هل لاحظتم الدور الذي تمارسه استطلاعات الرأي في مواكبة الانتخابات التمهيدية لمرشحي الرئاسة الأميركية عن الحزبين الكبيرين الجمهوري والديموقراطي؟. ألم يلفت انتباهكم الحملات المحمومة لاستكشاف ميول الناخبين التي تضطلع بها مراكز الاستطلاع، متعددة الاختصاص ومختلفة المكانة والصدقية، قبيل وأثناء وبعد كل جولة انتخابية لهذا المرشح أو ذاك في واحدة أو أخرى من الولايات.. بل وان هذه العملية تحدث أحيانا بين يدي كل تصريح أو خطاب للمرشحين أو أية شاردة أو واردة تصدر عنهم؟. والأمر كذلك، تبدو هذه المراكز وكأنها ثالثة أطراف العملية الانتخابية إلى جانب المرشحين والناخبين. وبالطبع نستطيع أن نرفع عدد هؤلاء الأطراف إذا ما أضفنا إليهم تأثير وسائل الإعلام والممولين المتبرعين والشخصيات والرموز من ذوي الشعبية العامة أو السيرة الذاتية السياسية وغير السياسية المميزة. دراسة تفضيلات الناخبين بعد محاولة التعرف عليها وملامستها مهمة أصيلة وبارزة ،وان لم تكن الوحيدة، من بين المهام التي تنبري لها مراكز بحوث الرأي العام. لقد أضحت هذه البحوث مرجعية يعتد بها لمتابعة الاتجاهات والرؤى والمواقف على أكثر من صعيد وفي غير حقل ومجال. وفي الوقت الراهن، فإننا أينما ولينا وجوهنا وجدنا من ينشغل بنتائج الدراسات المسحية. يحدث هذا على مستويات تبدأ بالأفراد والمؤسسات وتنتهي بالدول و أحيانا بمناطق شاسعة كالعالم العربي أو حتى بقارات. ولسنا بعيدين اليوم عن توجه إدارة الرئيس جورج بوش الابن لتحسين صورة الولاياتالمتحدة وتخصيص دائرة خاصة بذلك، بالنظر للمسموح الذي أثبت رداءة هذه الصورة في النطاق"العالمي"بأسره. على أن الاستطلاعات السياسية، شأن معظم مباحث الاجتماع السياسي، عرضة للتوظيفات والاستخدامات بحسب أهداف وأهواء قد لا تكون نزيهة دوما أو حيادية. فهناك ما يوحي بأن بعض رعاة هذه الاستطلاعات يخوضون بها معاركهم ويصفون بها حسابات مع خصومهم و منافسيهم في الداخل أو مع أعدائهم في الخارج. نحن بصيغة أخرى بصدد واحدة من العمليات التي تسمح بصناعة الصورة أو الحدث أو الدعاية بالموجب أو بالسالب أو بالتمهيد لتحركات يصعب فصمها عن صراعات المصالح والإيديولوجيات والسياسات.وفي حالات بعينها،عرفنا بعض القوى التي تمكنت من التوسل بالاستطلاعات لمخادعة منافسيها والتمويه عليهم والتغطية على موازين القوى الحقيقية معهم. يقال مثلا بأن حركة"حماس"الفلسطينية وجهت أنصارها وأعضاءها إلى التصويت لغير صالحها في استطلاعات الرأي السابقة على الانتخابات العامة بالضفة وغزة في كانون الثاني يناير 2006، الأمر الذي طمأن منافسيها إلى احتمال الفوز عليها إلى أن فوجئوا بعكس ذلك عند التصويت الفعلي!. كذلك يحدث أن يجري التأثير في خيارات المستطلعين عبر أدوات التعبئة والحشد والتوجيه الدعائي المكثف. ولأن هذه العملية غالبا ما تتم بنعومة وسلاسة على أيدي خبراء مخضرمين، فان تداعياتها تخفي على جمهور المصوتين أو الجماعات المقصودة بها، بحيث يدخل في روعهم انهم قاموا بالاختيار الصحيح وبإرادتهم الحرة..فيما الحقيقة أنهم إنما طوعوا ووجهوا إلى ما اختاروا من حيث لا يدركون. وللإنصاف، فإن مراكز بحوث الاستطلاع والقائمين عليها ربما وقعوا هم أنفسهم ضحية تكتيكات التوجيه بقصد الوصول باستطلاعاتهم إلى نتائج محددة. فقد يطلب إليهم إجراء مسح بعينة خدمة لجهة ما، بعد أن يتم تحديد نوعية العينة المطلوب استقصاء رأيها والأسئلة المراد أجابتها وأسلوب طرحها . وربما حددت هذه الجهة الوقت الذي ينبغي إجراء الاستطلاع فيه ووقت ومناسبة إعلان نتائجه ووسيلة هذا الإعلان. وفقا لهذه العملية شبه المتكاملة، غالباً ما نصبح أقرب إلى استنطاق للرأي بأكثر مما نكون إزاء معاينة عشوائية لآراء الجمهور حول المسألة موضع الاهتمام. أي أن بحوث الرأي ونتائجها لا تعبر في مثل هذه الحالة عما يجيش حقاً في خواطر المستطلعين بشكل تلقائي أو منساب، وإنما يراد بها المساهمة في صنع الرأي وتقييد تفضيلاته على نحو صارم، ثم تجيير هذه التفضيلات لخدمة سياسة معينة. لا تتبدى مثل هذه التكتيكات لعموم الجمهور، لكن الراسخين في العلم وبحور السياسة، وما يتصل أو يخلط بها من مباحث نفسية وإعلامية ودعائية على صعيدي الفكر والحركة، على دراية بها. ولذا فإن اهتمامهم باستطلاعات الرأي وحرصهم على مطالعتها وتفهم مغازيها، لا يسوقهم إلى الانحناء لها مباشرة أو الاستماع لها والعمل بإيحاءاتها في كل الأوقات والمناسبات. فلو كان الأمر على هذا النحو، فلربما تغيرت خريطة الزعماء المنتشرين من حولنا"المنغمسين في معظم قضايانا العربية الساخنة. فزعماء مثل إيهود أولمرت في إسرائيل وجورج بوش الابن في الولاياتالمتحدة أهملا طويلا الاستطلاعات التي قالت إن شعبيتهما لا تؤهلهما لموقعيها القيادية الأولي في بلديهما. واستمر توني بلير في رئاسة الوزارة البريطانية لسنوات رغم أنف المسوح التي أكدت افتقاده لقوة الإسناد الشعبي. ويبدو أن نيكولا ساركوزي يمضي على الطريق ذاته كما تقول أحدث استطلاعات الرأي في فرنسا، وذلك بسبب شططه في مخالفة التقاليد الاجتماعية لأسلافه في الاليزيه. لا تتمتع أرقام الاستطلاعات وحساباتها إذاً بالقول الفصل في تحديد حال الزعماء والقادة ومآلهم.. لكن المنتمين من هؤلاء للمجتمعات الديموقراطية التي يحسب فيها للرأي العام حساباً، يأخذون هذه الأرقام على محمل الجد ويسعون حثيثاً لتغييرها لصالحهم، موظفين في ذلك فيالق من خبراء الدعاية وصناعة الرأي العام. انتقاد استطلاعات الرأي وبيان ما قد تحتوي عليه من مخبوءات وأجندات خفية وما يرتبط بسيرورتها من مصالح،والتحذير من انطوائها أحياناً على عمليات تزييف أو لىّ للحقائق، هذه المثالب ونحوها لا تعني نبذها أو عدم الاعتماد عليها بالمطلق. فهذه الآلية هي من تجليات الحداثة والممارسة الديموقراطية بكل مظاهرها، حتى ما عادت بعض المؤسسات في المجتمعات المتقدمة تستغني عنها في تحسس نبض الشارع واستنكاره ردود أفعاله إزاء أنشطتها وفعالياتها. وفي بعض الأحايين يكون لمداخلاتها وآرائها المعززة بالجداول والأرقام اليد العليا في تحديد هذه الأنشطة والفعاليات وتحديد المواقف ورسم السياسات. لنتذكر مثلاً كيف رفع بيل كلينتون شعار"انه الاقتصاد يا غبي"في حملته الانتخابية عام 1992، وكيف انه تمكن بذلك من دحر منافسه جورج بوش الأب. لقد كان هذا الأخير في أوج قوته السياسية بعد أن أعلن انتصار الولاياتالمتحدة في الحرب الباردة وخرج مظفراً من معركة"تحرير الكويت"عام 1991. لكن كلينتون، أذكى الرؤساء الأميركيين طراً تقريباً، كان قد استمع إلى استطلاعات الرأي التي أكدت أن الناخب الأميركي يضع الاقتصاد أولاً. وللمفارقة فان بعض الاستطلاعات الطازجة أثبتت مجدداً أن الاقتصاد ما زال هو القضية الأولى عند هذا الناخب في الحملة الجارية راهناً. وتقديرنا أن مجريات هذه الحملة تنسجم مع هذا التقدير، مؤكدة في الوقت ذاته أنه ليس سياسياً حصيفاً من يستبعد بوصلة الاستطلاعات. پ * كاتب فلسطيني.