قبل ثلاثة عقود أو نحوها قال نزار قباني: "من أين يأتي الشعر حين نهارنا قمع وحين مساؤنا ارهاب والحكم شرطي يسير وراءنا سرّاً فنكهة خبزنا استجواب". كان نزار يائساً من أمته حزيناً، وعبّر عن خلجات نفسه كما لا يستطيع غيره، إلا أن شيئاً في قصيدته المشهورة في قرطاجة أعادني 70 سنة الى الوراء. نزار قال أيضاً: "لا تخذليني إن كشفت مواجعي وجه الحقيقة ما عليه نقاب". هي مواجع قديماً وحتى اليوم، والكلمة جعلتني أبحث عن بيتين من الشعر للمناضل الفلسطيني عبدالرحيم محمود، وكان من المجاهدين، فهو قال وقد زار القدس أمير عربي سنة 1935 كان الأمير سعود بن عبدالعزيز، الملك في ما بعد: "يا ذا الأمير أمام عينك شاعر ضُمّت على سودِ المواجع أضلعه المسجد الأقصى أجئتَ تزوره أم جئتَ من قبل الضياع تودعه". عبدالرحيم محمود استشهد سنة 1948، وهو توقع ضياع فلسطينوالقدس والمسجد الأقصى قبل أن تضيع، والمواجع مستمرة مع زعماء فلسطين، فلا أملك سوى بعض الشعر اليوم لأنني قلت رأيي في"الاخوان"بصراحة قبل أيام، وقسوت عليهم كما يستحقون. كتبت غير مرة عن شاعر فلسطين الذي أعرف، ابراهيم طوقان، وأسجل له من جديد بيتاً مشهوراً يخاطب فيه زعماء فلسطين: "في يدينا بقية من بلاد/فاستريحوا كي لا تطير البقية". هم لم يستريحوا وطارت البقية، وطار اليوم الأمل، فلا يبقى سوى قول ميخائيل نعيمة: "أخي من نحن؟ لا وطن ولا أهل ولا جار اذا نمنا، اذا قمنا، ردانا الخزي والعار لقد خمّت بنا الدنيا كما خمّت بموتانا فهاتِ الرفش واتبعني لنحفر خندقاً آخر نواري فيه أحيانا أي أحياءنا". وأعود الى ابراهيم طوقان الذي قال يوماً: "حبذا لو يصوم منا زعيم/ مثل غاندي عسى يفيد صيامه لا يصوم عن طعامه في فلسطين/ يموت الزعيم لولا طعامه". لذلك فهو يقول عن زعماء فلسطين: "هزلت قضيتكم فلا لحم هناك ولا دم". قبل كل هؤلاء بألف سنة قال المتنبي: "غيري بأكثر هذا الناس ينخدع إن قاتلوا جبنوا أو حدثوا شجعوا". غير أننا خدعنا ولا نزال، وكان ايليا ابو ماضي قال عن زعماء لبنان كلاماً يصح أيضاً عن النوع الرديء بين الفلسطينيين. "ما اتعظتم بالسنين البارحة/ لا ولا أنتم غداً متعظون يا لهول الخطب يا للفادحة/ أمة تفنى وأنتم تلعبون". هم لا يلعبون فقط، وإنما يقتلون، والضحية هذه المرة هو الفلسطيني وقضيته. أسوأ ما في الوضع الحالي انه قضى على الأمل بتحرير بعض الأرض، وعودة بعض أهلها، والأمل كان كل ما بقي لنا كما قال الطغرائي في"لامية العجم": "أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل". حتى الأمل في الصدور خنقوه، ورحم الله نزار قباني الذي رحل عنّا قبل عشر سنوات وهو يطوي جناحه على بعض الأمل بأطفال الحجارة، فقال: "يا تلاميذ غزة علمونا/ بعض ما عندكم فنحن نسينا علمونا بأن نكون رجالاً/ فلدينا الرجال صاروا عجينا علمونا كيف الحجارة بين/ أيدي الأطفال تغدو ماساً ثمينا يا تلاميذ غزة لا تبالوا/ بإذاعاتنا ولا تسمعونا اضربوا اضربوا بكل قواكم/ واحزموا أمركم ولا تسألونا قد صغرنا أمامكم ألف قرن/ وكبرتم خلال شهر قرونا أعطرونا بطولة وشموخا/ واغسلونا من قبحنا أغسلونا الصغار راحوا كما راح عبدالرحيم محمود وبعده وابراهيم طوقان ونزار قباني، وبقي زعماء قال في مثلهم الشاعر الصحابي الجليل حسان بن ثابت: "لا بأس بالقوم من طول ومن عرض جسم البغال وأحلام العصافير". ويحضرني قول ابن الوردي في"لامية العرب": "قيمة الانسان ما يحسنه/ أكثر الانسان منه أو أقل". وأدرك أن زعماءنا لا يحسنون الأمر الذي انتدبوا أنفسهم له، فعلى أيديهم انتهى كل شيء. مع ذلك أرى الفلسطينيين منقسمين بين هذا الفصيل وذاك كأن أحدهما أفضل من الآخر، فأعود الى ابراهيم طوقان: "فإلى متى يا ابن البلاد/ وأنت تؤخذ بالحماسة والى متى زعماء قومك/ يخلبونك بالكياسة ولكم أحطنا خائناً/ منهم بهالات القداسة ولكم أضاع حقوقنا/ الرجل الموكل بالحراسة". لو عمل الفلسطينيون بما قال ابراهيم طوقان يوماً: ان قلبي لبلادي/ لا لحزب أو زعيم، لربما كنا أفضل حالاً اليوم. ولعل الكارثة المستمرة، هي ما جعلت قلب محمود درويش يخذله فمات الذي قال عن نفسه"سجّل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألفاً"، شريداً غريباً كما عاش.