نكتب هذه الكلمات وأيدينا على قلوبنا، بالطبع. فالكلمات عن يوسف شاهين، المخرج والمبدع والصديق. والمناسبة وصوله، صحياً، الى حال الخطر الشديد. عواطفنا وأقلامنا وذكرياتنا مستنفرة تماماً في انتظار مجيء لحظة لا يريد أحد منا، نحن محبو يوسف شاهين وأصدقاؤه، أن تجيء. عزاؤنا أنها لحظة لم تتوقف عن إعلان حضورها قبل أن تغيب، غير مأسوف عليها، مرة كل سنتين على الأقل، منذ عشر سنوات وأكثر. فمنذ زمن ويوسف شاهين في حال الخطر الشديد. وهو نفسه سبق أن صور هذه الحال في لحظات سينمائية عدة في أفلام العقود الأخيرة. وتحديداً منذ حقق"حدوتة مصرية"فيلم سيرته الذاتية، الذي انطلق من عملية القلب المفتوح التي أجريت له وجعلته يشعر بالموت قريباً منه. في هذا السياق، ليست هناك مفاجأة على الإطلاق... إذ نعرف جميعاً أنه يعاني من ذلك القلب. القلب الكبير نفسه الذي دائماً ما انفتح على العالم، على الآخر، على الإنسان وقال عالياً، وإن بالصورة والحوار المتلعثمين قصداً، ما يهمس به كل فكر عربي نيّر. هل سنبدو قساة إن نحن قلنا إننا، منذ زمن نترقب تلك اللحظة... حتى ولو أكدنا أن أيدينا دائماً على قلوبنا خوف مجيئها؟ في كل مرة نزور فيها جو وهو يصور فيلماً من أفلامه، نقف قلقين نراقب الفارق في الحماسة والقوة لديه، بين أول أيام التصوير وآخرها. في الآخر يكون منهكاً، بالكاد قادراً على الحركة، يتمنى لو أن في إمكانه أن يفعل ما يفعله عشرات المخرجين الآخرين: أي أن ينهي تصوير فيلمه كيفما اتفق. أن يختصر، أن يسلق الأمور"سلقاً"، بحسب التعبير الشائع، لأنه تعب وبات يخشى أن يموت قبل أن يقول آخر"آكشن"في برنامج العمل. لكن شاهين، القادر على كل شيء، يبدو فقط عاجزاً عن هذا. بل أكثر: يروي لنا منتجه وصديقه وابن أخته غابي خوري، انه دائماً حين يقترب التصوير من نهايته،"أقصده مشفقاً قلقاً"، كي نختصر العمل ونضحي بشيء من"الكمال"المتوخى، حاملاً إليه برنامجاً بديلاً... فأفاجأ به يبادرني قبل أن أتكلم، قائلاً:"... اسمع يا غابي، جاءتني فكرة رائعة لفيلمي المقبل". هنا في مثل هذه الحالات يسقط في يد غابي، ويضرب وجهه بيديه،"خوفاً على الأستاذ"، لكنه في الوقت نفسه يدرك أن عليه أن يستعد لخوض مغامرة أخرى جديدة معه، غالباً ما تكون السينما هي الرابحة فيها. وهذه"الغالباً"هي هنا من عند كاتب السطور... وبالتحديد لأن بعض ما يحققه شاهين في السنوات الأخيرة، كفيلم كامل أو كجزء من فيلم، ليس من المنطقي اعتباره ربحاً للسينما. هذا الكلام قد يبدو هنا في غير محله، لكن شاهين، الفنان والناقد الصديق، عودنا دائماً أن نكون صادقين معه. من هنا حين نقول له مثلاً، ان"الآخر"لم يقنعنا، وأن النصف الثاني من"هيّ فوضى"، أشبه بفيلم هندي متهافت، وأن بعض ما في"سكوت حنصوّر"ليس شاهينياً، لا يزعل... بل يتذكر تماماً أن من يقول له هذا، هو نفسه من يدافع بقوة عن"إسكندرية/ نيويورك"، ومن حمل"المصير"راية عالية للسينما العربية، وناصر"المهاجر"وپ"اليوم السادس"يوم كان عرضة للهجوم على جبهات عدة. حين نقول لشاهين إن"الاسكتش"الذي حققه في"10/9"ساذج وغير منطقي بل ديماغوجي، لا يفوته في اللحظة نفسها أن من يقول هذا، هو نفسه الذي اختار"الأرض"وپ"باب الحديد"وپ"عودة الابن الضال"ثلاثة من بين أعظم عشرين فيلماً في تاريخ السينما العربية. الفنان والناقد لعبة العلاقة مع النقد يتقنها شاهين اتقاناً تاماً. يعرف أن المبدع في حد ذاته هو صاحب نظرة نقدية تلقى على الآخر، على التاريخ وعلى الذات. وبالتالي لا يحق له أن يغضب حين يلقي ناقد ما، ولو نظرة قاسية على أعماله هو نفسه. وشاهين عبر عن هذا، في شكل عملي وجميل ذات مرة: كان ثمة شيء من الجفاء بينه وبين كاتب هذه السطور. وكان شاهين يصوّر في ذلك الحين بعض مشاهد رائعته"المصير". كنا في القاهرة مع أصدقاء آخرين من بينهم الناقد قصي صالح الدرويش، والراحل غسان عبدالخالق. دعتنا يومها الفنانة الصديقة ليلى علوي، بطلة الفيلم لحضور التصوير ليلاً في استوديو جلال. ترددنا، إذ لم نرد أن نربك شاهين بزيارتنا موقع التصوير ونحن على جفاء. قالت: الدنيا ليل، وأرجو ألا تلتقيا. فإن التقيتما، حاول أن تتصرف بهدوء. ذهبنا وشاهدنا التصوير واقفين جانباً. ولكن في لحظة كنا نتحدث فيها الى ليلى، فاجأنا شاهين بوقوفه معنا مرحباً وهات يا عناق. دهشت ليلى ونظرت الى شاهين متسائلة بعينيها، فقال رداً على نظرتها:"إيه... مالك... ما إحنا وأنا وإبراهيم بنشتم بعض من ثلاثين سنة ولا نزال زي البمب...". هكذا اختصر شاهين، يومها، الحكاية. واليوم لربما سيكون في إمكانه بعد أيام أن يلتقط أنفاسه بعد زوال الخطر، ليقول:"فيها إيه... زعلانين ليه... ما أنا والموت نتصارع منذ ثلاثين سنة... ولا نزال زي البمب...". وبصراحة: قد لا يحدث هذا، هذه المرة. وقد تنهار سنوات جو ال82 أمام هجمة المرض والموت الشرسة عليه. فإذا كنا جميعاً سنحزن لهذا ونبالي... فمن المؤكد أن شاهين لن يبالي كثيراً. فهو، كمبدع، شاعر... ويعرف تماماً قولة جان كوكتو من أن الشعراء لا يموتون طالما ان أغنياتهم تبقى منتشرة في الأزقة. وشاهين حقق طوال ستين سنة، تقريباً، حتى الآن، أفلاماً من المؤكد أن معظمها يبقى حياً... بل ستبقى حيّة أيضاً، أجزاء كثيرة ومواقف حتى في أفلامه الأقل جودة. فالحال، إذا كان اسم يوسف شاهين قد تصدّر الصحف ووسائل الإعلام في هذه الأيام في أخبار تتابع لحظة بلحظة وضعه الصحي وغيبوبته ونقله الى فرنسا واحتمالات النهاية، فما هذا إلا لأنه ? بالتحديد ? حقق هذه الأفلام وصور تلك المشاهد. ولعلنا، في تأملنا لهذا الواقع الأخير، نعلن بهدوء انتصاراً ما ليوسف شاهين. وإذ نقول يوسف شاهين هنا، نعني في الوقت نفسه انتصار السينما، وأكثر من هذا: انتصار المخرج. ذلك أن الكلمات الثلاث: شاهين، سينما، ومخرج، ليس من السهل تفريقها عن بعضها بعضاً. وهذا منذ فيلم شاهين الأول"بابا أمين"الذي بتحقيقه عام 1949، أعلن شاهين ولادة جديدة لنجم سينمائي جديد هو المخرج. لا نعني بهذا أن المخرج لم يكن موجوداً قبل ذلك في السينما العربية... إذ إن مبدعين مثل صلاح ابو سيف وكامل التلمساني وكمال سليم وحتى نيازي مصطفى وبركات وربما كمال الشيخ وعاطف سالم، حضروا مبدعين حقيقيين في السينما المصرية قبل شاهين. لكن شاهين خطا بموقع المخرج خطوة أخرى الى الأعلى: أعلن ولادة المخرج ? المؤلف، المخرج الذي يستقي مواضيعه من نظرته الى العالم ومن همومه الخاصة الذاتية، حتى في بعد نرجسي، لاحقاً، فارضاً على السيناريو رؤاه، حتى وإن كتبه آخرون، ومبدعون كبار في أزمانهم من طينة عبدالحي اديب "باب الحديد" أو لطفي الخولي "العصفور" أو حسن فؤاد "الأرض"عن رواية لعبدالرحمن الشرقاوي. وكان هذا هو الجديد: ولادة المخرج ? المؤلف، أو شبه المؤلف، وذلك قبل ولادة هذا، على يد الموجة الجديدة الفرنسية بنحو عقد كامل من السنين. إذ، علينا ألا ننسى هنا أن شاهين يمكن اعتباره في الإبداع العربي، الترجمة المبكرة، لما سيقوله في آخر سني حياته الكاتب الفرنسي آلان ? روب غرييه، من أن المبدع، ومهما كانت موضوعية ما ينتج وشيئيته، هو لا يتحدث في نهاية الأمر إلا عن نفسه. وشاهين، لأنه مبدع حقيقي، جعل سينماه مرآة لنفسه منذ البداية: إذ حتى"بابا أمين"، إن نظرنا إليه اليوم على ضوء مسيرة شاهين التي نعرف، سيبدو فيلماً ينتمي الى السيرة الذاتية. معارك ومعارك ولنضف الى هذا أمراً أساسياً: أن يوسف شاهين هو واحد من قلة من مبدعين عرب، لم يمارس في حياته سوى مهنة واحدة: الإخراج السينمائي. ربما انتج أحياناً، وربما مثّل في بعض أفلامه، وربما حقق عملاً أو أكثر للمسرح، لكنه بصورة عامة، أمضى عقود حياته المهنية، حتى الآن، وهو لا يعرف لنفسه مهنة أخرى سوى الإخراج السينمائي. ولعل هذا ما يوصلنا الى لحظة الدهشة القصوى، التي تبعثها ظروف أيامنا هذه جاعلة من أخبار يوسف شاهين الصحية، أخبار صفحات أولى في معظم الصحف ونشرات الأخبار العربية. ذلك أن المدهش في هذا ان شاهين ليس رجل سياسة ولا هو نجم غناء، ولا ظاهرة اجتماعية. شاهين هو، وفقط، مخرج سينمائي. ومع هذا ها هو يعامل، إعلامياً، كنجم حقيقي، وها هم عشرات ملايين العرب، وأهل مهنة مهتمون خارج العالم العربي أيضاً، يتابعون وضعه الصحي لحظة بلحظة، بمن فيهم أناس ربما لم يقيض لهم أن يشاهدوا أي فيلم كبير من أفلام شاهين. ترى، أوَليس في هذا كله انتصار للمبدع، ولا نعني هنا بالمبدع شاهين وحده، بل بالمبدع العربي في شكل عام؟ وترى، كم مخرجاً سينمائياً في العالم يمكنه، حين يمرض وينقل الى المستشفى، أن يحظى بمثل هذا الاهتمام العام؟ نحن قد نفهم ضجة تُثار من حول رحيل سعاد حسني أو أحمد زكي، وحزناً يسود لرحيل أم كلثوم أو فريد الأطرش أو فائزة أحمد، أو ? بخاصة ? عبدالحليم حافظ، أو جمال عبدالناصر... ولكن - بصراحة - يدهشنا الاهتمام نفسه إذ يُعطى لفنان، شديد الخصوصية، مثل يوسف شاهين. ومرة أخرى نميل الى اعتبار هذا الاهتمام انتصاراً للفن الحقيقي. الفن الحقيقي... وإن كنا نعرف أن ليس كل ما حققه شاهين، حتى الآن، ينتمي الى هذا الفن الحقيقي. فالمخرج الذي حقق بعض أجمل روائع السينما العربية ? خائضاً في سبيلها ألف معركة ومعركة - هو نفسه الذي حقق ميلودرامات غنائية قد لا تتماشى كثيراً مع سمعته سلسلة أفلام مع فريد الأطرش، يصعب على المرء تخيل تحقيق شاهين لها، حتى وإن كانت تعتبر من أفضل أفلام هذا الفنان الموسيقي الغنائي الكبير، وهو نفسه الذي حقق أعمالاً هي أقرب الى فن الدعاية الديماغوجي مثل"الناس والنيل"وپ"الناصر صلاح الدين"حتى ولو اننا كنا نتمنى لو أن كل الفنون الديماغوجية العربية تأتي على هذا المستوى... ففي مسار يوسف شاهين أعمال لا ترقى الى مستوى شاهين. ولكن بما أن فن السينما هو ما هو عليه، وبما أن الأمر ليس بطولات دونكيشوتية، يبقى أن في إمكاننا التأكيد أن شاهين، حتى حين يحقق أعمالاً"تجارية"أو"ديماغوجية"يظل قادراً على أن ينفذ بجلده ويزين العمل، أي عمل، بلحظات شاهينية حقيقية، ما جعله يبقى دائماً متساوقاً مع نفسه، محافظاً على ما يمكننا اعتباره حدوداً دنيا في لعبة الإبداع. انطلاقاً من هذه الفكرة، فقط، يمكن النظر دائماً الى سينما شاهين بغثها وسمينها، على أنها تشكل وحدة متكاملة ترتبط فيها دائماً عناصر أساسية متكاملة: عنصر النظرة المشاكسة الى الواقع، عنصر موقع الذات في هذا الواقع، وعنصر الربط بين الأسباب والنتائج. فمثلاً حين يريد شاهين أن يتحدث عن هزيمة عربية، يعرف تماماً أن عليه ألا يكتفي بالقول إن هناك هزيمة وأن هذا الطرف أو ذاك هو المسؤول عنها... بل يصل الى ربط الهزيمة بأسبابها العميقة، وبالخيانات وضروب التخلف والصراعات واتساع النسيج في هذا المجال هو الذي جعله، مثلاً، لا يتحدث عن هزيمة حزيران/ يونيو في أقل من أربعة أفلام متكاملة:"الأرض"،"العصفور"،"الاختيار"وپ"عودة الابن الضال"، ومحاكمة الراهن، في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، احتاجت منه الى عودة الى التاريخ فكانت أفلام تبدو لنا مترابطة في نهاية الأمر، مثل"وداعاً بونابرت"وپ"المهاجر"وپ"المصير"، ومحاكمته ? الساذجة على أية حال لما تصور، وصُوِّر له أنه العولمة - احتاجت منه أفلاماً عدة وتدخل مفكرين سايروه في فكرته عن العولمة مثل الراحل إدوارد سعيد والسياسي حامدين الصباحي، في"الآخر"، عبر ثرثرة غير مفيدة وكذلك الى مواقف عدة نجدها في أضعف أفلامه "الآخر"وپ"10/9" كما في أقواها "إسكندرية/ نيويورك". غير أن شاهين لا ينسى، في خضم هذا كله، أن يحاكم فئة رأى ? وربما لا يزال ? أنها مسؤولة الى حد كبير عما يحدث، هي فئة المثقفين. ومن هنا رأيناه يدين هذه الفئة، وفي عدد كبير من أفلامه مثل"باب الحديد"وپ"الاختيار"وپ"الأرض"وپ"عودة الابن الضال"، ما أوصله الى ذاته ومحاكمتها، وغالباً عارية، في سلسلة أفلامه الذاتية، التي قد تحسب ذات يوم، من أفضل ما حقق شاهين وحققت السينما المصرية في تاريخها، والتي بدأت في شكل شديد الوضوح لأن ذاته حضرت، أصلاً، في معظم سينماه، عملياً ومنذ فيلمه الأول كما أشرنا، مع"إسكندرية ليه؟"لتصل الى"إسكندرية/ نيويورك"مروراً بپ"حدوتة مصرية"وپ"إسنكدرية كمان وكمان". لكن المدهش في هذا كله وعند هذه النقطة، هو أن شاهين عاد وربما منذ"المصير"ليتصالح، من ناحية مع ذاته، ومن ناحية أخرى مع المثقف، بعد إرهاصات حول هذه العودة، في"وداعاً بونابرت"وپ"المهاجر"... وربما يعود هذا، ببساطة، الى أن شاهين، إذ تفاقمت الهزائم العربية، وتبين أن ثمة في العالم العربي ? والإسلامي أيضاً، لكن هذه حكاية أخرى -، ما هو أخطر: الإرهاب الذي يطاول المثقف وانطلاقاً من سيرورة الوعي العام، أكثر كثيراً مما يطاول السلطات القمعية وغير القمعية، غيّر اتجاهه، وراح يدافع عن المثقف والفكر بكل وضوح، ما كلفه غالياً كما نعرف. هاملت الاسكندراني طبعاً ليس المجال هنا مجال الاستفاضة في هذا كله... كل ما في الأمر اننا حاولنا، أن نقترح إجابة عن سؤال مطروح اليوم يتعلق تحديداً بهذا الضجيج القائم من حول الوضع الصحي ليوسف شاهين، الضجيج المحمود طبعاً، والذي يجعل مبدعاً من طينة شاهين، يقفز الى الواجهة كنجم حقيقي وهو في غيبوبته يعاني ما يعانيه، مع علمنا التام أنه إن نجا هذه المرة - كدأبه دائماً ولله الحمد -، سيكون من الصعب - وربما من المستحيل - أن يذعن ابن أخته ومنتجه غابي خوري، لمشيئته إن قال له إن لديه مشروعاً جديداً... ذلك أن"هيّ فوضى"أثبت، حتى قبل العارض الصحي الذي تعرض له جو، ويكاد يقضي عليه، أن الأستاذ لم يعد قادراً، بعمره المتقدم، على أن يقدم جديداً، حتى ولو أدى هذا - لأسفنا الشديد - الى موت المشروع الوحيد الذي حمله شاهين، منذ ما قبل بداياته السينمائية، لكنه لم يتمكن أبداً من تنفيذه: مشروع هاملت الاسكندراني.