مطلع هذا الشهر، نفذت إسرائيل تدريبات عسكرية واسعة وصفتها جريدة"نيويورك تايمز"بأنها مناورة لغارات محتملة على منشآت نووية إيرانية. وقد شاركت في المناورة العسكرية أكثر من مئة طائرة من طراز"اف 16"و"اف 15"، إضافة إلى مروحيات وطائرات تزويد الوقود في الجو. وذكر موقع"يديعوت أحرونوت"على الانترنت، أن وزير الدفاع ايهود باراك اختار شواطئ اليونان كهدف نهائي لأن المسافة التي تفصل منشآت إيران النووية عن إسرائيل تعادل المسافة ذاتها تقريباً. وعلق الناطق الرسمي باسم"البنتاغون"على هذه التدريبات بالقول إنها مجرد رسالة لأميركا والدول الأوروبية، بأن إسرائيل جادة في القيام بعمل عسكري في حال فشل الجهود الديبلوماسية. وفسر الرئيس محمود أحمدي نجاد هذه العملية بأنها دليل يأس واحباط، مؤكداً أن إيران على استعداد تام لقطع كل يد تحاول الاساءة إليها. وحذر رجال الدين في طهران من مهاجمة المنشآت النووية،"لأن ردود فعل الأمة الإسلامية ستجعل المعتدين يتندمون على فعلتهم". الخبراء العسكريون استبعدوا قيام إسرائيل بتوجيه ضربة شبيهة بالضربة التي سددتها سنة 1981 للمفاعل العراقي. والسبب أن إيران تعلمت درساً من تلك العملية فقامت بنشر المواقع النووية على أكثر من خمسين موقعاً أهمها بوشهر وناتنز. كما حرصت على بنائها تحت الأرض بعمق يصعب اختراقه إلا بواسطة قنابل خاصة كالتي طورتها الولاياتالمتحدة. إضافة إلى هذه الصعوبات، فإن القيادة الإيرانية عززت الحراسة الجوية عن طريق نظام رادار تم استيراده من روسيا لهذا الغرض. ومعنى هذا أن طهران لا تلغي من حساباتها احتمال قيام إسرائيل بتنفيذ تهديداتها إذا اكتشفت أن برنامج إيران السلمي سيتحول إلى برنامج سلاح نووي. واستناداً إلى هذه التوقعات، سلمت القوى الست الكبرى طهران عرضاً لتعاون جديد يهدف إلى تعليق تخصيب اليورانيوم. وقد حضر جلسة التسليم سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني سعيد جليلي والممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا. كذلك شارك في جلسة المحادثات رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية غلام رضا آفازاده الذي أعرب عن ثقته بإمكان التوفيق بين عرض الحوافز الذي قدمته الدول الست الكبرى والاقتراحات الإيرانية. قبل أن تدرس طهران الاقتراحات، فاجأها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بخطاب ألقاه أمام نواب الكنيست الإسرائيلي، يحمل عبارات التهديد والوعيد. قال إن فرنسا ستقف دائماً إلى جانب إسرائيل في حال تعرض وجودها للخطر. ووصف إيران النووية بأنها وضع لا يحتمل، وبأن هذا يستدعي رداً قوياً وحاسماً من قبل الأسرة الدولية. يستنتج من تهجم ساركوزي أنه طامح إلى تجديد دور مستشار النمسا الراحل برونو كرايسكي، الذي احتمى بيهوديته من أجل الدفاع عن حقوق الفلسطينيين. وهذا ما أوحى به الرئيس الفرنسي، معتبراً أن أصوله اليهودية تسمح له بتعديل بعض المواقف الإسرائيلية المرتبطة بمستقبل مدينة القدس، عاصمة الديانات السماوية الثلاث. ومع أن طروحات ساركوزي لم تخالف مشروع"خريطة الطريق"، إلا أن رؤيته لمصير القدس أقلقت الداعين إلى توسيع رقعتها لتصبح عاصمة أبدية موحدة لدولة اليهود. لذلك قال في هذا الصدد إن السلام لن يتحقق من دون الاعتراف بالقدس عاصمة للدولتين وتأمين حرية الحركة والوصول إلى الأماكن المقدسة لكل الديانات. وكان بهذا التصور يسعى إلى تخفيف تأثير إيران على المجتمع العربي الذي شدته هذه الدعوة السياسية المدعومة بالمال والسلاح. وقد استثنى سورية من تحذيراته خوفاً من نسف مشروع"الاتحاد من أجل المتوسط"ومن استفزاز دمشق التي يطمح إلى زيارتها على أمل فك ارتباطها مع طهران. ويحتار المراقبون في رصد المكاسب الخفية التي يحاول الطرفان - الفرنسي والسوري - جنيها من وراء تعاونهما المستجد. ذلك أن فرنسا تسعى إلى ترتيب البيت اللبناني والدخول إلى العراق عن طريق تمتين صداقتها مع سورية. في حين ترى سورية أن الوصول إلى واشنطن، ولو عن طريق فرنسا الساركوزية، هو بمثابة تعويض عن المراحل التي خسرتها أثناء ولاية جاك شيراك، خصوصاً أن الرئيس الفرنسي تجاوز كل الخطوط الحمر التي وضعها بوش وشيراك في طريق سورية، عندما دعا الرئيس بشار الأسد للمشاركة في عيد الثورة 14 تموز/ يوليو. ورأت المعارضة الفرنسية في هذه الخطوة التفافاً على موقف شيراك الذي ربط عودة العلاقات الطبيعية مع دمشق بقرار محكمة العدل الدولية من قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ووصف الأمين الوطني للحزب الاشتراكي هذه الدعوة بأنها"حال من التقلب والسذاجة والخلل الأدبي"، طالباً من ساركوزي ألا يتسرع وينسى ما فعلته سورية في لبنان. عودة إلى السؤال المطروح بعد الكشف عن مناورات التدريب التي يجريها الطيران الحربي الإسرائيلي، وما إذا كان تسريب هذه الأخبار إلى الصحف هو جزء من حملة إعلامية... أم أن إسرائيل فعلاً مصممة على قصف منشآت إيران النووية؟! يوم الجمعة السابق عقد ايهود أولمرت اجتماعاً سرياً مع الجنرال في الاحتياط افيأم سيلع، منفذ عملية تدمير المفاعل النووي العراقي سنة 1981. كما أنه خطط لتدمير منصات الصواريخ السورية اثناء غزو لبنان سنة 1982، وشجع الجاسوس اليهودي الأميركي جوناثان بولارد على تسريب معلومات بالغة السرية إلى الجيش الإسرائيلي. ووفق مصادر صحيفة"معاريف"، فإن أولمرت أراد أن يسمع من الجنرال سيلع تقديراته بشأن نجاح العملية ضد البرنامج النووي الإيراني. حول هذا الموضوع قال الخبير العسكري الإسرائيلي مارتن فان كريفيلد إن نجاح أي عملية بهذا الحجم يستدعي معرفة البرنامج النووي الإيراني بكامل تفاصيله: ما هي مكوناته، ومواقع انتشاره وعمق مخابئه؟ وفي تقديره، ان الإحجام عن القيام بمثل هذه المغامرة سيجعل من إيران قوة نووية ثانية في منطقة الشرق الأوسط. ومعنى هذا أن الوجود النووي المتوازن سيلغي الدور الذي خلقه بن غوريون، عن طريق الاستفراد بالسلاح الذري. وقد وصفه شمعون بيريز، الذي اشرف على برنامج تطوير مفاعل"ديمونا"بواسطة فرنسا، ب"الملاذ الأخير". أي أن استخدامه لا يتم إلا عندما تتأكد إسرائيل بأن وجودها معرض لخطر حقيقي، تماماً مثلما حدث خلال حرب 1973 يوم بكى موشيه دايان لأن عبور الجيش المصري أشعره بانهيار الجبهة، وبأن إسرائيل عاجزة عن المقاومة. وفجأة، أنجده هنري كيسنجر بواسطة الجسر الجوي الذي نقل ثمانين في المئة من ترسانة الجيش الأميركي إلى جبهة سيناء. وقد ظهر اسم ارييل شارون في"الدفرسوار"كمخلص من تبعات هزيمة عسكرية مدمرة منعها من التنفيذ ايضاً القرار السياسي الذي أعلنه أنور السادات. آخر سنة 2006 تعرض ايهود اولمرت لحملة اعلامية قاسية بسبب زلة لسان وإعلانه بأن بلاده تملك سلاحاً ذرياً مثل الولاياتالمتحدةوفرنساوروسيا. ومع ان موردخاي فعنونو كشف الكثير من المعلومات عن مفاعل"ديمونا"نشرتها صحيفة"صانداي تايمز"إلا أن اعلان الخبر بواسطة رئيس وزراء اسرائيل، اعتبر خروجاً على قاعدة التفاهم المتفق عليها. ففي سنة 1970 اتفق الرئيس ريتشارد نيكسون مع غولدا مائير على استثناء اسرائيل من الانضمام الى ميثاق منع انتشار الأسلحة الذرية، شرط ألا تعلن ذلك. ووصفت الصحف الأميركية في حينه هذا التفاهم بأنه"صيغة غامضة". وبناء على ذلك التفاهم حول سياسة الغموض، كان شمعون بيريز يردد في المحافل الدولية ان بلاده لن تكون أول دولة تدخل السلاح الذري الى منطقة الشرق الأوسط. ولكن هذا التفاهم لم يمنع وزير الدفاع الاميركي روبرت غيتس من التحدث عن قوة الردع النووية أمام مجلس الشيوخ. وفي رأيه ان"سياسة النعامة"لم تعد تنفع في عصر الانترنت. ذلك ان ما كشفه موردخاي فعنونو، زائداً الكتاب الذي نشره الدكتور افنير كوهين وعنوانه"اسرائيل والقنبلة"، مصدران كافيان للتأكد من ان مفاعل"ديمونا"ما زال يعمل بانتظام، وان الترسانة الاسرائيلية تملك اكثر من 150 قنبلة نووية، لذلك اقتضت الظروف المستجدة ضرورة تغيير التعامل مع زعماء المنطقة بمنطق قواعد لعبة الغموض والالتباس. وبما ان اقتراحات الدول الكبرى التي قدمت الى طهران، تحتاج الى تطمينات وتنازلات من قبل اسرائيل، فإن البروفسور درور زئيفي جامعة بن غوريون قدم عرضاً الى ايهود اولمرت ينص على وضع البرنامج الذري الاسرائيلي تحت رقابة دولية لمدة عشرين سنة. وخلال هذه الفترة يسمح لوكالة الطاقة الذرية بتطبيق قواعد الرقابة على باكستانوايران وسورية. ويرى مقدم هذا الاقتراح انه من الضروري تهدئة المخاوف الايرانية والاسرائيلية بعد الإعداد لضربة وقائية من المؤكد انها ستفضي الى حرب شاملة. ومن المتوقع ان تؤدي هذه الحرب الى زعزعة الاقتصاد العالمي ما دامت الحرب ستشمل غالبية دول الخليج التي تستهدفها الصواريخ الايرانية مثلما فعل صدام حسين بحلفاء الولاياتالمتحدة. ويقدم البروفسور زئيفي سلسلة قرائن تتعلق بنيات ايران في ظل الجمهورية الاسلامية منذ قيامها سنة 1979. وهو يؤكد ان الحرب التي خاضتها مع العراق سنة 1980 فرضت عليها من قبل صدام حسين. وعلى رغم تحرشات"طالبان"والاختراقات المتواصلة لحدودها، ظلت ايران محافظة على شعرة معاوية مع نظام معاد. وعندما انهار الاتحاد السوفياتي لم تبادر طهران الى توسيع حدودها شمالاً ولا جنوباً عقب انهيار نظام صدام. وهكذا أثبت الايرانيون فهماً عميقاً لواقعية حدود القوة. كما أثبتوا خضوعهم الى قانون الدولة، بطريقة شبه ديموقراطية. فالرئيس أحمدي نجاد ليس سيداً في دولته، وانما هو خاضع لقرارات علي خامنئي الذي يخضع بدوره الى مجلس الخبراء المنتخبين. عندما قرر مناحيم بيغن ضرب المفاعل النووي العراقي، استند في قراره الى تشخيص"حكماء اسرائيل"، وخلاصته ان الإهمال في استخدام الضربة الوقائية الاستباقية ضد هتلر، انتج سقوط أكثر من اربعين مليون نسمة في الحرب العالمية الثانية، ولو ان الاستخبارات البريطانية ركزت على نجاح عمليات اغتيال هتلر، لما حدث"الهولوكوست". وفي ضوء ذلك التقرير اتخذ القرار بضرب المفاعل النووي العراقي. بعد تعريض"نظام الغموض النووي"الى الانقشاع... وبعد التصريح الذي أدلى به الرئيس ساركوزي حول ضرورة منع ايران من امتلاك القنبلة، اكتشف ايهود اولمرت ان فرصته الاخيرة لضرب دولة تهدده بالدمار الشامل، لا تتعدى الستة أشهر. اي المدة المتبقية من ولاية جورج بوش، الرئيس المستعد دائماً لمعاقبة ايران التي حرمته من شهرة الظفر في حرب العراق. ومن المؤكد ان وجود جون ماكين في البيت الأبيض، لن يطمئن اسرائيل الى أولويات اهتماماته بالملف الايراني، خصوصاً خلال السنة الأولى. وبما ان الطيران الاسرائيلي يحتاج الى قوة نارية اضافية تأتيه من بوارج الأسطول الخامس في الخليج، ومن القواعد العسكرية المزروعة في افغانستان، فإن الأشهر الستة المقبلة تبدو مفصلية في روزنامة اولمرت والمنطقة. * كاتب وصحافي لبناني