تسليطُ الأضواء على أزمة التعايش الحذر في لبنان، وبذلُ الجهود المضنية لإثباتها وفهمها، مهربٌ جيد للكتاب العرب الذين يلوذون بمناخ الحرية اللبناني، للتملّص من مقاربة كوارث التعايش الحذر في بلدانهم، فضلا عن ذلك، فإنّه يوفّر فرصة قرع النواقيس هنا وهناك، في العالم ذي الأكثرية العربية، ويفتح كوى للمتعايشين بحذر على امتداد هذه البقاع"لتتنفس وعيا وتجارب وخبرات ومرارات لا نهاية لها. فالصراعات اللبنانية اللبنانية على الحصص والمغانم، لم تفتح بوابات الجحيم في السنوات الماضية على الأهلين فقط، بل فتحت أبواب البحث والتأمل وحصاد العبر أيضا. ولكنّ أسوأ ما في هذه الظاهرة، أنّ الشفقة التي يبديها هؤلاء الكتّاب تجاه لبنان، تحتجز خلفها صمتا مقلقا عن الأسباب الحقيقية لعجز المجموعات العرقية والدينية عن الاندماج في هيكلية فوق قبلية، في منطقة أصبحت الأكثر تخلفا في العالم، والأكثر عرضة للتفتت في ظلّ صراعات دولية للتنافس على تبعيتها، فالانهماكُ في الشأن اللبناني والمواظبةُ على ذرف الدموع لا يحجبان المناطق الوعرة في البحث فحسب، بل يوفّران للفتن في لبنان أرضا خصبة"لتتحول عليها حقا إلى لحظات تنفيسية عما لا يحدث من فتن في ما يتعارف عليه البعض أنه دول شرق أوسطية بفعل اعتقال هذه الظاهرة قيد الاستخدام في تلك الدول، وتحكّم أولي الأمر بمواعيد إطلاقها. والتأزمُ الأهليُّ في لبنان قادرٌ للأسف على الانزلاق إلى كوارث، والمكبوتُ الأهليُّ في باقي الشرق الأوسط يتراكم، وساعات الانفجار اللبناني هذه تؤجل انفجارات المكبوت ذاك، كلّ مرّة، وإلى أن يقرر اللبنانيون أن ينأوا عن هذا المحيط المسموم بلون من المحايدة يتفقون عليه، ليصطرع الجميع، ويهدأ وطنهم، فإنّ أحدا لن يستطيع تخمين ساعة الانفجار الوشيك القادم. ولكنّ المؤسف حقا، أنّ ذلك متعذّرٌ تماما، لا سبيلَ إليه اليوم أو غدا، ومهما توهم اللبنانيون أنّ انتفاضة الرابع عشر من آذار تستطيع فرض هذه المعادلة، فالحق أنّ احتفاظ جماهير تلك الانتفاضة بقياداتها السياسية التاريخية التي ترتبط هنا وهناك، لن يساعدَها على توفير فرص حقيقية لتحويل الأحلام الصعبة إلى وقائعَ سياسية على الأرض، الأمر الذي يطرح بعناد على اللبنانيين قبل غيرهم، ذلك الارتباطَ الوثيق بين فئاتهم وقادتهم، ودورَ هذا الغرام المشبوب في إسقاط الآمال الطبيعية وإحباط التحركات جميعا"ليتدبروا الظاهرة العجيبة، ويفهموها، فقد يستطيعون توظيفها، بحيث تسفر عن آلية يُضطرُّ القائدُ بموجبها إلى الخضوع لاتجاهات أنصاره ورؤاهم التي أثبتت تفوقها في الرابع عشر من آذار مثلا، لا العكس، وإلى أن يُذهلَ اللبنانيون العالم بتحقيقهم هذا الإنجاز الفريد، فإنّ حكايةَ ارتباطهم بقياداتهم، ستظلّ أعقد من أن تقاربَها مقالة، ففيها من التاريخ، وأسس تكوّن الكيان، والعوامل النفسية، ما يرشّحها لتكونَ حجر الأساس في فهم المشهد اللبناني على حقيقته. قصارى القول، إنّ جذور التعايش الحذر في لبنان وعموم منطقة الشرق الأوسط تمتد عميقا في التاريخ، وتُقدّم الأمسَ حاملا للغد، على شاكلة مخيفة ومنسجمة مع الفراغ الذي يملأ فضاء الأفراد والمنطقة برمتها، أعني الفراغَ الكثيفَ الذي دَلقَهُ في سمائنا خواؤنا الإبداعي، وتبلّدنا الصناعي والحرفيّ والزراعي والثقافي، ولم يكثّفه حديثا إلا عجزُنا التقني وبلاهةُ تسمّرنا على شاشات الحاسوب مستهلكين مباركين مدهوشين، خائفين مما نتابعه بمحمومية وذهول، قانعين من العالم ومساحاته الرحبة وآفاقه الواسعة بسنتيمترات مكعبة قليلة. وإذا كان الأوروبيون قد وجدوا في المصالح المشتركة دربا إلى اتحادهم الفذّ، فإنّ سكان الشرق الأوسط ومالكي أمرهم وجدوا وحدتهم في أرواحهم المتنابذة ومللهم المتناحرة وأعراقهم المتباغضة، ولما كان للشماليين مصالحُ شتى فضلا عن جنوبهم الذي يتقاسمونه بعناية ساعة تباغضهم، فإنّ للجنوبيين حيلةً لبنانيةً لعينةً تسمح لهم بتفجير قنابلهم العاجلة في لبنان، وإعادة برمجة وتوقيت صواعقهم الآجلة ليفجّروها لاحقا، على أرضه أيضا. أقصد لبنانَ فحسب، فالعراقُ يصطرع ذاتيا، والهدوءُ سيعود إلى التراب العراقيّ عاجلاً بصفقة سياسية أفضل لبعض من يجد نفسه قد تهمّش، أو آجلاً بفدرالية فيها من التقسيم أكثر مما فيها من الائتلاف، وفيها من الرضا التاريخي والنفسي والاستراتيجي المحكوم بحُسن تقسيم المغانم والمغارم أكثر مما فيها من القلق والتوتر الناجمين عن ضبابية خدعة"ضرورة"الحفاظ على"الوحدة العراقية"والحرص على"تماسك"التراب العراقي. أما فلسطينُ، فيتقاتل فيها الفريقان على خيارين سياسيين، يشقّان الأرض والقضية والتاريخ، ويتوزعُ حولهما غالبيةُ سكّانُ الشرق الأوسط، خاضعين لعسف سؤال واحد، لا براءة في كلماته، ولا صدق في ترتيبها السياقيّ"هو: أنطرد إسرائيل بالمقاومة المسلحة؟ أم نحتويها في هذا الشرق الذي لم يألفها بعد بمفاوضات سلمية صرف؟؟ والسؤالُ المقنّعُ ببراعة، صاغته رؤى الاستبداد على هذه الهيئة التفجيرية: تواصل الاحتلال اليوم، وحتمية انقشاعه غدا، كلتيهما، ولنا في الهدنة الموّفقة الناجحة، التي عقدها قادةُ حماس بمباركة من رجل السلام الأميركي جيمي كارتر، وفي المفاوضات التاريخية التي تستضيفها الآستانة العلمانية بين السوريين والإسرائيليين، مثالين يصحّ بهما إثباتُ غباء السؤال، أو بالأحرى، تأكيدُ تفاهة الانقسام حوله. عاجلا أم آجلا، سينقشع الانقسام الفلسطيني الحالي، لأنّ المصالح فوق الفلسطينية التي دفعت إلى استيلاد حماس"لترثَ البندقية الفلسطينية وتوحّدَها، وتشطبَ بجرة إيديولوجيا تاريخا صبغته الدماء الفلسطينية والإسرائيلية تارة، وتؤزم بالمفرقعات الجهودَ التفاوضيةَ التي تُوّجت بأوسلو وافتتحت مسارا جديدا مختلفا للصراع تارة أخرى، تلك المصالح التي استخدمت البندقية قبيل أوسلو، وبعده، لغايات إقليمية ودولية، ستتخلى عنها، عندما تنضج الصفقة الأميركية الإيرانية، وينجلي الحجمُ الذي سيعترف به الغربُ لإيران، ويرسم حدود الدور الذي سيسند إلى هذا الشرطي الجديد. أما لبنانُ، فسيبقى هنا، يتوترُ قبلَ الصفقة، وتُزْهَقُ أرواحُ أبنائه قُبيلَها، ويحتقنُ بُعَيدَها، لينفجرَ ويقدّمَ المزيدَ من قرابينه بعدَها. * كاتب سوري