قد يكون سهلاً على أي مراقب توجيه الاتهام لإيران بأنها تعارض أو تعرقل إرادة وطنية عراقية استقلالية ورغبة لدى الحكومة والقوى السياسية في العراق بعقد اتفاقية أمنية مع الولاياتالمتحدة الأميركية لتنظيم العلاقات بين الجانبين بعد انتهاء انتداب مجلس الأمن للقوات المتعددة الجنسية في هذا البلد. وقد تتهم إيران بأنها لا تريد للعراق ودولته ان يستفيدا من علاقتهما مع واشنطن واستغلالها لصالح بناء سلطة مستقلة بعيداً عن الاستقطاب الشيعي والإسلامي الذي تحاول طهران ان تلعب دور الحاضن الأبرز له في مواجهة ما تعتبره هجمة استعمارية جديدة من الغرب تريد القضاء على أي شكل من أشكال الممانعة والتصدي للمخططات التوسعية التي تمثلها الولاياتالمتحدة الأميركية على وجه الخصوص، وان هذا المسعى الاستقطابي وحتى الاستيعابي الذي تقوم به إيران في العراق يؤثر سلبا على العراق ويضعف صموده في وجه الضغوط التي تتعرض لها الحكومة العراقية التي قامت على سياق شيعي يختلف عن السائد تاريخياً في العراق والمنطقة، وتصارع وسط جوار عربي وإسلامي تؤازره أنظمة عربية وإسلامية أخرى لا تريد السماح للسلطة العراقية الجديدة ببلورة تجربتها على شكل سلطة تختلف عما هو سائد في العالمين العربي والإسلامي منذ قيام الدولة في بداية القرن الماضي. وقد تتهم أيضاً بأنها تسعى الى استعادة أمجادها الإمبراطورية التاريخية القديمة والمعاصرة، والرد على الفتح العربي ? الإسلامي الذي انطلق ضد إمبراطوريتها الساسانية من ارض العراق، أو لاستعادة نفوذ كانت قد فرضته دولتها الصفوية في القرون الوسطى على حساب الخلافة العثمانية في هذا البلد، أو انها تريد النفوذ في العراق مستغلة التداخل الاجتماعي والثقافي الذي يربط بين البلدين. هناك أبعاد كثيرة ومعطيات تساعد على وضع إيران في موضع المتهم الأول في تحدي إرادة الشعب والدولة العراقية في عملية النهوض وبناء دولة آمنة ومستقرة ومستقلة ذات سيادة بعد إزاحة النظام البعثي بقيادة صدام حسين الذي حكم العراق لأكثر من ثلاثة عقود وتسبب في كوارث إنسانية واجتماعية وعسكرية واقتصادية وسياسية انتهت بدخول القوات الأميركية على رأس قوات متعددة الجنسية وبغطاء من مجلس الأمن الدولي والبند السابع من ميثاق الأممالمتحدة. وقد تشكل تصريحات وأحاديث الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد والتي كشف فيها عن نية أميركية باختطافه ونقله الى واشنطن خلال زيارته لبغداد في هذه اللحظة السياسية، مؤشراً على المخاوف الإيرانية من الوجود الأميركي في هذا البلد والذي سيأخذ بعداً أكثر شرعية من خلال الاتفاقية والتي تنزع عنه صفة الاحتلال، والتي لم تجد، أي هذه المخاوف، افضل من الحديث عن نيات اختطاف للتعبير عن ذاتها في هذه المرحلة، إذا ما أسقطنا منها الأبعاد الخاصة لدى الرئيس الإيراني مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية. فلقد شكلت عقدة الاتفاقية الأمنية بين واشنطنوبغداد محور كل الأحاديث واللقاءات والمحادثات التي أجراها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في طهران أخيراً، لدرجة ان الجانب الإيراني في هذه اللقاءات لم يكن على استعداد لمساع أو الحديث عن اصل الاتفاقية، فكيف إذا كان الحديث عن مسار يوصل الى التوقيع. وقد وصلت حدة الموقف السلبي من هذا الأمر ان التعاطي معه جرى وكأن الجانب العراقي قد ارتكب الفعل، وان إيران بات عليها التعامل مع المردود السلبي الذي يفرضه التوقيع. وترى إيران ان الإصرار الأميركي على تمرير الاتفاقية الأمنية مع العراق والإسراع في توقيعها قبل نهاية عهد الرئيس جورج بوش في البيت الأبيض، يحمل الكثير من الأبعاد السلبية على الإنجازات التي تعتقد أنها حققتها في المنطقة، وأنها تعطي نصراً سياسياً وأمنياً للإدارة الأميركية تتعارض مع الحسابات التي تراهن عليها طهران وتسعى لترسيخ معادلتها في المنطقة. فعلى الصعيد العراقي، تعتقد طهران أن أي استقرار أمني وسياسي واقتصادي في العراق لا بد من أن يمر عبرها، وإنها قادرة على عرقلة مشاريع الإدارة الأميركية وكل قوتها العسكرية المستقرة في العراق إذا لم تأخذ هذه الأخيرة مصالح طهران بعين الاعتبار، إضافة الى أن استمرار عرقلة الاستقرار في العراق يصب في مصلحة طهران في بعدين، الأول يفرض على الأميركي استبعاد التفكير بعمل عسكري ضد النظام الإيراني، والثاني يضع المحتل في مواجهة أزمات متنقلة تمنعه من التفرد في توجيه الساحة العراقية، ما يسمح لإيران بالدخول من أبواب مختلفة، سياسية واجتماعية واقتصادية، للعب دور"مساعد ومنقذ للعراق وللأميركي من المستنقع الذي يغرق فيه". وكررت طهران مراراً أنها على استعداد لمساعدة الأميركي في الخروج من المستنقع العراقي إذا طلب ذلك وإذا تخلى عن مشاريعه"الاستكبارية"في المنطقة وأدخل تعديلاً جوهرياً في تعاطيه مع طهران. ومن خلال التعاون الإيجابي بين الطرفين، الإيراني والأميركي، والذي تبلور في لقاءات مباشرة بينهما، بدأ العراق الدخول في مرحلة بناء الدولة والقوات المسلحة والسيطرة على الأمن وفرض الاستقرار، في إطار جدول أعمال رسمه الطرفان، لا تزال آخر حلقاته في طور الاكتمال بالتخلص من الشوائب التي تعتري التيار الصدري وجيش المهدي، في معارك البصرة ومدينة الصدر في بغداد والعمارة في الجنوب، والتي من المفترض ان تستكمل بتحول هذا التيار الى حزب سياسي في سياق دمج كل القوى السياسية والميليشياوية في جسم الدولة كما فعل حزب الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى والبيشمركه الكردية والصحوات في الوسط. وتهدف إيران من هذا التعاون الإيجابي التمهيد لفرضية قد تقنع الجانب الأميركي بأن إيران شريك قوي له في العراق، ويمهد ذلك الطريق أمام تعاون أوسع بين الجانبين إقليمياً، ما يعطي إيران دور الشريك الجديد في إدارة المنطقة. إلا ان تطورات الوضع العراقي، وإصرار بغداد على الذهاب بعيداً في التوصل الى اتفاق أمني مع واشنطن، دفع إيران الى التريث كثيراً بإيجابيتها في الكثير من الملفات الإقليمية الأخرى، خصوصاً ان الحديث عن هذه الاتفاقية أتى بعد الإنجاز السياسي الإشكالي الذي حققه"حزب الله"والمعارضة في لبنان في اتفاق الدوحة بعد العملية العسكرية التي شهدتها بيروت، وكذلك الإيجابية التي تبديها حركة حماس في التعاطي مع ملف التهدئة مع الحكومة الإسرائيلية وانفتاحها على المصالحة مع السلطة الفلسطينية على نصاب لم تتضح معالمه حتى الآن وان كان الأساس فيه القبول بدولة فلسطينية على أراضي 1967. وقد رأت طهران في هذا الإصرار محاولة أميركية لإحراجها في اكثر الساحات حيوية بالنسبة لها، وضربة توجه الى مشاريعها السياسية والأمنية في حديقتها الخلفية في العراق، خصوصاً أنها لم تتمكن حتى الآن من قطف ثمار مسارات التعاون الإيجابي في الملفات الأخرى، وان هذه الاتفاقية قد تشكل للجانب الأميركي فرصة للتخلص من الضغوط الإيرانية واستغلال الأزمات التي تواجهها واشنطن في المنطقة. وبالتالي تسمح لواشنطن بالتفرغ لطهران وممارسة المزيد من الضغوط عليها والتضييق على ملفها النووي وفرض إرادتها كاملة في هذا الملف. ويبدو ان القيادة الإيرانية عاتبة على الإدارة العراقية التي ستسمح بعملها هذا بقطع الطريق على طهران لتحقيق أهدافها أو ما كانت تريده في المنطقة من البوابة العراقية، خصوصا وان خيارات استخدام أوراق وملفات أخرى باتت في هذه المرحلة أضيق عما كانت عليه في حرب تموز يوليو 2006، وبعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة. بناء على التطورات التي شهدتها الساحتان اللبنانية والفلسطينية، إضافة الى التطور الأكثر أهمية الذي حدث على مسار المفاوضات الإسرائيلية - السورية الذي لم يكن أيضاً بعيداً عن العين الإيرانية ومواكبتها. وعلى رغم ان طهران تحاول توظيف كل هذه الأمور لفرض واقع إيراني على صعيد الملف النووي على الساحة الدولية والحصول على اعتراف أميركي واضح بقدراتها النووية الى جانب دورها الإقليمي، إلا ان هذا التطور على المسار العراقي سيضعها في مواجهة ضغوط كانت تعتقد انها تجاوزتها للحظة، وسيجعل كل الإيجابية والتعاون الذي أبدته في الملفات الأخرى يذهب أدراج الرياح، وانه بات عليها القتال على جبهة واحدة ومباشرة بعد ان كانت تخاض عنها معارك بالنيابة في أماكن بعيدة عن حدودها ضد مخطط واحد لعدو واضح متعدد الوجوه. ولم تكن طهران تعارض مخطط القوات الأميركية بالانسحاب من المدن العراقية الكبيرة والتجمع في معسكرات خارجها بانتظار جدولة الانسحاب الكامل لهذه القوات من العراق، الى درجة ان هذا العمل كان في مرحلة من المراحل مطلباً إيرانياً على طريق عودة العراق الى العراقيين وحكومتهم، لكن الإصرار الأميركي على تنفيذ هذه الخطوة في هذه المرحلة هدفه أضعاف القدرة الإيرانية على المناورة على الساحة العراقية التي باتت تشكل المتنفس الوحيد لها ومسرحاً للتحرك اكثر حرية من دون ان تواجه اتهامات بالتدخل المباشر. وقد تراجعت قدرة إيران على المناورة في ساحات كثيرة، إذ ان الأطراف الفلسطينية ليست على استعداد أو ليست قادرة على نزع كامل لباسها العربي والدخول فقط تحت العباءة الإيرانية، وهي باتت محكومة بواحد من خيارين، إما الدخول في عملية مصالحة داخلية وفي التعاطي مع العامل الإسرائيلي أو الانتحار الذي لن يكون مقتصراً عليها فقط، بل سيأخذ معه كل الشعب الفلسطيني وحلم الدولة المستقلة. ومن ناحية أخرى دمشق لن تكون على استعداد للمناورة مع طهران في تصعيد الأجواء وتأزيمها بعد أن لمست جدية نسبية في إمكان استعادة مرتفعات الجولان واستغلال لحظة الحاجة الأميركية لتحقيق إنجاز على صعيد الصراع العربي - الإسرائيلي. أما في لبنان فان إمكان تكرار حرب تموز 2006 تبدو غير ممكنة، ويصدق على هذه الساحة ما كان أكده"حزب الله"من أن هذه الحرب هي آخر الحروب التي ستخوضها إسرائيل ضد دول المنطقة وشعوبها، وان إمكان إشعال حرب جديدة على الجبهة اللبنانية بات مستبعداً ما لم تكن الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي وإيران يريدون إدخال المنطقة برمتها في أتون حرب قد تغير تركيبتها وصورتها في المستقبل، وهو أمر لن يكون أي من الأطراف باعتقاد طهران على استعداد لتحمل مسؤوليته. إذاً، ومن زاوية الرؤية الإيرانية، فإن حرباً أميركية أو إسرائيلية ضد إيران أمر مستبعد، انطلاقاً من ان اندلاعها لن يكون من دون رد من قبل طهران، وان الرد لن يقتصر على الحدود الإيرانية، ولن تكون حرباً قصيرة ومحددة الزمان والمكان بين القدرات الأميركية الهائلة والإيرانية المتواضعة بالمقارنة معها، بل ستكون مدخلاً لإشعال حرب شاملة وواسعة في المنطقة كلها ستشارك فيها كل القوى، وستساهم في رسم واقع جديد لن يكون من السهل تحديد طبيعته قبل نهاية هذه الحرب. وفي ظل استبعاد إمكان الحسم العسكري من التصور الإيراني، فان الإدارة الأميركية تحاول سحب الأوراق السياسية وإبطال عناصر التفوق الإيراني في المنطقة واحداً تلو الآخر، فبعد موافقة طهران على دخول حلفائها اللبنانيين في صفقة سياسية بعد الخطوة العسكرية التي أثبتت تفوقهم العسكري، سحبت منها ومنهم على حد سواء قدرة العودة الى ورقة المناورة بالقوة العسكرية على الساحة الداخلية في ظل أجواء تصالحية في كل المنطقة، يضاف إليها، إمكان بلورة مسار تفاوضي مثمر على خط دمشق ? تل أبيب، وخوف فلسطيني من عملية عسكرية إسرائيلية تطيح بما هو موجود وان كان بالحد الأدنى من الطموح. من هنا فإن طهران تعتقد انه وعلى رغم كل الإيجابية التي تبديها في الملفات الإقليمية، فإن إشهار ورقة الاتفاقية الأمنية مع العراق، هي مبعث قلق كبير بالنسبة إليها ومؤشر على رغبة أميركية بمحاصرتها ومحاصرة دورها في المنطقة خصوصاً العراق آخر معاقل المناورة المفتوحة أمامها. من هنا فإنها غير قادرة على استيعاب هذا المتحول ونتائجه، وهو يفقدها ورقة مساعدة القوات الأميركية على الخروج المشرف من العراق ضمن جدول زمني محدد كان من المفترض ان تقدمه لواشنطن كدليل على حسن نواياه في بناء علاقات متوازنة وشفافة معها ومع المجتمع الدولي، ويسمح لها أيضاً وكثمن لهذه المساعدة ان تطالب وتصر على الحصول على اعتراف دولي بإنجازها النووي وبرنامجها السلمي لنشاطات تخصيب اليورانيوم على أراضيها.