الجامع مزدحم بالمصلّين يُؤدون صلاة العصر. هكذا تُوحي الإضاءة في اللقطات الأولى للفيلم، نرى فيها رجلاً لا تُلفت ملامحه النظر في شيء وهو يُصلّي وسط الجمع. يُنهي صلاته مسلِّماً ناحية اليمين ثم ناحية اليسار في بطء، ويقوم. يسير في الشارع بخطوات حريصة. يستقل سيارة"ميكروباص". قبل أن يهبط منها أمام مبنى أبيض يخلع الطاقية البيضاء عن رأسه ليضعها في حقيبة اليد. يدخل من باب المبنى أمام الحارس ويجتاز صالة واسعة خالية من الناس أسقفها وجدرانها قرمزية اللون. في الصالة عشرات المناضد والمقاعد المنكفئة عليها، وبار تلمع من ورائه زجاجات الخمر. يُحيي"البارمان"المائل عليه ويتجه إلى غرفة صغيرة خلفية يخلع فيها ملابسه، ويرتدي بنطالاً وسترة سوداء اللون وپ"بابيون". إنه أمين، النادل الممثل أحمد بدير الذي يقوم بخدمة المترددين على هذا الكباريه الذي يعمل فيه. في شقة صغيرة للغاية تقوم امرأة شابة تدعى نهلة جومانة مراد برعاية أمها المريضة والكبيرة في السن نادية رفيق. تُحممها وتغسل شعرها، تُجففها ثم تساعدها على ارتداء الجلباب، وعلى الرقاد في السرير. تضع مذياعاً صغيراً إلى جوارها لتستمع إلى تلاوة القرآن الكريم. بعد ذلك ترتدي عباءة وطرحة سوداء وتنطلق إلى الشارع في الحي الشعبي الذي تسكن فيه حيث تنتظرها سيارة جيب يجلس خلف مقودها رجل مفتول العضلات، يرتدي نظارات سوداء، حليق الرأس تماماً، غليظ الملامح يبدو كالبلطجي، سنعرف اسمه فرعون، يقوم بدوره محمد لطفي. يتجه فرعون بنهلة إلى الصالة التي سبقها إليها النادل أمين حيث سيتبين لنا انها تعمل راقصة، مُخفية هذه الحقيقة عن أمها، وعن سكان الحي. هكذا يبدأ فيلم"كباريه"، بداية نتعرف فيها بالتدريج على مختلف الرجال والنساء الذين يعملون في الكباريه، أو تقودهم خطواتهم إليه. صاحب الكباريه الحاج فؤاد صالح صلاح عبدالله الذي ورثه من أبيه هو وشقيقه خميس الملقب بالأعرج لأنه مُصاب بعرجة شديدة في ساقه اليمنى الممثل ماجد الكدواني، لكن الحاج"فؤاد"استولى على نصيب شقيقه مستغلاً كونه سكيراً لا يفيق ليُصبح المالك الوحيد يأمر فيُطاع. رجل طاغ بلا ضمير، قواد يُراكم أمواله من تشغيل النساء بغايا، ومن أنشطة أخرى غير مشروعة. يُعين شقيقه خميس عاملاً في دورات المياه، ويفرض عليه البقاء فيها، في جوها المظلم الكئيب. يتصرف مع العاملين بقسوة. يطرد فرعون الحارس البلطجي لأنه يفشل في صد هجوم عدد من البلطجية على الكباريه أرسلهم رئيس عصابة منافسة، هذا على رغم أن الرجل من أبطال حرب تشرين الأول أكتوبر عام 1973، فقد فيها صديقه، وأُصيب بجروح، وبعاهة جعلت صوته قبيحاً، وعلى رغم أنه لا يملك مصدراً آخر يقتات منه. يرفض إعطاء سعد، جامع النقوط علاء مرسي مبلغ ألف جنيه لتسديد مصاريف ابنته في المدرسة، بينما هي مُهددة بأن تُفصل منها إذا لم تقم بتسديدها. مع ذلك يرتدي الحاج فؤاد مسوح الرجل الصالح الذي يقوم بالعمرة سنوياً، ويمتنع عن شرب الخمور، أو تعاطي المخدرات التي يُتاجر فيها. يعج الكباريه بالشخصيات السطحية الفاسدة، المطرب الفاشل بلعوم خالد الصاوي صاحب الصوت العاجز عن أداء أي شىء يُطرب الآذان، المغرور الذي يعيش من أموال تُغدقها عليه امرأة عراقية ثرية اسمها أم حبشي هالة فاخر. عندما ينكشف فشله أمامها تستبدله بمطرب شاب اسمه أبو السعود. يُوجد أيضاً زبون خليجي يرتاد الكباريه بحثاً عن صيد نسائي مقابل مئتي دولار، فيُحاول إغراء فتاة دنيا سمير غانم أقنعتها"نهلة"بالعمل معها في الكباريه بعد أن هربت من تحرش زوج أمها بها. حزام ناسف من بين الشخصيات شاب يتسلل إلى الصالة مرتدياً حزاماً ناسفاً فتحي عبدالوهاب أرسله رئيس منظمة إرهابية ليُفجر الكباريه بمن فيه. يفشل في تفجير الحزام فيتجرع زجاجات متتالية من البيرة إلى أن يفقد وعيه. يصطحبه النادل أمين إلى الحمام ليتقيأ ما فيه. يجلسان سوياً ويدور بينهما الحديث. يُلقي الشاب عليه خطبة وعظية طويلة بعد أن أفاق فجأة على الحقيقة ليتحول سريعاً من إرهابي إلى واعظ أمين. يُقنع الرجل الطيب بأن يترك بؤرة الفساد التي يعيش فيها، أن يُضحي بمرتب الألفي جنيه الذي يتقاضاه شهرياً، فهو يستطيع أن يكتفي بمبلغ خمسمئة جنيه مثلاً لأنه اتبع طريق الهدى وستحل عليه البركة بل ويدخر منها ما يفيض. إضافة إلى كل هؤلاء يُوجد عريس"عبيط"يحتفل بزفافه مع عروسه، لا نعرف لماذا في"الكباريه"، فيمدّه أصدقاؤه، وبعض عابري السبيل، بجرعات متتالية من المخدرات والحبوب المختلفة لتنشيط قدراته، ما يُؤدي به بدلاً من ذلك إلى قضاء الليلة في حال من الغيبوبة. على سطح الشخصيات "كباريه"فيلم آخر عن الفساد، لكنه لم يُضف شيئاً لما يراه، ويسمعه، ويعرفه، ويعيشه الناس في مصر منذ سنين. الفارق الوحيد هو أنه استبدل الأحياء الشعبية والمناطق العشوائية بكباريه. ربما ليبدو الفساد أكثر تركيزاً، وليُشنف آذان الجمهور بسلسلة من الأغاني الهابطة، وليُمتعهم بلقطات لا تنتهي لبطون، وأفخاذ الراقصات، وبلقطات من مختلف الزوايا لوجوه الرواد وأجساد النساء. مدة الفيلم 135 دقيقة بدت مفعمة بالضجة، والأصوات العالية، والتمثيل الميلودرامي العاجز عن تحريك العواطف أو الأحاسيس. كل هذا من دون أية محاولة للغوص في أعماق هذا العالم الحافل بالظلمات والتناقضات والمآسي الحقيقية الذي تُضيئه أحياناً لحظات من النور، من الإنسانية، والصدق الحقيقي. لم تكن هناك محاولة للتعامل مع أشخاصه على أن فيهم أعماقاً قد تتعدى الظاهر الخارجي. السيناريو الذي كتبه أحمد عبدالله للفيلم الذي أخرجه سامح عبدالعزيز يمر على جميع الشخصيات مرور الكرام ربما ما عدا صاحب الكباريه الحاج فؤاد صالح الذي بُذلت في ما يتعلق به محاولة للتنقيب قليلاً تحت السطح. أما بقية الشخصيات فظلت كما هي تُكرر كلامها، وحركاتها من دون أدنى تغيير. فخميس الأعرج مثلاً يظل طوال الفيلم يحتسي زجاجات من البيرة، ويتعارك مع شقيقه ليترك الحمام ويعود إلى عمله في الصالة. المطرب الفاشل بلعوم ينفجر غاضباً طوال الفيلم مع زوجته التي تطلب منه الطلاق بسبب حياته الفاسدة أو ضد التلفزيون الذي لم يُظهره في المستوى الذي يُريده، أو ضد الشركة التي تعاقد معها لإنتاج ألبوماته، أو لأنه لا يلقى التقدير الذي يستحقه على رغم صوته الجميل. الثريّة العراقية تُدخن الشيشة، وتتأمل عشيقها المطرب بإعجاب، أو تُطيّب خاطره عندما يثور، ثم تتركه فجأة لترقص مع المطرب الشاب أبو السعود عندما يأفل نجمه. نهلة تظل راقصة في الصالة تجلس مع الرواد وتنهار باكية صارخة عندما يأتون لها بجثة أمها التي توفيت فوضعها سكان الحي في النعش وراحوا يبحثون عنها في كل مكان إلى أن اهتدوا إليها من طريق أحد العمال في الكباريه. لم تكن هناك حاجة إلى براعة في التمثيل بسبب المعالجة السطحية لشخصيات الكباريه والتكرار المستمر في الأداء الذي قاموا به. الشاب الإرهابي بدا خوفه وتردده مفتعلين، لا يُقنع أحد بخطورة المهمة التي أقدم على القيام بها. مأساة خميس الأعرج لم تُؤثر في أسلوبه، في تمثيله للبؤس الذي يعيشه. أما بقية الممثلين فلم تحتج أدوارهم إلى براعة، خصوصاً في التمثيل. ترويج للفكر السلفي خرج الجمهور بعد مشاهدة الفيلم سعيداً. كان من الواضح أنه استمتع بما دار أمامه، فعلى مر السنين تشكل ذوقه الفني، وإدراكه للواقع بما يتفق مع هذا النوع من الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية. تعود التسلية السطحية التي تُريحه من هموم الحياة من دون أن تُنقب في أعماقها، لكن المشكلة الأخرى في هذا الفيلم إلى جانب مستواه الفني هي أمور تتعلق بالفكر والثقافة التي انطبع بها. فعندما أرسلت المنظمة الإرهابية رجلاً ثانياً لتفجير الكباريه، كان الشخص الوحيد الذي نجا من الموت هو النادل أمين. لقد غادر الكباريه قبل وقوع الانفجار، فهو بعد حديثه مع الشاب الإرهابي قرر أن يترك عمله فوراً حتى وإن أدى هذا إلى فقدانه مرتبه العالي نسبياً .اختار أن يعيش الفقر لأن قروشه ستنال البركة التي ستحميه. وفي هذا المشهد علت أصوات الاستحسان تعبيراً عن الرضا الذي أحس به الجمهور. يُضاف إلى ذلك أن تفجير الكباريه في حد ذاته أعطى انطباعاً عن الحركة الإرهابية بأن أهدافها تنحصر في مقاومة الفساد من دون أن يكون لها أي أغراض سياسية. هكذا قام الفيلم بالترويج لأفكار ذات طابع متخلف، يُحبذ قبول الفقر، وفكرة القدر ومفاهيم أخرى من هذا القبيل ما يتفق مع دعوات الحركة السلفية. لم يخرج الفيلم إذاً عن قول ما اعتاده الناس وأصبحوا يعيشونه في مجتمع يجمع بين الفساد والتدين السطحي، وهي حقيقة لم نكن في حاجة إلى فيلم لنتعرف عليها. الغريب في الأمر أن هذا الفيلم نال تقديراً فنياً حماسياً شمل السيناريو، والإخراج، والتمثيل وحتى التصوير، على رغم أن اللقطات في غالبيتها لم تخرج عن الانتقال المستمر بين وجوه الموجودين في الكباريه أو بين الأجساد التي كانت تتمايل في الرقص المستمر، هذا من جانب نقاد للسينما كبار وكأن مشكلة التذوق والوعي الفني انتقلت من الجمهور الذي انتشرت فيه الثقافة السطحية والسلفية إلى الذين كان من المتوقع منهم أن يتنبهوا إلى ما يعيب هذا الفيلم. وأنا أسير على قدميّ عائداً إلى البيت جاءني خاطر، أن صاحب السيناريو والمخرج يملكان موضوعاً غنياً بالإمكانات يستطيعان من خلاله أن يتعمقا في حياة ونفوس وظروف والمآسي الإنسانية لدنيا الكباريه، أن يُصورا لنا ما يُؤدي بالإنسان إلى الانحدار وقبول الأوضاع السائدة في الكباريه، كأن موضوعاً مملوءاً بالاحتمالات الفنية للإبداع السينمائي، أفلت من بين أيديهما، فلماذا يا ترى؟ * كاتب وروائي مصري