في سورية أصوات مميزة ورائعة، وملحنون جدد"واعدون"يشتغلون في إطار الموسيقى العربية وتراثها. هذا ممتاز، ولكن لا يوجد أي إنتاج يذكر في إطار الموسيقى العربية. أما عن"الأصوات المميزة"، فهذا الوصف هو اقتباس مما قاله أساتذة قسم الغناء العربي في المعهد العالي للموسيقى في دمشق، وهم يستمعون الى طلابهم الممتحنين. لكنهم كانوا يتبعون إطراءهم هذا، كما تقول المغنية والاستاذة لبانة قنطار، بكلمة الأسف والتحسر:"يا حرام". وقصة هذه ال"يا حرام"آتية من صميم تجربة لبانة قنطار في مجال الغناء العربي. وهي المغنية التي كان الخيار الوحيد أمامها لدراسة الغناء هو دراسة الاوبرا، لتعود بعدها للعمل على شغفها الأول بالغناء العربي. مرّت حوالى 10 سنوات على قنطار وهي تستعيد تجارب وقامات غنائية عربية. حصل ذلك في كل حفلات الموسيقى العربية التي شاركت فيها، غنت لأم كلثوم وأسمهان وغيرهما. ثم عادت وغنت، وذلك لا يزال يحصل حتى الآن. وطوال هذه السنوات العشر، كما تؤكد، لم تُنتج أي اغنية خاصة بها. كانت هناك محاولات عدة، لكنها تعثرت ولم تخرج الى النور. وتوضح قنطار:"أقنعني رضوان مصري ملحن سوري بفكرة تقديم توزيع جديد لبعض أغاني أم كلثوم وأسمهان، وسجلنا أغنيتين، لكنني في النهاية وبعد سماع القطعتين لم أحس بأنهما يقدمان ما أريده". حتى محاولة تقديم أغان بتوزيع جديد لم يؤت أصحابها الجرأة على تقديمها، الموقف نفسه حصل عندما أرادت الفرقة الوطنية للغناء العربي تقديم بعض مؤلفات قائدها عصام رافع، وآخرين من الملحنين السوريين الشباب، وبقي المشروع قائماً مع وقف التنفيذ. وتقول قنطار ان وقف تنفيذ هذا المشروع، وما يعرقل مشاريع شخصية أخرى، هو"التثبيط"الذي تواجه به هذه التجارب عند إشهار نية القيام بها. وفي بداية محاولة تقديم اعمال المؤلفين السوريين، بحسب المغنية قنطار، كانت"العقبة أن أحداً لم يشجعنا". ورست الفكرة أخيراً، بعد أخذ وردّ، على عدم تخصيص الحفلة كاملة لأعمال الموسيقيين الشباب، بل تقديم عمل أو عملين لهم في حفلة"كلثوميات"أو"أسمهانيات"، وذريعة مقدمي النصائح وغير المتشجعين تكمن في ان مزاج الجمهور لا يحتمل الجرعات المركزة في التجارب الجديدة، خصوصاً في حقل الموسيقى العربية، ولا بد من طعم ليستسيغوا فكرة الحضور. وحتى هذا الاقتراح الاخير، متضمناً النكهات التقليدية، لا يزال قائماً في الهواء وإشعار تنفيذه لم يعط بعد. وتذكر قنطار أنها في صدد إنتاج خاص لأسطوانة تضم أعمال قائد فرقة الغناء العربي كمال سكيكر وآخرين لديهم قصائد عربية ملحنة وجاهزة للغناء، وهي ستضع الجهات التي تعلن تشجيعها الكلامي على المحك وتطلب منهم رعاية هذا المشروع. والنتيجة من كل ذلك أن هناك ثلاث فرق للموسيقى العربية في سورية. فرقة الغناء العربي التي أسسها أساتذة المعهد العالي للموسيقى، وتضم خريجين وطلاباً فيه. وفرقة"أوركسترا"طرب التي ترعاها دار الاوبرا ويقودها ماجد سراي الدين، اضافة الى فرقة الموسيقى العربية التي تشكل موازياً للاوركسترا الوطنية. وجلّ ما تفعله هذه الفرق استعادة التراث العربي، وإعادة تقديمه وفق أشكاله المعهودة! صحيح انها خطوة ضرورية ولازمة، لكن هذا لا يعني ان تكون استعادة التراث الشغل الشاغل لأبرز ثلاث فرق موسيقية عربية في البلد، فيما لم ينتج عملها حتى الآن أغنية واحدة جديدة. مع التذكير بأن دار الاوبرا تقوم بمشروع إحياء التراث الموسيقي العربي وتوثيقه، وانتجت 13 أسطوانة سي دي في هذا الاطار، لموسيقيين وعازفين عرب وسوريين. وبالتزامن مع مناخ الركود الذي يعيشه المشتغلون في الموسيقى العربية، هناك نشاط وفورة في مناخ آخر. فالفِرق التي تستعير القوالب الموسيقية الغربية، من"جاز"و"روك"وغيرها، لتقدم في إطارها الغناء العربي، هي في ازدياد مطرد. ومعظم العاملين في تلك الفرق هم موسيقيون، ومغنون، ومتخصّصون وأكاديميون ينتابهم اليأس من مجرد التفكير بالعمل في إطار قوالب الموسيقى العربية وتراثها المحض. ويرى الناقد والمؤرخ الموسيقي أحمد بوبس ان انتشار هذه الفرق الشابة يأتي نتيجة التأثر بالرائج في الغناء المعاصر. ويضيف:"في ظل انتشار موجة الغناء الهابط يظنون الفرق السورية الشابة انهم اذا سايروا واقتربوا من هذه الموجة في ألحانهم وتوزيعهم الموسيقي، فربما يحصلون على انتشار اكبر". لكن هذا"المأخذ"الذي يربط صاحبه، مكتسباته الجانبية الانتشار والرواج بأمد لن يطول، لا يبدو انه يعني كثيراً الفرق الشابة، فأعضاؤها يعلنون أن عملهم في الاطار الغربي، هو شغفهم الذي سيعود بالتطوير على حقل الموسيقى العربية في النهاية. ومنهم ايضاً من ينتقد عمل زملاء لهم، يُعنوِنون تجربتهم باسم استعادة التراث او يقدمونها على سبيل"حوار الحضارات". وهي تجارب أعادت تقديم أغان تراثية في قوالب موسيقى ال"جاز"وغيرها. وانتقادهم يركز على ان هذه الاستعادة هي نوع من"التضليل"للجمهور العربي والغربي في آن، فالأول لا يسمع من تراثه الا كلاماً والثاني تقدّم له هذه التجارب على انها"التراث الشرقي". ويبقى لمن تشكل له الموسيقى العربية همّاً، الحيرة ازاء معادلة غير متحققة. فالأصوات موجودة، والملحنون كذلك، لكن وسيط التفاعل ولازمته، وهي الجهة المنتجة، لا تزال غائبة، في ظل غياب الانتاج الخاص الذي يكدره الحديث عن مشاريع في الموسيقى العربية التي"لا تمشي في سوق هذه الايام". اضافة الى غياب قانون فاعل يحمي حقوق المؤلف والملكية الفكرية.