في أسبوعين متواليين سار كلٌ من الرئيسين السوري والإيراني على خُطى الآخر. فالرئيس بشار الأسد، وبعد أيام على قدومه من فرنسا، مضى الى طهران ومن هناك الى أنقرة. أما الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد فقد ذهب قبل أربعة أيام الى اسطنبول، ومن هناك مضى الى دمشق. في باريس بدا أن لدى الرئيس الأسد الكثير مما يمكنه أن يعطيه أو يُسهم به، أو أن الفرنسيين أرادوا اعطاءه الانطباع بذلك. فبالإضافة الى "تطبيع" العلاقات مع لبنان، تحدثوا اليه عن التوسط بين ايران والمجتمع الدولي!. وقد مضى بالفعل الى ايران بعد أيام على عودته من باريس، لكنه بالتأكيد ما قال شيئاً عن الوساطة بين ايران وأوروبا أو السداسية. فهناك كان همه تهدئة شكوك طهران إزاءه، ليس في مفاوضاته غير المباشرة مع اسرائيل وحسب، بل وفي علاقته "الاستراتيجية" بتركيا الأطلسية. وهناك كالعادة جرى التأكيد على استمرار التحالف الاستراتيجي، وساعدت اسرائيل في تأكيد هذا الانطباع عندما أعلنت عن استمرار سورية طريقاً لدعم تسلح"حزب الله"، وعادت لإجراء مناورات بالجولان للمرة الثانية خلال شهر، معربةً عن مخاوفها من هجوم يقومُ به الحزب انتقاماً لاغتيال عماد مغنية في دمشق، وليس في فلسطين المحتلة! أما في أنقرة فلا شك أن الأسد استعرض مع رئيس حكومتها أردوغان الوقائع لجهتين: المفاوضات مع اسرائيل، والوضع في المنطقة. من الناحية التقنية ما عاد هناك ما يمكن اضافته في المفاوضات، انما المهم والمطلوب الآن توافر الشروط السياسية. فالأسد والاسرائيليون على حد سواء، لا يستطيعون المضي أبعد. الإسرائيليون لضياع حكومة أولمرت، وعدم رضا الولاياتالمتحدة عن المسار مع سورية. والأسد لأنه محتاجٌ الى وقتٍ وزمن لعدة اسباب: انجلاء الموقف بين ايران والمجتمع الدولي، وانتظار تغير الإدارة الأميركية فقد تقبلُ الولاياتالمتحدة في العهد الجديد برعاية المفاوضات، وحل المشكلة مع العرب الكبار السعودية ومصر، والذين يرفضون المسارين السوريين القديم والجديد. وتوضح نتائج زيارة الرئيس اللبناني ميشال سليمان الصعوبات التي تحيط بالوضع في سورية ومن حولها الآن. إذ ان الرئيس اللبناني ما عاد من زيارة دمشق إلا بالوعد المكرر والمقطوع بباريس بشأن العلاقات الديبلوماسية بين البلدين. وهو وعدٌ محوطٌ بتحفظاتٍ كثيرةٍ، من مثل الوقت، وشرط ابقاء المجلس الأعلى اللبناني السوري، وزيارة الرئيس الأسد للبنان. ويبقى الطريق طويلاً وطويلاً جداً ومن ضمن عقباته: المفقودون اللبنانيون، والاعتراف رسمياً بلبنانية مزارع شبعا، وازالة المعسكرات الفلسطينية - السورية على الحدود بين البلدين، والسلاح الفلسطيني ? السوري خارج المخيمات وداخلها، وترسيم الحدود من الشمال الى الجنوب، واعادة النظر في الاتفاقات الموقعة بين البلدين خلال حقبة الوصاية السورية على لبنان! وعلى ذلك كله، فإن المشهد السوري التركي الإسرائيلي اللبناني، يبقى جانبياً في الصراع الدائر بالمنطقة على النووي الإيراني، وعلى تغلغل ايران في المنطقة العربية. فقبل ثلاثة أشهر سلّمت الولاياتالمتحدة ظاهراً بالانضواء في عرض الحوافز الأوروبي - الروسي لطهران. وهو عرضٌ أفقه الأقصى زيادة العقوبات على طهران للمرة الثالثة، وقد اتفق الأوروبيون والروس من جهة، والأميركيون من جهةٍ ثانيةٍ، على أمرين، واختلفوا على أمرٍ ثالث: اتفقوا على ضرورة الحيلولة دون ازدياد الانتشار النووي، واتفقوا على الطبيعة الخطيرة للبرنامج النووي الإيراني. واختلفوا على الخيارات المتاحة إذا فشلت الديبلوماسية والحوافز. فالأميركيون ما أرادوا اسقاط امكان الخيار العسكري وهذا الأمر في وجهٍ من وجوهه لطمأنة اسرائيل وضبطها في الوقت نفسه إذا فشلت الديبلوماسية والحوافز. والآخرون يقولون لهم: لا يزال الأمر مبكراً، ولننصرف الآن الى ما هو أهمّ. لكن السلوك الإيراني كان ولا يزال شديد الغرابة، فالمشهور عن الإيرانيين انهم يتبعون سياسة حافة الهاوية، فهل يكون تقديرهم أنه حتى الآن لم يؤن الأوان للدخول جدياً في التفاوض، ومع الأميركيين وليس مع اللجنة السُداسية بكاملها؟ أم ينتظرون أن ينتهي عهد الرئيس بوش، ويأتي غيره وقد يكون أفضل منه؟ انما الموقف صعبٌ عليهم على رغم الاحتمالين السابقين. ففي الشهور الماضية خسروا عماد مغنية، وتبلور اتجاهٌ سوريٌ جديدٌ، ولقوا انتكاسةً بالعراق، واضطر أنصارهم بلبنان لاستخدام السلاح للمرة الأولى علناً بالداخل. واضطر نائب الرئيس الإيراني من جهةٍ ثانية للقول انه إذا تعاونت الولاياتالمتحدة هي وحلفاؤها في الملف النووي فسيرتاح اللبنانيونوالفلسطينيونوالعراقيون، وقد تتراجع أسعار النفط! فالهجوم الإيراني الاستراتيجي تراجع الى مرحلة الصمود، وهذا الصمود تنخره الظواهر السالفة الذكر. فأين هي ايران الآن؟ هل هي في مرحلة الدولة الوطنية التي تريد الحفاظ على مصالحها، أم هي في مرحلة أو موقف المشهد الحُسيني، أي الإصرار على الاستشهاد؟ الدولة الوطنية الإيرانية لا تملك مشروعاً استراتيجياً، بل هي تملك الحق في مدى حيوي، وفي مصالح استراتيجية. وهذا الفهم لدى اللجنة الدولية هو الذي دفعها لتقديم عرض الحوافز، والذي انتهت مدته قبل أسبوعين، من دون أن تُجيب ايران عليه! ومرةً أخرى، هل لا تزال ايران في مرحلة تقويم المصالح والسياسات والأوقات المناسبة، وكيفيات الردّ على التحديات، أم انها غادرت ضفة المتعارف عليه من جانب العالم والعصر الى الضفة الأخرى غير المحددة المعالم؟ كلام رفسنجاني وآخرين ممن نفد صبرهم، يُشعر بأن "عقلية" الدولة الوطنية/ القومية ليست هي الحاكمة الآن أو في هذه المرحلة. ويصر آخرون في إيران وبالخارج على عكس ذلك. وهم يذكرون بما فعله الإمام الخميني عام 1988 حين قَبِل وقف النار مع العراق، رغم قوله إنه أصعب عليه من تجرع السم. لكن ايران كانت وقتها في موقفٍ أصعب من اليوم، ثم ان تقديرات الخميني كانت مختلفة فيما يبدو عن تقديرات خامنئي اليوم. ان الظاهر ان الرئيس الإيراني نجاد لا يزال هو المنفّذ لسياسات خامنئي والنظام الإسلامي، وقد ذهب الى تركيا التي ذهب اليها قبله الرئيس الأسد. الأسد كما سبق القول يريد الاطمئنان، ويعتبر التريث ضرورةً للجميع، أما نجاد فذهب كما ذهب قبله وزير الخارجية الإيرانيمراتٍ ليُقنع الأتراك بحق ايران في النووي السلمي، وليقنع الأتراك الأطلسيين بأن السياسات الأميركية التدخلية هي التي تسببت في كل هذه المشاكل. وربما قال لأردوغان أيضاً ان تركيا تستطيع أن تلعب دوراً في تقريب وجهات النظر بين الدولتين. وعند أردوغان الكثير مما يأخذه على السياسات الأميركية خلال السنوات الماضية، ورغم التحالف مع الأطلسي فإن تركيا - شأنها في ذلك شأن الأوروبيين والروس - ما قبلت بالتدخل العسكري الأميركي في العراق، بعكس ايران التي صمتت صمت الموافقة أو عدم الاعتراض. وإذا كان ممكناً الحديث مع أميركا لعدم استخدام العنف، فإن على ايران أن ترد رداً مقنعاً على هواجس وكالة الطاقة الدولية، كما ان عليها أن تتجاوب مع عرض الحوافز من جانب السداسية. والراجح أن نجاد لم يذهب الى تركيا ليتنازل عن طريقها. فتركيا هي المنافِسة الرئيسة لإيران بالمنطقة، وهي التي تحاول اخراج سورية من القبضة الإيرانية لصالح الأطلسي واسرائيل. فإذا كان الإيرانيون يريدون التنازل والصفقة اليوم أو غداً، فالأحرى أن يستجيبوا لروسيا وللاتحاد الأوروبي وللسداسية. والأحرى أن يستجيبوا في ملفات المنطقة الأخرى للسعودية، فالانحسار السُني العربي بين الولاياتالمتحدةوايران، وخروج سورية من المحور الإيراني باتجاه تركيا، كلا الأمرين لا يتسببان في خسارةٍ لإيران وحسب، بل للعرب الكبار أيضاً. فالسعودية هي مظلة السُنّة العرب، وايران مظلة الشيعة. وايران لا تنافس السعودية على السنة، والسعودية لا تنافس ايران على الشيعة، وكل المنطقة الآن منهمكة في اتصالاتٍ ومفاوضاتٍ وحواراتٍ مع اسرائيل باستثناء السعودية وايران. ثم هناك الشراكة القائمة بينهما في أمن الخليج ولا علاقة لتركيا بذلك. وقد بدا هذا التلاقي أو التقارب واضحاً الى ما قبل عام. وقد تعاون الطرفان من قبل ضمن دول الجوار العراقي، ثم في الخلاف الشيعي ? السني بلبنان، وكانت ايران هي التي بادرت بالجفاء أو عدم الحماس والعودة للضغوط، لأن الاعتبار النووي تقدم لديها على كل ما عداه. وها هي تضطر الآن لمحاسبة تركيا، وفي قضايا حساسة، تبدو تركيا المستفيد الوحيد من ورائها. ولذا فالأوروبيون والروس والسعودية هي الأطراف التي لإيران مصلحة في التعاون معها، وليس للحيلولة دون الضربة وحسب، بل ولفتح المجال لعلاقاتٍ مستقبليةٍ سوية، مع العرب، كما مع الأوروبيين! إن حدَّ السيف هذا والذي تقف عليه الجمهورية الإسلامية الإيرانية الآن، يفرض وعاجلاً أحد توجهين: توجه الدولة القومية ذات المصالح، والتي تريد الحفاظ عليها وتطويرها بعد الجهود والضغوط التي مارستها خلال الأعوام الثلاثة الماضية. أو توجه المشهد الاستشهادي الحُسيني، والذي ستكون له تداعيات وترددات في سائر أنحاء العالم، تصنع لإيران وللمسلمين، ما سبق أن صنعه ابن لادن عليهم وليس لهم! * كاتب لبناني