مازال معلقون وسياسيون يناقشون نتائج وتبعات الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء التركي طيب رجب إردوغان الى بغداد على رغم مرور اسبوعين عليها. وفي الاعلام التركي تحديدا نافست الزيارة وتبعاتها المحتملة بقوة القضية الطاغية المرتبطة بامكان إغلاق حزب العدالة والتنمية الحاكم. وكنت تابعت عن كثب خلفيات التحضير للزيارة من أنقرة ثم من بغداد يوم تمت، حيث لم يُستقبل زعيم أجنبي زار عراق ما بعد صدام بحفاوة تضاهي الحفاوة التي حظي بها إردوغان، والتي قزّمت الاستقبال الذي حظي به محمود أحمدي نجاد رئيس جمهورية ايران الاسلامية التي يُفترض أن الغالبية الشيعية الحاكمة في العراق أخلص حلفائها. وفي حفلة العشاء التي اقامها الرئيس العراقي جلال طالباني على شرف إردوغان كان واضحا مدى سرور المضيّف والضيف بما حدث خلال الزيارة التي استغرقت يوما كاملا وبكل ما أسفرت عنه. رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي فعل ما لم يفعله لأي زائر رسمي سابق لبغداد. إذ استقبل شخصيا نظيره التركي ووفده الرسمي المؤلف من نائبه وعدد من كبار الوزراء والمستشارين وخبراء وزارة الخارجية في مطار بغداد الدولي وسط مراسم الحفاوة الرسمية، ومن المطار انتقل الجميع في قافلة طويلة من السيارات برفقة حراسات عراقية بحتة الى مكاتب رئيس الوزراء في المنطقة الدولية المعروفة ب"الخضراء". هناك وقع إردوغان والمالكي اتفاقا للتعاون الاستراتيجي وعقدا مؤتمرا صحافيا مشتركا. وبعد غداء على مائدة المالكي زار إردوغان نائبي رئيس الجمهورية، عادل عبد المهدي وطارق الهاشمي، كلا على حدة، ثم توجه الى المقر الرسمي لرئيس الجمهورية الكائن في الجادرية خارج"الخضراء". وفي وقت متأخر بعد العشاء قرر المالكي شخصيا مرافقته، في موكب مماثل لموكب الاستقبال، الى المطار حيث تمت مراسم توديع الضيف عائدا الى بلاده. خلال حفلة العشاء نفسها استخدم الرئيس طالباني براعته المعروفة في صنع الحدث بطرق غير متوقعة. فقد ضمن أولا دعم المالكي ثم طلب من وزير النفط حسين الشهرستاني الاقتراب منه وأقنعه بالموافقة على اقتراح يعطي الشركات التركية الحق في الاستثمار في حقول النفط العراقية. الشهرستاني عاد الى مكانه على مائدة الطعام وانهمك في الكتابة ولم تمض دقائق حتى صاغ نص اتفاق في هذا الشأن، وقّعه ثم قدمه الى رئيسي الوزراء فوقعاه بدورهما. تم ذلك كله وإردوغان، الجالس بين طالباني والمالكي، يراقب هذه العملية الفريدة بدهشة ممزوجة بالارتياح. ليس غريبا بعد كل ما حصل ان يسهب كتاب الأعمدة الاتراك الذين رافقوا إردوغان في وصف الجو الاحتفالي الذي ساد طائرة رئيس الوزراء التي أقلتهم في طريق العودة من بغداد والاستشهاد بمقاطع من حديثه اليهم عن نجاح زيارته الذي فاق كل توقعاته، مشددا على الاتفاقين الاستراتيجي والنفطي. ولم يفت أحد هؤلاء الكتاب إجراء مقارنة بين الزيارة الحالية وآخر زيارة الى العراق قام بها رئيس وزراء تركي قبل 18 عاماً، وهو يلدرم أكبوبولوت في عهدالرئيس الراحل تورغوت أوزال. وقتها تعامل صدام حسين بغطرسته المعتادة مع الزائر التركي موجها إليه كلاما لم يخل من تهديد مبطن. الأكيد أن زيارة إردوغان التي تأتي في إطار فاعلية متنامية لتركيا في تحريك الأحداث، وربما صنعها، في عموم منطقة الشرق الأوسط، تشي بدور جديد مختلف نوعيا عن السابق قررت أنقرة أن تلعبه في سياستها الخارجية. أحدث الأمثلة وساطتها بين سورية واسرائيل ودورها في مؤتمر الدوحة، الأمر الذي يفسر أن إردوغان كان الزعيم غير العربي الوحيد في المنطقة يدعى كضيف شرف الى جلسة البرلمان اللبناني التي أعلن فيها الاتفاق الجديد. البروفيسور أحمد داوود أوغلو هو المستشار الأول لرئيس الوزراء لشؤون السياسة الخارجية. هذا الأكاديمي المتديّن، الذي يخاطبه إردوغان ورئيس الجمهورية عبد الله غل بلقب"أستاذ"، يُعتبر عراب السياسة الخارجية الجديدة لحزب العدالة والتنمية الحاكم على رغم أنه ليس عضوا فيه. داود أوغلو لعب دورا أساسيا في زيارة إردوغان الى بغداد والتحضير لها وكان وراء كل قرار اتخذ في شأنها، منسقاً مع مسؤول الملف العراقي في الخارجية التركية الديبلوماسي المخضرم مراد أوزجيلك، وهو"أوزاليّ"سابق شغل منصب مدير مكتب الرئيس الراحل في مطلع التسعينات. داود أوغلو وأوزجيلك كانا طبعاً ضمن الوفد المرافق لإردوغان. وخلال دعوة عشاء الرئيس طالباني واصلتُ أحاديث سابقة لي مع داود اوغلو واوزجيلك في انقرة واسطنبول ولندن. وكان أولهما، خلال السنوات الماضية ومنذ تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم، أجرى تعديلا أساسيا للمبدأ الذي كانت تقوم على أساسه السياسة الخارجية لتركيا باعتبارها"جسرا"أو، في المقابل،"عازلا"بين الشرق والغرب. فهو يرى ان تركيا يجب ان تتحول من"جسر"الى"حاضنة". في هذا الاطار شهدت علاقات تركيا مع جيرانها خلال السنوات الخمس الأخيرة تحولات دراماتيكية أدت الى إزالة المخاطر الأمنية على حدودها بعدما كان الهم الأمني الشغل الشاغل للسياسة الخارجية لأنقرة على مدى عقود. فالعلاقة مع جورجيا مثلا، العدو السابق يوم كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي، تحسنت الى حد ان مطارها في باطومي يستخدم اليوم كمطار داخلي لتركيا. بعبارة أخرى، يقول داود أوغلو، تلعب تركيا دورا فاعلا في المنطقة ليس لأنها"جسر"أو لأن الآخرين يريدون منها ذلك، بل لأنها هي نفسها تريد ان تلعب هذا الدور الذي يمتد الى خارج المنطقة. والمثال على ذلك ان تركيا حصلت على وضع المراقب في منظمة الوحدة الافريقية. وفي أحدث تطور أعلنت أنقرة عزمها على لعب دور الوساطة بين جارتها الكبيرة إيران وحليفتها الكبرى في الحلف الأطلسي الولاياتالمتحدة. وبدلا من هاجس الامن الحدودي تعتمد السياسة الخارجية الإردوغانية مبدأ إقامة علاقات واتصالات مباشرة مع محيطها، خصوصا الشرق أوسطي على أساس تحقيق الأمن للجميع، للاسرائيليين والفلسطينيين والعرب والكرد، الشيعة والسنة والمسيحيين وكل مكونات هذه المنطقة ذات التنوع الاتني والديني والمذهبي. وتركيا نفسها نموذج لذلك كونها"بلقانات"و"قوقازات"صغيرة. وهكذا هو الشرق الأوسط كله، حيث كل الخصومات والصراعات مترابطة، بحسب داود اوغلو، وهذا يهم تركيا مباشرة. يضرب داود أوغلو لبنان مثالا على التحولات في السياسة الخارجية لبلاده. فقد كانت آخر مرة زار فيها وزير خارجية تركي لبنان في 1981. لكنْ في الفترة الاخيرة زاره وزير الخارجية التركي الحالي باباجان ست او سبع مرات، فيما زاره إردوغان أربع مرات. يوضح داود أوغلو أن كل ما يحدث في المنطقة يهم تركيا، وهذا ينطبق طبعا على العراق التي أعلن اردوغان من بغداد ان أمن المنطقة والعالم يعتمد على استقرارالامن فيه. وبحسب داود اوغلو فان العراق كله، بما فيه النجف والبصرة وليس فقط الموصل واقليم كردستان حيث يعتصم حزب العمال الكردستاني في بعض جباله، أو كركوك حيث الاتنية التركمانية، يهم تركيا بدرجة متساوية. يفسر هذا الاهتمام"دورنا المساعد في توسيع التحالف الشيعي - الكردي ليشمل العرب السنة أيضا، وقرارنا فتح قنصلية في البصرة". أخيرا يفرض نفسه سؤال يتعلق بمصير هذه الاستراتيجية الخارجية لحزب العدالة والتنمية في حال قررت المحكمة الدستورية حظره في الدعوى التي هي على وشك حسمها. وما يأمله داود أوغلو ان تتواصل هذه الاستراتيجية حتى من دون الحزب. وهو يشير الى تقليد طويل في تركيا على مدى القرنين المنصرمين يتمثل في ان الحل بعد كل اضطراب تشهده البلاد يكون في اجراء انتخابات جديدة. ولن يختلف الأمر هذه المرة ايضا. يقول داود أوغلو:"أنا متفائل بمستقبل الديموقراطية التركية مع انني آمل بان الحزب لن يُغلق... متفائل بحذر".