في واحد من كتبه الاخيرة، "حكاية القط البري" يروي لنا عالم الاناسة الفرنسي كلود ليفي ستراوس حكاية فرصة التلاقح والتوأمة التي اضاعها الغرب على نفسه، حين رفض كريستوف كولومبس، يد "الهنود" الحمر التي امتدت نحوه ما إن وطأت قدماه وأقدام رفاقه الارض الاميركية، فكان ان ذبح اولئك الذين كانوا ينتظرون وصوله بشغف، بدلاً من ان يعانقهم. وهذا الامر تشرحه ليفي ستراوس على الشكل الآتي: إن سكان اميركا الاصليين كانوا، تبعاً لأساطيرهم ومعتقداتهم، يعيشون منذ اقدم الازمان في انتظار "توأمهم" الابيض يأتي من البحار الشرقية، ليكتملوا به. وهكذا حين وصلت سفن كولومبس، مكتشفة او غازية، اسرع السكان الاصليون وهم على أتم الاستعداد للتآخي. فما كان من البيض، خوفاً او طمعاً او بحسب العادة، الا ان مارسوا العنف القاتل. شيء من هذا القبيل، ولكن مع فارق اساس في التحليل وعمق القضية المعبّر عنها، هو ما يحدث في فيلم "اسكندرية/ نيويورك"، عمل يوسف شاهين الاخير - حتى الآن، وفي انتظار بدء اتضاح مشروعه المقبل "هاملت الاسكندراني" - مع انقلاب "جغرافي" فقط في الادوار: فعندما يكتشف يحيى، شخصية الفيلم الرئيسة، ان له في نيويورك ابناً غير شرعي كان انجبه من دون ان يدري، من حبيبته الاميركية جنجر، يشعر ان حياته اكتملت اخيراً، خصوصاً ان الأم اطلقت على ابنها اسم اسكندر، وان اسكندر هذا اذ اصبح نجم باليه معروفاً وناجحاً، حقق في هذا الفن ما كان يصبو اليه يحيى الشاب نفسه. وهكذا اذ يمد يحيى يده الى اسكندر، ساعياً وراء ما يشبه توأمة الروح - التي تتجاوز الاشخاص هنا في دلالاتها - يرفض اسكندر اليد الممدودة، مما يجعل اللقاء مستحيلاً، حتى وان ترك شاهين نهايته مفتوحة بعض الشيء، وألقى اللوم كله على نيويورك، من خلال اغنية الفيلم النهائية. الترميز والتبسيط يقينا ان الترميز هنا واضح كل الوضوح، وأن البعد الايديولوجي الذي هو وليد مباشر لما حدث بعد 11 ايلول سبتمبر 2001 يصل الى حد التبسيط... ولكن من دون ان يدنو الامر كله من "تصفية الحسابات" التي اشار كثر - بمن فيهم شاهين نفسه - بصدد الحديث عن هذا الفيلم: تصفية الحسابات بين شاهين وبين "أميركا". الافضل ان نقول ان التناحر هنا هو بين ماضي اميركا وحاضرها، صورتها التي تكونت على مدى عقود طويلة من القرن العشرين، في اذهاننا - ويوسف شاهين واحد منا في هذا المجال -، وبين ما آلت اليه هذه الصورة اليوم. وفي هذا الاطار ليس ثمة اي غموض او تحايل في الفيلم. وحسبنا ان نتذكر ان الشخصيات الاميركية الايجابية تملأ الفيلم من اوله الى آخره، حيث يصبح اسكندر هو الشخصية السلبية الوحيدة تقريباً. وحسبنا ان نصغي جيداً الى ما يقوله يحيى لاسكندر في المقهى حين يجتمعان قرب نهاية الفيلم ل"تصفية الحساب" بينهما... بل حسبنا ان نرصد حتى دموع يحيى ودموع... اسكندر بعدما يصبح اللقاء مستحيلاً. وإزاء هذه العلامات كلها، لا تعود مهمة، في اعتقادنا، كل تلك التصريحات والمقالات التي تضع "اسكندرية/ نيويورك" في خانة الصراع الحضاري والايديولوجي بيننا وبين اميركا... وربما بيننا والغرب كله. من المؤكد ان شاهين اكثر رهافة من ان يجعل نفسه رأس حربة في صراع من هذا النوع، حتى لو ابدى بطله يحيى، بين الحين والآخر غضباً على اميركا وانتقد سياسييها وممارساتها "الاستعمارية" الجديدة، ثم رفض ان نكرمه قبل ان يعود ليقبل ذلك من جديد. ثم ان الفيلم نفسه اكثر غوصاً في لعبته الفنية وأكثر جمالاً من ان يكون مجرد منشور سياسي "على الموضة" كما رآه كثر... حتى خلال عرضه في الدورة الاخيرة لمهرجان "كان". بل في يقيننا اننا اذا نحينا بعض "الخطابات" السياسية العرضية، وغضضنا الطرف بعض الشيء عن دلالة استحالة اللقاء بين يحيى واسكندر - بسبب عناد هذا الاخير وربما وقوعه تحت عنصر المفاجأة -، نصبح امام عمل فني جميل، فيه اكثر من تحية لهوليوود، وأكثر من حنين الى ايامها الطيبة" فيه عتب على أميركا التي تخون اميركا قبل ان تخون اي امر آخر... في هذا الاطار يمكننا ايضاً ان نقول ان قلة من افلام السينما، عرفت كيف توجه مثل هذه التحية الطيبة الى السينما الاميركية، بل الى الانسان الاميركي، وتفتح الباب واسعاً امام التفاهم والتسامح ولنستعرض هنا الشخصيات الاميركية من خطيبة اسكندر، الى استاذه الى بولي، الى الموزعين الاميركيين لأفلام شاهين... من دون التوقف عند جنجر باعتبارها حالاً خاصة. جواب لسؤال قديم في هذا الاطار يبدو واضحاً ان "اسكندرية/ نيويورك" اكثر من كونه فيلماً يتعاطى مع ما آلت اليه العلاقة مع اميركا، بعد "11 ايلول" وبسببه، هو فيلم يجيب عن سؤال قديم، خامر دائماً اذهان محبي سينما يوسف شاهين ومتابعي سيرته: ما الذي حدث لذلك الفتى يحيى شكري بعد المشهد الاجد في فيلم "اسكندرية ليه؟" 1978. ففي ذلك الفيلم الذي كان الاول في سلسلة افلام كرسها شاهين بكل وضوح لسيرته الذاتية، فكان فتح جديد في السينما العربية، تنتهي الاحداث بالفتى يحيى وقد تمكن اخيراً من تحقيق حلمه بالوصول الى اميركا ليتعلم السينما في مكانها الطبيعي: كاليفورنيا. وهو في اللقطة الاخيرة يجد نفسه، على ظهر السفينة، في مواجهة تمثال الحرية، فيبتسم في وجه التمثال، لكن هذا يغمز له بعين قبيحة وشريرة. لماذا كل تلك الغمزة الاستقبالية؟ كان من الصعب على المرء أن يخمن في ذلك الحين، إلا إذا كان من الذين تسرهم تلك الإشارات، بسبب عداء جذري كامن تجاه كل ما هو أميركي. اليوم، على أية حال، في "اسكندرية ليه" تجد تلك الغمزة تفسيرها، ولكن في موقف اسكندر وحده حتى وان كان شاهين زرع في فيلمه علامات متفرقة حول ممانعة البعض من الأميركيين تجاه الآخر: حارسة الاستوديوات، مساعد المصور الذي يرفض اطلاع يحيى على كيفية عمل الكاميرا، بل يطلب طرده... ولكن ألا يحدث مثل هذه الأمور في أي مكان من العالم؟. غير ان اسكندر، في حقيقة الأمر، ليس شريراً، بل هو - فكرياً - نتاج وضع يتفاقم وتكمن جذوره في النظرة الى العرب التي لربما كان العرب أنفسهم هم المسؤولون عنها على أية حال. كما علينا أن نلحظ أنها نظرة غير معممة، وربما كان من شأنها ألا تصل الى اسكندر، الفنان الراقص المرهف، لولا اكتشافه ان أباه... عربي، هو الذي من دون هذه القرابة "الصادمة" ما كان لديه، أصلاً، شيء ضد العرب. إذاً، عدا عن هذا البعد، وعلى رغم موقعه الأساس في الفيلم، لدينا هنا في هذا العمل الذي يمكن اعتباره من أجمل وأبسط ما حقق شاهين خلال السنوات الأخيرة، حكاية حب جميلة، ومجموعة من العلاقات وتاريخ طويل يصل الى نحو نصف قرن، يرويه لنا شاهين بلغته السينمائية المحكمة، وفي نوع من الرحلة المكوكية بين الحاضر والماضي، تتوزع على ما ترويه الشخصيات وعلى ما يريد شاهين اخبارنا به. "سقوط" غير مبرر فنحن في البداية لدينا يحيى شكري ي. من يوسف، وش. من شاهين بالطبع، ويلعب دوره في اجادة تامة محمود حميدة الذي خيل الينا في معظم لحظاته، شكلاً ومضموناً وتصرفات انه شاهين حقاً، وهو الآن، في أواسط الخمسينات من القرن الماضي مخرج مبدع ذو سمعة عالمية لكنه لا يزال راغباً في غزو أميركا... غير ان هذه تبدو عصية عليه، وحين تلين، يعاند هو ضدها انطلاقاً من مواقف سياسية. وهكذا نجدنا في قلب لعبة نبذ وجذب بين يحيى وحلمه الأميركي. وهذه اللعبة تصل الى خاتمتها في التسعينات، حين يقيم "لنكولن سنتر" تكريماً ليحيى، وقد أضحى نجماً من نجوم الاخراج في السينما العالمية. وعند تلك النقطة، وقد أضحى يحيى في السبعين من عمره، يكتشف وجود ذلك الابن الذي أنجبه من دون أن يدري يوم عاد والتقى حبيبته جنجر في السبعينات، وكان هو في حينه أضحى ذلك المخرج المعروف، أما هي فصارت... فتاة هوى لا أكثر. طبعاً ليس ثمة، في سياق الفيلم، ما يبرر هذا "السقوط" الذي كان من نصيب جنجر وتلعب دورها هنا يسرا، بعدما كانت وهي شابة لعبت دورها ببراءة واتقان كبيرين يسرا أخرى في العشرينات من عمرها تعد بالكثير... كما أن ليس ثمة ما يشرح كيف أن فتاة الهوى تلك تمكنت من تربية ابنها اسكندر وايصاله الى النجومية القصوى في عالم الرقص. المهم هنا هو أن هذا يحدث في الفيلم وعلينا تقبله، حتى وان كان من حقنا في الوقت نفسه أن نرفض تطويلات واسهابات في الفيلم أتت في كل مرة لتقطع ايقاعه الرقصة المتخيلة أمام بائعة الهامبرغر، حوارات أستاذ اسكندر التي لا تنتهي حول التسامح بين أمور أخرى... ذلك أن هذا البعد في الفيلم سقوط جنجر انما يمكن أخذه كتحية لنمط ميلودرامي من السينما مثله، خصوصاً فرانك بورزاغي ودوغلاس سيرك، كان سائداً ومحبباً أيام دراسة يحيى في كاليفورنيا. ولا يبدو لنا ان هذه التحية مفتعلة في شكل زائد عن الحد، ان نحن نظرنا الى "اسكندرية/ نيويورك" كله على اعتبار انه - أيضاً - فيلم/ تحية لفن السينما نفسه. اذ ان كل المرجعيات في الفيلم سينمائية، وكل الأحداث سينمائية: ماذا هل كان لنا أن نتوقع شيئاً آخر من فيلم لشاهين يريد أن يروي خمسين عاماً من حياة شاهين؟ تحية الى السينما ولأن الفيلم هو، في نهاية الامر، تحية حارة الى ذلك الفن الذي يمكنه ايضاً ان يكون مبرر حياة بأكملها، يمكن طبعاً من يحب السينما ويحب السينما شاملة التي تجمع الانواع كلها في بوتقة: الميلودرامي، النضالي، الكوميدي - الموسيقي، سينما المؤلف وسينما الوعظ الاخلاقي ايضاً، ناهيك بسينما السيرة الذاتية التي هي عماد الفيلم الاول والاخير يمكنه ان يجد ما يرضيه، وكأن شاهين اراد من هذا الفيلم، الذي زرعه بمشاهد واحالات الى الكثير من افلامه - وكأنها هنا من اخراج يحيى شكري -، وكأنه اراد ان يرسم صورة لتاريخ السينما من خلال صورة تاريخه الشخصي، انطلاقاً من ان تاريخه الشخصي يبدو لنا قادراً على المزاوجة بين هاملت وكارمن، بين "اسكندرية ليه؟" و"باب الحديد"، وبين الخطاب السياسي والوعظ الاخلاقي حول التسامح الذي يعرفه جيداً ابن بار للاسكندرية لا يفوته ان يلتقي خلال زيارته النيويوركية، وهو المسيحي، بزميلين في الدراسة له، احدهما مسلم والآخر يهودي... وها هي نيويورك تجمعهم معاً الآن... لماذا؟ هل لأن اسكندرية اليوم باتت عاجزة عن هذا؟ خائنة هي الاخرى لتاريخها؟، بين الفن والسقوط، بين الغضب والعتب، هو الذي اشد ما يؤلمه انه هو "يحيى" المولع بفريد آستير والسلالم البيض والتسامح المتجذر فيه، وريتا هايوارث والفنون الكبيرة، يجد نفسه اليوم اباً لابن ينتمي الى افلام العنف و"غلاظة" سلفستر ستالوني... اي الى اميركا اليوم. وهذا كله، في "خلطة" شاهينية مدهشة، يزينها الرقص والموسيقى، ويزحمها سيل من العبارات / الكليشيهات، في الوقت نفسه، تتراكم فيها ادارة رائعة للممثلين، ولا سيما ابناء الجيل الاصغر يحيى الصغير ثم اسكندر وقام بالدورين احمد يحيى وكذلك يسرا اللوزي - حنجر الصغيرة -، من دون ان ننسى تفوق لبلبة على نفسها كما هو دأبها خلال السنوات الاخيرة على رغم صغر دورها، اذ تلعب دور جين زوجة يحيى في ايامنا هذه. ومن دون ان ننسى ايضاً ماجدة الخطيب استاذة يحيى في معهد السينما، التي بدت طالعة حقاً من اوساط المثقفين النيويوركيين ذوي القلوب الكبيرة والصرامة الابداعية. "خلطة" شاهين هنا انستنا على اي حال ما كنا أخذناه على "الآخر"، كما انها "حسّنت" في الوقت نفسه، لدينا صورة "سكوت حنصوّر" الذي ينتمي بدوره الى عالم السينما عن السينما، حتى وإن كان في وسع "اسكندرية / نيويورك" أن يقول لنا وربما لشاهين ايضاً، ما كان على الفيلمين السابقين ان يقولاه... ما يعني ان شاهين تجاوز في فيلمه الجديد، الدروب التي كان رآها مسدودة في وجهه في الفيلمين السابقين، ليربط سينماه من جديد، بالثلاثية الذاتية، التي كان بدأها مع "اسكندرية ليه؟" ليستكملها مع "حدوتة مصرية" ثم "اسكندرية كمان وكمان"... حيث اصبحت الثلاثية رباعية... واليوم بات علينا ان ننتظر عمل شاهين المقبل "هاملت الاسكندراني" لنرى اذا كان ثمة امور، حول تاريخه وذاته، لم يقلْها لنا في الأفلام الاربعة التي تبقى، على رغم تطويلاتها وهناتها، من اجمل ما قدمته السينما في مجال "السيرة الذاتية" الى جانب أعمال فيلليني... وغيره وصولاً الى بوب فوسّي.