تنتقل جويل خوري من الموسيقى الكلاسيكيّة إلى الجاز مثلما تنتقل من الفلسفة والأدب إلى الموسيقى. ولعلّ الحفلتين اللتين أحيتهما مع فرقتها في"مسرح المدينة"في بيروت في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، من المواعيد النادرة مع موسيقى الجاز، بما هي حالات تأمّل ومتعة ولحظات تواصل وتفاعل مع تلاوين نغمية وايقاعيّة غنية، على اتصال بالذاكرة المعاصرة، وبحرفة متينة تتسع للابتكار والدهشة والتجاوز. مشاغبة هي جويل خوري حين تجلس الى البيانو، كأنّها تصارع خصماً، أو تبذل قوّة روحيّة وجسديّة للسيطرة على حبيب صعب المنال والتطويع. نوطاتها منتزعة من مكان ما في الأعماق الهائجة... ما يجعلنا نعتقد بأن لذّة الاستماع الى مؤلفاتها لا تكتمل إلا بمشاهدتها على المسرح. جسد العازفة والمؤلّفة طرف أساس في المعادلة الموسيقيّة المركّبة والبسيطة في آن. التجربة الحياتيّة أوّلاً ثم الابداع، تكاد تقول لنا هذه الفنانة التي تقف على حدة بين أبناء جيلها، كونها ربيبة الشعراء والفلاسفة، تعاشر هايدغر وتجالس راينر ماريا ريلكه. الانفعال عندها يسبق الفهم والوعي: ها نحن في صلب روح الجاز، كما تفاعلت معه جويل خوري وفرقتها"إن - فيرشن"in - version. تأسست الفرقة العام 1994، وتضمّ اليوم إلى جانب بيانو جويل آلتي ساكسوفون، ودرامز، وكونترباص وغيتاراً كهربائياً Bass. يصاحبها على المسرح هراتش قسيس وإميل بستاني ورفيق دربها موريس خوري، وهو يجمع إلى حرفة الموسيقى، اختصاص علم النفس التحليلي الذي يحتلّ فيه مكانة مرموقة. الفلسفة والشعر وعلم النفس... ها نحن في صلب تجربة جويل وموريس الموسيقيّة، فسحة للتأمّل ومحاورة العالم، والتطهّر من الألم، والارتقاء بالمعاناة الوجودية والميتافيزيقية إلى مرتبة الفنّ. جويل خوري أستاذة في الكونسرفاتوار الوطني اللبناني، حيث تنظّم محترفاً أسبوعياً على شكل"صالون سماع"، تقدّم فيه الموسيقى المعاصرة، ومختلف مدارس القرن العشرين وتياراته. درست الموسيقى في الولاياتالمتحدة، والفلسفة في بيروت. وهي عازفة بيانو ومؤلفة، أطلقت أخيراً ألبومها الثالث !Is-It SO، وقد عزفت خلال حفلة"مسرح المدينة"بعض مقطوعاته. قبل"إيز - إت سو"، كانت جويل خاضت تجربة اداء الشعر في أسطوانة بعنوان"موسيقى وشعر"Music and Poetry تبتعد من نمط الجاز الذي طبع أسطوانتها الأولى Tumbling Up 1991. وإذا كان الجاز هو رهانها الأوّل، فإن الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة هي الاطار الأوسع لعملها السابق، ولعالمها الموسيقي. اختارت جويل وقتها صيغة"موسيقى الحجرة"، واعتمدت نسقاً أوبرالياً في سياق الموسيقى المعاصرة، لتأدية نصوص شعرية لغوته، وريلكه وهاينه... ونادية التويني. ولعلّ ذلك العمل الموسيقي الكثيف والمركب، القائم على الصناعة والهندسة والحرفة، والذي يعتمد تزاوج الأضداد، بين تناغم وتنافر، سوبرانو وباص، ظلمة ونور، خفة وثقل، أفقي وعمودي، يساعد على فهم عالم جويل خوري الموسيقي الذي تشرّش جذوره في التراث الكلاسيكي، وتمتدّ فروعه إلى عالم الجاز. وقد لمسنا في حفلتي"مسرح المدينة"تلك العلاقة الخاصة بالموسيقى. فالمؤلفة والعازفة الشابة مشبعة بثقافة موسيقية موسوعية، لكنها تضع احساسها ومزاجها الخاص في المصاف الأول حين تؤلف. لذا نراها تساوي بين عازفين ومؤلفين من عوالم موسيقية مختلفة، من باخ إلى مايلز دايفس، ومن فيبرن إلى وتشارلز منغوس، ومن شونبورغ إلى تيلونيوس مونك. وما يجمع بين هؤلاء المؤلفين، هو الأسلوب الخاص جداً الذي ابتدعه كل منهم، وجعله يتفرّد تماماً، ويتميّز عن أي مؤلف أو عازف سبقه... هذه هي الأرضيّة التي تطمح جويل خوري إلى الوقوف عليها، وقد نجحت حتّى الآن إلى حدّ كبير في بناء ذلك المشروع.