الإطلاق وجود دستور ديموقراطي بحيث تكون السيادة للشعب والمواطنة متساوية بالنسبة لجميع المواطنين، بالإضافة إلى تداول السلطة، وسيطرة أحكام القانون والمساواة الكاملة. ومن ناحية أخرى لا بد من توافر مؤسسات للحكم الديموقراطي في شكل مجالس نيابية وأحزاب سياسية، كما أنه لا بد من الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. وأصبحت الآن مؤسسات المجتمع المدني من ضرورات النظم الديموقراطية بالإضافة إلى الصحافة الحرة. وبالإضافة إلى التحول الديموقراطي لا بد من تحقيق ضمانات الليبرالية وأهمها ضمان الحقوق والحريات العامة وتحقيق الشفافية والمحاسبة والمساءلة. بعبارة مختصرة فالمهمة التاريخية الملقاة على عاتق الدول العربية كافة، ومهما اختلفت نظمها السياسية هي السعي لتأسيس الدولة الحديثة التي عجزنا عن إقامتها منذ عصر النهضة العربية حتى الآن. ومعنى ذلك أن محاولات تحديث المجتمع لن تغني إطلاقا عن ضرورة تحديث الدولة. * كاتب مصري.