لطالما شكلت المطربة السورية الشهيرة أسمهان لغزاً حقيقياً بالنسبة الى ملايين العرب الذين فتنهم صوتها العذب والاستثنائي قبل عقود وما زال يملك التأثير والفتنة نفسيهما حتى اليوم. والحقيقة أن جمال ذلك الصوت وسحره لم يكونا لينفصلا أبداً عن الظروف الغريبة والغامضة التي أحاطت بصاحبته. فنحن لسنا هنا إزاء امرأة عادية النشأة والسيرة والحضور والصوت، بل ازاء أميرة حقيقية لا تحتاج كسندريللا الى ساحرة ما تنتشلها من الفقر وتضعها في طريق الأمير، بل هي أميرة سورية حقيقية تضطرها ظروف المواجهة الصعبة بين عشيرة آل الأطرش والمحتلين الفرنسيين في عشرينات القرن الفائت للرحيل مع أمها وشقيقيها الى مصر حيث سيقدر لها أن تصنع بيديها المجردتين وجمالها الفريد والمتمرد وصوتها الذي وصفه أحد النقاد بأنه قادم من الفردوس أسطورتها الخاصة التي أسهم موتها المبكر في تأجيجها ومنعها من الذبول. تحاول الكاتبة والناقدة الموسيقية شريفة زهور في كتابها"أسرار أسمهان/ المرأة، الحرب، الغناء"أن تلقي المزيد من الأضواء على سيرة آمال الأطرش التي نصحها داود حسني بأن تتخذ لنفسها إسماً فنياً آخر يساعدها في الصعود الى مراتب الشهرة والانتشار. على أن الطريف في الأمر أن شريفة زهور، التي وضعت كتابها باللغة الإنكليزية ونقله الى العربية عارف حديفة وصدر عن دار المدى للثقافة والنشر، ظلت هي نفسها غامضة ومستترة بالنسبة الى القارئ العربي. فلا شيء في متن الكتاب أو على غلافه يشير الى هويتها وموطنها وسيرتها الشخصية أو إذا ما كان الاسم الموضوع على غلاف الكتاب إسماً حقيقياً أم هو مجرد اسم فني آخر، كما لو أن المؤلفة تريد عن قصد أو غير قصد أن تتماهى مع بطلتها ومطربتها الأثيرة. وما نعرفه عن المؤلفة لا يتجاوز أنها تعيش في أميركا وتهتم بالموسيقى التي ورثت الاهتمام بها عن أمها المغنية، من دون إشارة الى اسم الأم، وأن شغفها بأسمهان جاء من طريق الصدفة حين أهداها أحد الأصدقاء شريطاً غنائياً للمطربة الراحلة لفتها الى حد بعيد وبخاصة في الأغنية المعروفة"يا حبيبي تعال الحقني"التي اعتبرتها كما جاء في المقدمة نوعاً من"التانغو الكاريكاتورية والمتقنة". على امتداد أكثر من ثلاثمئة صفحة تعرف شريفة زهور كيف تأخذ بألباب قرائها وتسحبهم بخفة ماكرة ليس فقط وراء السيرة الشخصية للمرأة التي ستصبح واحدة من أكثر النساء العربيات شهرة وغموضاً أو وراء سيرة آل الأطرش وقيادتهم لجبل الدروز الذي سيصبح بدوره جبل العرب، فحسب، بل تعود بهم القهقرى الى ذلك الزمن المفصلي الحاسم الذي قدِّر لأسمهان أن تعيش في كنفه، حيث تترافق ولادتها عام 1917 مع تفاقم الحرب العالمية الأولى وانهيار السلطنة العثمانية على يد الحلفاء ويترافق رحيلها المأسوي عام 1944 مع بداية انهيار دول المحور في الحرب العالمية الثانية، وعلى يد الحلفاء أنفسهم تقريباً. على أن المؤلفة لا تمر مرور الكرام على ما يفصل بين هذين التاريخين الحاسمين، بل تعرض خلال الكتاب كل ما يشكل الخلفية السياسية والاجتماعية والاقتصادية لحياة أسمهان الخاطفة والحافلة بالمفاجآت. فهي تقدم لمحة تاريخية سريعة عن تاريخ الموحدين منذ ظهورهم في مصر زمن الحاكم بأمر الله وحتى قدومهم الى لبنان وبعض مناطق المشرق العربي بعد تعرضهم للاضطهاد في عهد خليفته. كما تقدم لمحة أخرى عن العادات والتقاليد والقيم الأخلاقية المحافظة التي تربت أسمهان في كنفها على رغم أن انتماءها الى آل الأطرش أتاح لها فرصة التعلم والتحصيل الثقافي، كما أتاح لها هامشاً معقولاً من الحرية والانفتاح. إلا أن هذا الهامش لم يكن متوافراً بما يتيح للفتاة الموهوبة أن تصبح ما أصبحت عليه بعد رحيلها الى مصر. وكانت ثورة سلطان باشا الأطرش على الفرنسيين عام 1925 هي نقطة التحول الأبرز في حياة أسمهان، حيث أصرت علياء المنذر على حمل أولادها الثلاثة، فؤاد وأسمهان وفريد، الى مصر هرباً مما ينتظرهم بفعل المواجهة القاسية بين الطرفين. لا تهدف هذه المقالة بالطبع الى استعادة السيرة الحافلة بالوقائع والأحداث للأميرة المتمردة على التقاليد التي استطاعت على رغم سني حياتها القصيرة أن تشكل ظاهرة استثنائية ليس في عالم الغناء العربي فحسب، بل في قدرة المرأة العربية الشرقية على صنع أسطورتها الخاصة واختراع حياتها من جديد. ولم يكن هذا الأمر ليتوافر بالطبع لو لم تتضافر عوامل عدة في صنع هذه الأسطورة، وكان مجيء أسمهان وعائلتها الى القاهرة في طليعة هذه العوامل. فبحسب ماكس رودنيك لم تكن القاهرة لحظة قدوم أسمهان إليها تطمح الى أن تكون مدينة عالمية، بل هي كانت كذلك بالفعل. وهو ما ينطبق على الرقص والموسيقى والمسرح والغناء والشعر بقدر ما ينطبق على التحولات الاجتماعية وأنماط السلوك وحراك الطبقات. وهذا المناخ بالذات هو الذي أتاح لأسمهان أن تهز بسرعة وقوة جدران المجتمع القاهري بعد أن تلقفها بالعناية كل من داود حسني ومحمد القصبجي وزكريا أحمد، وتمكنت بصوتها الملائكي من لفت نظر محمد عبدالوهاب ومن توقيع عقد مبكر لتسجيل أعمالها الغنائية الأولى وصولاً الى وقوفها على مسرح الأوبرا المصرية التي كان أسسها الخديوي اسماعيل في العام 1869. ومع ذلك، لم تكن حياة أسمهان مفروشة بالورود. فهي كانت تجر خلفها أينما ذهبت ما يمكن أن نسميه"لعنة السلالة"وليس نعمتها فحسب. وإذا كان شقيقها فريد، الذي يقاسمها موهبة الصوت ويضيف إليها موهبة موسيقية مهمة، قد وقف الى جانبها في معركة إثبات الذات، فإن شقيقها الأكبر فؤاد كان الممثل النموذجي لروح الأسلاف التي تريد العودة بها الى بيت الطاعة الأول. وكان زواجها من ابن عمها حسن الأطرش هو التجسيد النموذجي لتلك الروح التي لم تكف عن مطاردتها حتى وهي تتسلق في شكل مذهل سلّم النجومية الشاهق. كأن أسمهان بهذا المعنى هي ساحة صراع مفتوحة على كل التناقضات المحيطة بها. وإذا كانت شريفة زهور لا تنفي كونها قد أحبت زوجها ووالد ابنتها كاميليا، فإنها تعزو فرارها منه، وهو أحد أبطال المقاومة السورية ضد الفرنسيين، لا الى نقص في الحب أو تعارض في السياسة، بل لأن نداء الفن وعوالمه الأثيرية كان هو الأكثر قوة وإلحاحاً بالنسبة إليها. لذلك فهي لم تستطع أن تأوي طويلاً الى المنزل الجميل الذي بناه لها حسن الأطرش في السويداء، بل ما لبثت بعد زواجها للمرة الثانية من الرجل إياه أن عادت أدراجها الى القاهرة لتلاقي هناك مصيرها الفاجع. كانت أسمهان، وفق المؤلفة، هي الصوت الوحيد الذي يستطيع أن ينافس أم كلثوم في ساحة الغناء العربي، ولم يكن بد من قيام خصومة بين المرأتين. وفيما اختارت أم كلثوم ذات الجمال المتواضع الخط المستقيم المتمثل بتصالحها مع نفسها ومع ثوابت المجتمع والعائلة، ذهبت أسمهان ذات الجمال الأخاذ والعينين الساحرتين، الى الخط العاصف والرجراج الذي لا يقود إلا الى الانتحار. هكذا انخرطت في الحياة حتى تخومها القصوى متنقلة بين أكثر من زواج أو قصة حب، ومتجاوزة الخطوط الحمر عبر اقترابها المفرط من البلاط الملكي ممثلاً بحسنين باشا، رجله الوسيم والقوي. وخط العواصف نفسه هو الذي زيّن لها الدخول على خطوط الصراع بين الأمم زمن الحرب العالمية الثانية والوقوف مع البريطانيين في حربهم ضد دول المحور وما عرف بفرنسا الفيشي، حيث قدر لها أن تنتقل الى السويداء من جديد وأن تغامر بحياتها في الطريق الى فلسطين لتنجو بأعجوبة من الكمائن المنصوبة لها. أما موت أسمهان في حادثة غريبة ومريبة، فقد بدا بالنسبة الى المؤلفة لغزاً آخر يضاف الى ألغاز حياتها الكثيرة. وهي إذ تتجنب إعطاء تصور حاسم لما حدث، تؤكد الرواية القائلة إن السائق قد رمى بنفسه فجأة من السيارة التي كانت تقلها الى منطقة"رأس البر"المصرية مع إحدى صديقاتها حيث قضت الاثنتان غرقاً في الترعة المائية المجاورة للطريق. لكن المؤلفة التي تكتفي بسيناريو واحد للموت تضع دوافعه المحتملة أمام سيناريوات أربعة، أولها أن يكون الغرق حادثة طبيعية ناجمة عن عطل مفاجئ في السيارة، وثانيها أن يكون ما حدث مدبراً من أحد أجهزة الاستخبارات التي أرادت أن تتخلص لأسباب مجهولة من المطربة الراحلة، وثالثها أن تكون أم كلثوم قد دبرت الحادثة للتخلص من منافستها الحقيقية الوحيدة في عالم الغناء، ورابعها أن تكون للموت دوافع عائلية متصلة بالشرف والأخلاق والخروج على أعراف العائلة والمذهب. ربما لن يعثر أحد على جواب شافٍ عن السؤال المتعلق بموت أسمهان المأسوي. لكن هذا الموت بدا وكأنه يقع في المنطقة الوسط بين الاغتيال والانتحار. ذلك أن جمالها الجريء لم يكن أقل تحدياً وحضوراً من صوتها الماسي. وهي قد ذهبت في استثماره حتى النهاية غير آبهة بما كان يلاحقها من إشاعات ويتهددها من مخاطر، كما لو أنها كانت تتواطأ في شكل مقصود مع الصورة التي رسمت لها من الخارج. وفي ذلك تقول شريفة زهور:"إن المعجبين بأسمهان وأعداءها قد نسبوا إليها حيوية جنسية الى حد ما، وكانت هي تدرك هذه العملية فاستجابت لهم بالاعتراف بأنوثتها بدلاً من نكرانها". وكما شق جمالها عصا الطاعة على الجغرافيا البركانية الجرداء لتلال السويداء، فقد شقت عصا الطاعة في المقابل على جغرافيا التقاليد والتصاميم المعدّة سلفاً للحياة. وهو أيضاً الجمال الحزين الذي يحاول أن يجد لنفسه طريقاً وسط اندلاع الحروب وضجيج المعارك وأن يرفع بيرق اشتهاءاته المحرمة فوق أكداس الجثث وتلال الخراب. مثل تلك المرأة لم يكن يليق بها سوى موت كهذا الموت، تماماً كما كان الحال بعد ذلك مع مارلين مونرو ورومي شنايدر وداليدا وسعاد حسني وداني بسترس وأخريات. فالأسطورة يلزمها دم فتي وطافح بالحيوية الفاجعة لكي يتأبد حضورها في الزمن.