منذ بداية القرن الواحد والعشرين، تغير اهتمام روسيا بأوروبا، وبالسياسة العالمية تغيراً جذرياً. فحاجة الدولة الى توسيع مساحتها، أو زيادة عدد المزارعين، انتفت. ورفعت القيود عن هجرة البشر من بلد الى آخر، على رغم القيود على حركة الهجرة في مناطق النزاعات والحروب المحلية. وبدا أن حاجة أوروبا الى روسيا، والى النفط والغاز الروسيين، تفوق حاجة روسيا الى أوروبا. ولكن روسيا تحتاج حاجة ماسة الى التكنولوجيا الأوروبية المتطورة. ولذا، فهي تمد جسور التعاون مع أوروبا. وأنجز مشروعان من أضخم مشاريع ضخ الطاقة من روسيا الى أوروبا، وهما مشروع"الخط الشمالي"، وهو يمر ببحر البلطيق، ويمتد من فيبرغ الى غرايغفالد، ويضخ 55 بليون متر مكعب سنوياً. ومشروع"الخط الجنوبي"، ويمتد من البحر الأسود ونوفوروسيسك الى فارنا البلغارية، ويضخ 30 بليون متر مكعب في السنة. ويطيح المشروع الفائدة الجيو - استراتيجية المرجوة من إنشاء خط أنابيب الغاز،"نابوكا"، الذي تدعمه الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي للحد من الاعتماد على الغاز الروسي. وينقل خط"نابوكا"الغاز من بحر قزوين، عبر القوقاز، الى تركيا، ومنها الى غرب أوروبا. ومن المفترض أن يبدأ تشغيل هذا الخط في 2013. وأما شبه جزيرة القرم، وهي لم تعد أرضاً روسية بل هي أرض اوكرانية. وهي في مثابة قاعدة الاسطول البحري الحربي الروسي. وطالب الاوكرانيون، في مطلع تسعينات القرن الماضي، الاسطول بمغادرة شبه جزيرة القرم، تمهيداً لجعلها منطقة اصطياف وسياحة. ولوح الروس بإقرار حكم ذاتي في المناطق السوفياتية السابقة، وبالخصخصة، والحدود الادارية الشكلية والمشروطة. وأسهم هذا في انتقال أوكرانيا الى المعسكر المناوئ لروسيا. ويبدو أن روسيا قد تتورط في أزمة البلقان. وقد ترغب في الاضطلاع بدور في منطقة البحر المتوسط. ومن المتوقع أن يتراجع دور منطقة القرم السياحي والاصطيافي، اثر انتخاب منطقة سوتشي، وهي محاذية للقرم، موقعاً للألعاب الأولمبية في 2014. وترتقي سوتشي الروسية مركزاً سياحياً عالمياً. ومن المتوقع أن تفضي زيادة الاقبال على سوتشي الى انخفاض مداخيل الخزانة الاوكرانية وسكان القرم. ويقابل تراجع دور القرم السياحي تعزيز دورها قاعدةً استراتيجية للاسطول الحربي الروسي. ومن المفترض أن ينتقل الاسطول الى نوفورسيسك الروسية، في 2017. ولا يخلّ انضمام جورجياوأوكرانيا الى حلف الناتو، وانضمام اسطوليهما الى الاسطول التركي، بميزان القوى الراهن، على رغم تغير طفيف. وأوكرانيا، بمحاذاة الحدود الروسية، هي مسرح اللعبة الاستراتيجية والنزاعات العسكرية المحتملة. ويشبه وضع أوكرانيا وضع آسيا الوسطى في أثناء حرب الثورة الروسية على العصابات المعادية لها. ومع انتقال اهتمامات روسيا الجيو - اقتصادية الى أوروبا الجنوبية، بعد انشاء"الخط الجنوبي"، لم تعد أوكرانيا مجالاً أثيراً لرجال الاعمال الروس ومصالحهم. ولا تعرض أوكرانيا سلعاً ضرورية للسوق الروسية. ويفوق سعر الفحم الأوكراني المستخرج من دونيتسك، أسعار الفحم الكلوزباسي الروسي. وليس في مستطاع أوكرانيا التحرر من تبعيتها لروسيا في مجال الطاقة، ولا الانفكاك من دائرة النفوذ الثقافي الروسي. والبلقان هو مدار اللعبة الرئيسة الروسية. وقد تكون اوكرانيا رهينة هذه اللعبة. فهي"منطقة تماس"بين المخططات الأوروبية والمخططات الأوراسية النقيض. وتلتقي مصالح روسيا وأوروبا على الاستغناء عن الوسطاء الاوكرانيين في عملية نقل الغاز من قاع البحر الاسود. والحق أن روسيا تولي مشكلة كوسوفو اهمية استراتيجية. فإقليم كوسوفو هو قاعدة مثالية لتوجيه ضربات عسكرية الى أهداف معينة في الشرق الأدنى. وفي مقدور قوة الولاياتالمتحدة الضاربة، ويقدر عدد قواتها بعد سحب جيوشها من أفغانستانوالعراق ب 300 ألف جندي، السيطرة على الطرق الجنوبية لجر موارد الطاقة الى أوروبا من الشرق الادنى ومن منطقة ما وراء القوقاز عبر تركيا وقناة السويس، ومن بلغاريا والبلقان. وتجني الولاياتالمتحدة من هذه السيطرة مكاسب جيو - استراتيجية واقتصادية كبيرة. وقد تتجاوز الولاياتالمتحدة القوانين الدولية، وتجازف في بعث النزعة الانفصالية في كثير من بلدان اوروبا الغربية في سبيل بسط سيطرتها. وقد تلجأ روسيا في مواجهة سياسة الولاياتالمتحدة التوسعية الى بعث الحركات الانفصالية في بلدان الاتحاد السوفياتي السابقة، مثل الدُنباس والقرم في اوكرانيا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا، وبريدنيستروفي في مولدافيا. ويبدو ان التحرك بدأ في هذا الاتجاه. وفي جعبة روسيا ذرائع استراتيجية تبرر مثل هذه السياسة. فأوكرانيا البرتقالية أعلنت رغبتها في الانضمام الى حلف شمال الاطلسي، والى استظلال مظلته وحمايته. ولكن عضوية أوكرانيا في ال"ناتو"تتهدد امن روسيا الوطني. وتستدرج تركيب أوكرانيا الداخلي روسيا الى دعم الحركات الانفصالية في أوكرانيا. ولكن روسيا لا تملك أمر تحديد مجرى الامور والبت فيها على خلاف رئيسي أوكرانياوجورجيا. وفي وسع روسيا اللجوء الى وسائل اخرى لثني جورجياوأوكرانيا عن الانضمام الى ال"ناتو"، على غرار تعويق تدفق موارد الطاقة الى أوكرانيا وغيرها. وفي اللحظة الحاسمة، لا ينسى الروس الصاروخ الباليستي الذي أطلق من القطب الشمالي؟ وروسيا سلحت جيشها بمجموعة من الصواريخ الحديثة المتطورة. ونحن لا ننسى ان الولاياتالمتحدة يسعها حماية اسرائيل من سلاح المقاتلين العرب المتواضع. ومنذ تبوأت الولاياتالمتحدة مكانة الدولة العظمى الوحيدة في العالم، لم تنقطع عن إثارة القلق في المجتمع الدولي. فهي بادرت الى قرارات سياسية واستراتيجية لا تخلو من الركالة. وخاضت مغامرات في العراقوأفغانستان، وتورطت في أزمة البلقان، وانتهجت سياسة استمالة الدول السوفياتية السابقة إليها. وهذه المغامرات لا تتعدى العبث قياساً على إطاحة النظام العالمي المستقر غداة الحرب العالمية الثانية، وإلغاء معاهدة هلسنكي. ولكن يظهر ان روسيا تجاوزت آثار تدمير المد الجيو - سياسي الأوراسي. ونشأت أنظمة تابعة وعميلة صغيرة في اوروبا الشرقية والجنوبية. وعلت أصوات الحركات الانفصالية في معظم بلدان العالم. وفي حال تمكنت الولاياتالمتحدة من تقويض فاعلية اسطول البحر الاسود الروسي العسكرية والسياسية، فهل ينبري الاسطول السادس الأميركي، أو الجيوش التي تتخذ كوسوفو قاعدة، الى مواجهة الاسلاميين؟ وهل نعلم ما ينتظر أوروبا في الألفية الثالثة؟ وهل نتذكر ما جرى في 1934 - 1939؟ ونحن نتمنى ان تبعد أوروبا نفسها من الكأس المرة هذه. عن رومان مانيكين ، "بوليتيشيسكي كلاس" الروسية، 7/2008