في ليلة 5 تشرين الثاني نوفمبر 2003، التُقطت صورتان بواسطة كاميرا رقمية، في سجن أبو غريب بالعراق. ويظهر في الأولى شخص يرتدي ما يشبه"بانشو"أسود اللون، وممزقاً، يقف على صندوق صغير. ويستنتج الناظر الى رجليه أو يديه المليئتين بالشعر أن من في الصورة رجل. ويحجب ما يشبه قبعة وجه هذا الرجل، فيبدو رجلاً مصلوباً، أو ساحرة، أو فزاعة تخيف الطيور في الحقول. ويرى الناظر الى الصورة الثانية صورة امرأة تنحني فوق جثة رجل. وجزء من هذه الجثة موضب في كيس أسود مليء بمكعبات الثلج. وشفتا الميت غير مطبقتين الواحدة على الأخرى، وتخفي ضمادات عينيه. والمرأة المنحنية فوق الجثة تبتسم ابتسامة عريضة، وترفع إبهامها ويدها التي يكسوها قفاز أزرق فيروزي. والصورتان هاتان نقلتا صورة عنف منفلت من عقاله. وعلقت سوزان سونتاغ، في صفحات"نيويورك تايمز ماغازين"، على الصورتين، ورأت أنهما مرآة ثقافة أميركا الحقيقية التي تحتفي بالعنف وتسوغه. وعلى خلاف سونتاغ، وأميركيين كثر، ينبّه المخرج إيرول موريس، صاحب الفيلم الوثائقي"ضباب الحرب"، الى أن الصورتين لا تنقلان تفاصيل ما جرى في أبو غريب نقلاً دقيقاً وأميناً. فهو وضع، بالتعاون مع فيليب غورفيتش، كتاباً عن الصورتين. وصوّر فيلماً يدور على وقائع التقاطهما، والأشخاص الظاهرين فيهما. فصاحب الجثة في الصورة الثانية، نقل الى أبو غريب قبل يوم واحد من وفاته، ومن التقاط الصورة. ولم يعرف أحد من العاملين في المعتقل اسم هذا السجين"الشبح". وهو جاء به الى السجن محققون يرتدون زياً أسود، ويعملون في الپ"سي آي إي". وأمر هؤلاء محققي الشرطة العسكرية العاملين في المعتقل برفع يديّ السجين، وتعليقهما بوضعية"الفلسطيني". ويزعم أن القوات الإسرائيلية تلجأ الى هذه الوضعية في تعذيب الفلسطينيين. فلاحظ المحققون أن السجين ميت، وأنه فقد الحياة قبل ساعات. وأعلن الكابتن كريستوفر برينسون أن الرجل أصيب بسكتة قلبية وتوفي. والشابة في الصورة الثانية هي سابرينا هارمن، الحارسة المكلفة، مع زملاء لها، حراسة سجن أبو غريب عند المساء. وفي فيلم موريس، يجمع زملاء هارمن على أنها شابة لطيفة. ويقول السرجنت جافالا دافيس:"لا تسمح بإلحاق الأذى بنملة. ولكن، في حال قتلت النملة، تسارع هارمن الى محاولة معرفة أسباب موتها وظروفه". فهي التحقت بالجيش لتوفر تكلفة دراستها في الجامعة، فرع التصوير الطبي ? الشرعي، أي تصوير الجثث لمساعدة الشرطة على معرفة ظروف الوفاة وسببها. وعندما رأت جثة الرجل"الشبح"سارعت الى التقاط صور له، وقالت مستنكرة لزميلها:"جروح الرجل ونزيف أنفه يدحضان احتمال وفاته جراء سكتة قلبية". ولم تكن تتوقع أن يكذب عليها الضابط، وهي لا تثق به. فأخذ زميلها منها جهاز الكاميرا، وطلب منها الوقوف الى جانب الجثة ليلتقط صورتها. واتخذت هارمن وضعية درجت عليها في كل صورها، سواء التقطت مع الأصدقاء أو في السجن أو في المشرحة. فابتسمت، ورفعت إبهامها. ثم بدأت بالتقاط صور تفصيلية للجثة وقروحها وجروحها. وقالت انها تريد توثيق ظروف وفاته، وقالت انه لم يمت من ذبحة قلبية. ويحسب من يشاهد مقابلة موريس مع الشابة هارمن أنها تكلم نفسها وتناجيها. فصوت موريس لا يسمع في الشريط التسجيلي. وهو يملك موهبة استدراج الأشخاص الى الكلام والاستفاضة فيه. وتقطع مشاهد بصرية تؤدي ما يدور عليه كلام المقابلين المقابلات مع العاملين في أبو غريب، وتنزع صبغة الواقع أو الحقيقة عما يروى. فبحسب موريس، الحقيقة مراوغة لا تستقر على نسخة واحدة أو وجهة واحدة. وأُخذ على موريس أنه لم يحمِّل مَنْ هم ارفع رتبة من هارمن، أو ليندي انغلاند، أو الحارس شارلز غرانر، مسؤولية ما جرى. ولكن موريس سعى في شريطه التسجيلي، وفي كتابه، الى إبراز ما تتستر عليه الصور. ويبدو أن الصور تنقل قصة ما جرى، قبل أن يتبين أنها تخفي وراءها قصصاً أكبر. ويرى موريس أن صور آثار التعذيب على أجساد المعتقلين في أبو غريب هي دليل على أن من أُمر بپ"نزع القفازين"من يديه في التعامل مع السجناء لم يتخفف من الأخلاق، ولم ير أن ما يرتكبه"عادي"وسائر وطبيعي. ولكن موريس غير مصيب في رأيه. فسبق أن التقط النازيون صور نساء عاريات يقفن على مقربة من المقبرة الجماعية. ويفتقر افتراض أن التقاط الصور هو مؤشر الى خروج السجانين على النظام السائد والجائر الى سند له. ولا شك في ان سوزان سونتاغ كانت محقة في إشارتها الى طابع صور أبو غريب الإباحي. وتعمد السجانون الاستعانة بالنساء لإهانة الرجال العرب. وطلب الحارس غرانر من صديقته ليندي انغلاند أن تقود سجيناً بواسطة رسن. ولم تمانع سابرينا هارمن التقاط صورة يقف فيها غرانر امام مجموعة من السجناء العراة المكدسين بعضهم فوق بعض. ويحاكي هذا الضرب من الصور الأفلام الإباحية وصورها. ولا شك في أن هذه الصور، وإلزام السجناء اتخاذ وضعيات حميمة، وتوجيه ضربات خفيفة الى أعضاء السجناء التناسلية، هي جزء من النظام في أبو غريب. وهذا ما حمل الكابتن برينسون على الإشادة بمناقبية غرانر. وعلى رغم أن أفراد الشرطة العسكرية في أبو غريب غير ملمين بالثقافة الشرق متوسطية، تلقوا دورة"توعية ثقافية"في قاعدة"فورت لي"، أُعلموا فيها أن أنجع طريقة لإخضاع سجين عربي هي إذلاله جنسياً. وضللت صور أبو غريب الأميركيين. فهم انشغلوا بطابعها، وبمحاكمة من يظهر فيها، عوض السعي الى كشف المسؤول الحقيقي عن أعمال القتل في أبو غريب. عن ايان بوروما أستاذ في جامعة بارد، وصاحب رواية"عشيق الصين"، "نيويورك ريفيو أوف بوكس"الأميركية، 26/6/2008