"حلماً أسفرت" هو رؤية انبعثت من لقاء الموسيقى والشعر والصوت الأنثوي في كيان الفنّانة والمؤلفة جويل خوري التي قدّمت أخيراً، في قاعة بيار أبي خاطر في بيروت، عملها الأوبرالي الجديد في إدارة هاروت فازليان وبأداء مرهف ولافت للمغنية فاديا طنب الحاجّ ومجموعة"فراغمان"البلجيكيّة. استند حلم جويل خوري على مقتطفات من قصائد للشاعر والناقد جاك أسود، أبرزها من ديوان"ضوء من الوراء يشوّه وجهك"دار الباحث، 2891 و بعضها غير منشور، وقد أعادت المؤلفة ترتيبها في جسمٍ شاعريّ سلّمت صورُهُ قدرةَ تحليقها لتناقضات الموسيقى المعاصرة. واستعار سفر خوري أجنحة فاديا طنب الحاجّ الصوتيّة والعاطفيّة للغوص في مغاور العدم الداكنة بغية لقاء حقيقيّ مع نفسٍ قاربت الموت للوصول الى كيان المعنى وتحريره من هذيان الوحدة و منفى الماضي الداخليّ. لا يشكّل هذا العمل أوّل تجربة جامعة ما بين الموسيقى و الشعر لخوري إذ انّها ساكنتهما منذ الصبا و كرّست شغفها بهما في أعمالٍ ومؤلّفات موسيقيّة عديدة تُعنى بالشعر الكلاسيكي والمعاصر، نذكر منها اسطوانة"Music and poetry". تكمن ميزة"حلماً أسفرت"في تركيز المؤلفة على خوض طيّات الظلمة و النور في أعماق نفسها عبر عودةٍ مغامرة الى ينبوع اللغة الأم، اللغة العربيّة، وهي عودة الى التعاطي مع ايقاع الواقع الأوّل الحسيّ. يستجيب هذا التعاطي الى طقوسٍ سمعيّة محدّدة تندرج من مقدّمة من الأصوات الألكترونيّة والهمسات البشريّة الى جزء أول من الموسيقى الحرّة ومن ثمّ الى جزءٍ ثانٍ اتّسم بطابعٍ نغمي عذب تسرّبت فيه نفحات جذّابة من الجاز. يتفاعل التطوّر الموسيقي لهذه المونودراما المهداة لفاديا طنب الحاجّ، مع نبضات أو هواجس النصّ الشعريّ فيحلّق على متن غيوم تارةً كثيفة وطوراً رقيقة،"تخنق"الصوت أو تخفته، تخفي الجواب أو تذوّبه. تجتاح الحركةَ الموسيقيّةَ نوتاتٌ خشنة، متكسّرة، مزقزقة فمقعقعة، تتعثّر منغلقةً في صرختها، وحيدةً بين غيرها من النوتات المرتابة، تتحوّل بلطفٍ غامضٍ من جوٍّ من الألم الوديع المألوف الى تناغمٍ ساحرٍ ومغناطيسي مع بزوغ مصالحة مع النفس تختلجها أصداء صوفيّة. يسرد غناء فاديا طنب الحاجّ قصّة الروح التائهة في دهاليز الانتماء والهويّة والانعتاق والشفافيّة والوفاء المزدوج والقلِق للذات وللمقرّبين الأحبّاء. يظهر صوت فاديا الحاج، كلاماً وغناءً، بمثابة نذير فاتح للموسيقى، يتلاعب معها أو يرافق وثباتها حين لا ينغمس ويتغلغل في ألوانها. يجمع غناؤها ما بين النَفَس واللهث والنغم واللفظ ممّا يجعله أداةً مُحكمة وجيّاشة تسود نبيلةً بين أناشيد أو نزاعات أوتار مجموعة"فراغمان". تحيّة لقدرات فاديا المدهشة وأدائها المتألّق دوماً لأنواعٍ موسيقيّة مختلفة بصوتٍ يروّض مخمل عمقه وحرير منعطفاته وصفاء حركته خشونةَ كلّ سمع. يمتدّ الحلم، بين أحاسيس جويل خوري والكلمات التي تريد البوح بها، لغزاً فاتناً وقد أعطت الفنّانة حلمها جسداً وصوتاً انثويين، علماً انّ هويّة المتكلّم في المقطوعات الشعريّة تتراوح بين الذكر والأنثى، كما بين قصائد جاك أسود و اقتباس خوري لها. تكمن في هذه الميزة طاقة العمل الفريدة وهشاشته اذ انّ التفاوت في القدرة الابداعيّة والصوريّة للأبيات يخلق ثغرات- وإن كانت طفيفة- في التفاعل ما بين الموسيقى والنصّ الشعري، كاشفاً بعض الشواطئ الأقلّ إشراقاً لعمل"حلماً أسفرت"وأبرزها: تقييد المرونة التعبيريّة في الأداء الجسديّ والكلاميّ لدى فاديا والتباين لدى خوري في درجات الجرأة الموسيقية بين مختلف أقسام المقطوعة. تضيف جويل خوري في عملها الأخير"حلماً أسفرت"الى الإرث الموسيقيّ العربيّ نَفَساً انثويّاً حميماً وجديداً يتحدّى بحيويّته المشاكسة ورؤيته السبّاقة الخمولَ الفنيّ والإنحطاط الثقافيّ المسيطرَين فيحتلّ عملها مكانةً فريدة من نوعها في آفاق الإبداع الفنيّ العربيّ الحاضر"والغائب".