مطلع هذا الشهر، طلب الرئيس الأميركي جورج بوش من الكونغرس الموافقة على تخصيص مبلغ 70 بليون دولار من أجل تمويل الحرب في العراقوأفغانستان. وتتضمن تفاصيل هذا المطلب مبلغ 45 بليوناً للعمليات العسكرية في البلدين، زائداً 4 بلايين لأفراد قوات الأمن الأفغانية الاضافية، وبليونين لدعم قوى الأمن في العراق. وكان من الطبيعي أن يثير هذا الطلب اعتراض شيوخ الحزب الديموقراطي الذين فسروا عرض بوش بأنه تطويق سياسي لخلفه في البيت الأبيض، لا فرق أكان باراك أوباما أم جون ماكين. لذلك أرجأ الكونغرس قرار البت بالطلب الرسمي، إلى حين انتخاب رئيس جديد لعله يريد إعادة النظر في كمية المبالغ المقترحة، خصوصاً أن تصاريح أوباما وماكين بشأن الحرب في أفغانستانوالعراق، تناقض كل طروحات جورج بوش بشأن مسألة محاربة الإرهاب. حتى المرشح الجمهوري ماكين حرص على الابتعاد عن بوش، وهاجم أوباما بشدة لأنه وصفه بالمرشح المكمل لدور الرئيس الحالي. وهذا يعني أن الحزبين سيفترقان عن هذا المسار الذي أربك الولاياتالمتحدة طوال سبع سنوات تقريباً. كما يعني أن التغيير المتوقع في رئاسة الدولة سيؤثر على الوضع الأمني في أفغانستانوالعراق. ويتوقع المحللون أن تنتهي العمليات العسكرية الأميركية في العراق خلال سنة 2009، في حين تزداد الغارات الجوية والهجمات البرية في أفغانستان. والسبب أن مدير وكالة المخابرات المركزية مايكل هايدن، أوصى بضرورة التركيز على اعتقال أو قتل زعيم تنظيم"القاعدة"أسامة بن لادن ونائبه أيمن الظواهري. وكتب في تقريره الأخير يقول إن عمليات التفجير والقتل الجماعي اُستخدمت في العراق من قبل"القاعدة"، كمادة إعلامية تسويقية مكنتها من جمع تبرعات مالية سخية، واجتذاب أفواج من المتطوعين. ويستدل من التلميحات التي ذكرها حول انخفاض عدد عمليات التفجير في العراق، أن سياسة القمع والتصدي هي التي انتجت هذا الحصاد، ويُستفاد من هذا الكلام أن إدارة بوش - إن كان عن غباء أو عن نية سيئة - ساهمت في رفع نسبة عدد الضحايا المدنيين بهدف إعاقة انسحاب قواتها لأسباب تتعلق بالنفط لا بالأمن. من هنا ركزت توقعات المحللين على الجبهة الأفغانية - الباكستانية باعتبارها الموقع الذي سيشهد تعزيز القوات بعشرة آلاف جندي إضافي. وقد تقدمت حكومة باكستان الجديدة باقتراح يرمي الى فصل"القاعدة"عن طالبان بحيث يفقد اسامة بن لادن الحماية المحلية ويضطر الى مغادرة ملجأه في اقليم جنوب وزيرستان. ويقضي الاقتراح بعقد اتفاق بين اسلام آباد و"طالبان"يشمل في الوقت ذاته اتفاق سلام بين"طالبان"والحكومة الافغانية. قبل حلول نهاية شهر تموز يوليو المقبل، تسعى حكومة نوري المالكي الى اعادة تنظيم وجود قوات التحالف في العراق، بحيث يكون لها وضع قانوني جديد يعمل الفريقان على التقيد ببنوده. في حين يميل بعض الوزراء والنواب في العراق الى تأجيل موعد البت بهذا الموضوع ما دام تفويض الأممالمتحدة لا ينتهي مفعوله قبل نهاية السنة. وحجتهم ان الموقف الأميركي سيتغير حتماً إذا فاز باراك أوباما، الداعي الى سحب القوات فوراً من العراق، أو الى تقليص المشاركة بنسبة رمزية قبل تسليم القوات المحلية زمام الأمور. ومثل هذا الطرح يستدعي الانتظار والترقب ما دامت التطورات السياسية تخدم فرص التحرر من القيد الأميركي. ويتردد في بغداد ان التظاهرات الواسعة التي قام بها أنصار التيار الصدري في العاصمة وعدد من المدن الأخرى، قد اعطت الحكومة العراقية هامشاً من المناورة يمكن استخدامه لتحسين شروط التفاوض، خصوصاً بعدما أحرق المتظاهرون دميتين تمثلان المالكي وبوش. وربما وظف رئيس وزراء العراق هذه الحادثة لإظهار اعتراضه على مطالب يصعب قبولها. ومن المؤكد انه استغل اعتراضات الجبهة الوطنية التي يجري تشكيلها، من أجل تليين الموقف الاميركي المتصلب. ويبدو ان المعارضة بكل ألوانها وأطيافها، بدأت تتجمع لتأسيس جبهة عريضة تضم الدكتور ابراهيم الجعفري ومقتدى الصدر وحزب الفضيلة وكتلة الحوار الوطني برئاسة صالح المطلك، وإياد علاوي، رئيس القائمة العراقية الوطنية. ويرى نوري المالكي أبو اسراء ان الجعفري يحاول ان يكون تروتسكي"حزب الدعوة"عن طريق الانشقاق والانقلاب على مبادئ الحزب الذي نما أثناء عهد صدام حسين في المنافي المنتشرة بين طهران ودمشق. ولكن الجعفري لا يبرئ المالكي من التآمر عليه بحيث فقد منصب القيادة بعدما حصل على اقل من نسبة خمسين في المئة من مجموع محازبي"الدعوة". وفي ضوء هذه الخلفية السياسية، لم يجد جورج بوش غير نوري المالكي، محاوراً عراقياً مستعداً للقيام بهذا الدور الخطر. باشر المالكي حملته بزيارة آية الله السيستاني بهدف الاحتماء بغطاء مرجعيته الدينية. ومنحه السيستاني أربع توصيات تمنى عليه تطبيقها وهي تدعو إلى الشفافية في عرض المشكلة، وإلى عدم تحويل الوجود العسكري الأميركي إلى وجود دائم. ويقول اياد علاوي، رئيس الوزراء السابق، إن المالكي خالف أهم هذه التوصيات بدليل أنه لم يطلع المعنيين والسياسيين على تفاصيل العرض الأميركي. ووصف التصاريح التي يدلي بها نوري المالكي بأنها غامضة ومقلقة، داعياً المسؤولين إلى اليقظة ازاء هذه القضية الخطيرة. ولتبديد المخاوف طالب علاوي بضرورة اطلاع مجلس النواب على كامل تفاصيل الاتفاقية الأمنية، وما قد ينتج عنها من خلل في النظام الاقليمي، أو في أنظمة الجارات. أوضح ديفيد ساترفيلد، المستشار الأول لوزيرة الخارجية الأميركية، أن"المعاهدة"بين العراقوالولاياتالمتحدة ستكون"تنفيذية وقانونية دولية، ولن تحوي بنوداً تتطلب موافقة الكونغرس". وأكد ساترفيلد في مؤتمره الصحافي في بغداد، أن المفاوضات ستظهر شفافية الموضوع من خلال عرض مسودة الاتفاقية على البرلمان العراقي. وقال إن بلاده عقدت 80 اتفاقية مع مختلف دول العالم، كالاتفاقيات مع المانيا واليابان وكوريا الشمالية وتيمور الشرقية. وكان من الطبيعي أن تحدث هذه المقارنة ردود فعل سلبية لأنها مخالفة للواقع. ففي مثالي المانيا واليابان تمت هزيمة نظامين وشعبين مع كامل المؤسسات التي احتضنتهما. وكانت نصوص هذه المعاهدات، حتى مع تيمور الشرقية، تضع جنود الاحتلال الأميركيين فوق قانون البلاد. والمؤسف أن القيادة العسكرية في بغداد تعاملت مع شركات الأمن المتعاقدة كقوة استثنائية لا تسري عليها القوانين العامة. وأبلغ مثل على ذلك شركة"بلاك ووتر"، لذلك طلب الكونغرس توضيحات بشأن الشركات المتعاقدة وطريقة تصنيفها في"المعاهدة"أو"الاتفاقية"، خصوصاً في حال تعاقدها مع القوات الأميركية. الالتباس الذي حصل أثناء التفاوض مرده إلى التفسير الذي تعطيه الإدارة الأميركية لتبرير غزو العراق. وهي تدعي أنها دخلت سنة 2003 بموجب التزامات البند السابع الذي وفره مجلس الأمن يوم غزا صدام حسين الكويت سنة 1990. ومنذ ذلك الحين ظلت الوصاية الدولية قائمة، إلى أن نفذتها الولاياتالمتحدة مع بريطانيا، بقوة السلاح. والمعروف أن البند السابع يعطي الدولة الوصية حق وضع اليد على كل المصادر الحيوية والاقتصادية والصناعية في البلاد، بما في ذلك المياه والنفط. وبموجب هذا الحق ظلت القيادات العسكرية في العراق تتصرف كقوة احتلال، في وقت ادعى جورج بوش أنها قوة تحرير. وفي سبيل التخلص من وطأة البند السابع، يسعى المالكي إلى إلغاء"المعاهدات"الأمنية السابقة، وعقد"اتفاقية"جديدة تنظم وجود القوات الأميركية بعيداً عن مظلة الأممالمتحدة. خلال زيارته الأخيرة لطهران، أكد نوري المالكي لعلي خامنئي وأحمدي نجاد، أن العراق لن يوقع أي اتفاق جديد مع الولاياتالمتحدة يمكن أن يشكل تهديداً مباشراً لأمن إيران وسيادتها. وقال مرشد الثورة إن هناك قلقاً من احتمال إقامة قواعد عسكرية أميركية دائمة يمكن توزيعها على كل المناطق. وأكد أن الموافقة على هذه الاستراتيجية يمكن أن تمس بسيادة العراق وبسيادة جاراته أيضاً، حتى لو انحصرت مهمة هذه القوات بالجوانب الأمنية. ولما أعلن المالكي أن حكومته ترفض منح الولاياتالمتحدة حق استخدام أراضي العراق لإنشاء قواعد عسكرية دائمة، أعرب أحمدي نجاد عن خشيته من الثقوب التي قد تتضمنها مذكرة التعاون التي تحدث عنها جورج بوش. أي المذكرة التي تضمن حماية العراق من أي تهديد خارجي أو داخلي. كما تعطي القوات الأميركية الحق في استخدام القواعد العسكرية العراقية من دون الحاجة إلى بناء قواعد دائمة. وعلى هذا التحذير علق ساترفيلد بأن طهران مهتمة بألا يمنعها الوجود العسكري الأميركي من مواصلة توسيع رقعة نفوذها على جارتها، بحيث يبقي العراق ساحة مشرعة لتصفية حساباتها مع الولاياتالمتحدة. ومن أجل تطمين إيران، وتمتين علاقاتها الأمنية، يتردد في بغداد أن المالكي وقع"اتفاقية تعاون دفاعي مشترك". ومع أن نصوصها لا توحي بالتزامات التنسيق الدفاعي المشترك، إلا أنها في الأزمات يمكن أن تتطور إلى"تحالف مشترك". أما في الحالات العادية، فهي معنية بالتعاون لتنظيف الخليج من حطام السفن والألغام، كما هي معنية بالتعاون حول ملفات الأسرى والمفقودين. في مطلق الأحوال، لن يحصل المالكي على اجماع وطني بشأن تجديد اتفاقية التعاون الأمني مع واشنطن، لأن التشرذم القائم على الساحة المحلية هو مرآة التشرذم الاقليمي الذي يقيد زعماء المنطقة. وكل ما يخشاه العراقيون حيال تنامي أزمة النفط، هو أن يطمع جورج بوش في الاستيلاء على أكبر خزان احتياطي نفطي في العالم، وذلك عن طريق تقييد العراق بطريقة تسمح بإعادة احتلال مصادره وخيراته، كما تراودهم المخاوف من موافقة كردستان على استضافة قواعد أميركية بحجة الحماية من خطر استهداف أكثر الأقاليم استقراراً وازدهاراً. * كاتب وصحافي لبناني