قبل 55 سنة، درج ثمانون في المئة من جمهور التلفزيون الأميركي، الشباب والمسنون على حد سواء، على مشاهدة برنامج ميلتون بيرل مساء كل ثلثاء. وعمل عشرات الملايين من الأميركيين أغنياء وفقراء في"الكيس لودجس"و?"روتري كلابس". وقرأ ملايين من الأميركيين من أهل المدن والريف مجلات ثقافة عامة مثل"لوك اندلايف". وفي تلك الأيام الغابرة، تجاور أصحاب المصارف المحلية في السكن مع بائعي الخضار في مدينة واحدة، وتسنى لأولادهم اللعب جنباً الى جنب في فريق كرة السلة. ولم يتعدَ، يومها، معدل الحاصلين على شهادة جامعية سبعة في المئة من الأميركيين. ولكن الأمور لم تعد على سابق عهدها هذا في أميركا. ففي العقود الماضية، ذللت الانقسامات بين الجماعات الاثنيات. ولكن هوة التفاوت بين المستويات التعليمية اتسعت، إثر شيوع التعليم في مختلف طبقات المجتمع. وغالباً ما ينزل حملة الشهادات الجامعية في مدن مختلفة عن تلك التي يقطن فيها من لم يتابع تحصيلاً جامعياً. ومعدلات الطلاق في صفوف هاتين الشريحتين الاجتماعيتين متباينة، وتتوسل كلا الشريحتين طرقاً تربوية مختلفة في تنشئة أولادها. ويتقاضى غير الجامعيين رواتب تقل قيمتها عن تلك التي يحصل عليها الجامعيون. ومعدلات التدخين في صفوف من لم يحز شهادة جامعية أكثر ارتفاعاً من نظيرها في صفوف حملة هذه الشهادة. ويميل غير الجامعيين الى البدانة. ومتوسط الأمل في الحياة في صفوفهم أكثر تدنياً من نظيره في صفوف الأوائل. وهذه الانقسامات الاجتماعية غيرت وجه السياسة في الولاياتالمتحدة. والى أعوام قليلة خلت، قسمت اختلافات ايديولوجية الولاياتالمتحدة الى أميركا حمراء جمهورية وأميركا زرقاء ديموقراطية. ولكن السباق الرئاسي الجاري أظهر شرخاً ثقافياً داخل الحزب الديموقراطي يكاد يقسمه الى حزبين ديموقراطيين. فباراك أوباما فاز في ولايات الكثافة السكانية فيها مرتفعة، يغلب على سكانها المتعلمون تعليماً عالياً، بينما فازت هيلاري كلينتون في مناطق كثافتها السكانية منخفضة، ومستوى التعليم فيها منخفض. وعلى سبيل المثال، فاز أوباما في 70 في المئة من المناطق التي يغلب عليها الأكثر تعليماً من الديموقراطيين في أبرز الولايات، بينما فازت كلينتون في 90 في المئة من المناطق الأقل تعليماً في الولايات نفسها. وهذا الانقسام الاجتماعي همّش التباينات المحلية والبلدية. فطبقة العمال الكاثوليك الذين هم في عقدهم السابع يقترعون للمرشح نفسه، سواء قطنوا في فريسنو بولاية كاليفورنيا، أو سكرنتون في ولاية بنسلفانيا أو أورلاندو في ولاية فلوريدا. وألقى الانقسام الاجتماعي في صفوف الديموقراطيين بظلاله على الحملة الانتخابية التي تكاد تخلو من الحوادث السياسية. فكلا المرشحين ينفق ملايين الدولارات على الحملة الانتخابية، ولكنه يعجز عن استمالة مناصري منافسه الى صفوفه. ولا يخلف أداء المتنافسين الى الرئاسة وخطاباتهم الممتازة، أو أخطاؤهم، أثراً في السباق الرئاسي. ففي بنسلفانيا، بذل أوباما جهداً كبيراً لاستمالة الطبقة العاملة اليه. ولكن جهوده باءت بالفشل. فقوة المرشح على الإقناع لا وزن لها في هذه الانتخابات. وتحدد الهويات الاجتماعية اقتراع الناخبين. والحق ان الثقافة الأميركية انقسمت الى ثقافات فرعية متشعبة تتعايش ولا تتصادم. والاشخاص المتحدرون من أوساط اجتماعية مختلفة ينظرون الى الواقع نظرات مختلفة، ويدركونه في طريقة مختلفة. وتوصل أصحاب كل ثقافة الى مفهوم مشترك خاص بهم عن القائد أو الرئيس الجيد، والى تصور خاص عن العالم. وتوصلوا، كذلك، الى تعريف معنى الحرية والأمن والقيم الإيجابية. ولكن هذه الأوساط لم تصغ هذه المعاني صوغاً واضحاً وغير ملتبس. فبنية الجماعات السكانية الأميركية هي أقرب الى بنية القبائل والعادات الثقافية. ويتساءل واحدنا لماذا يبدو أوباما، المحامي المتخرج من جامعة هارفرد، المرشح الأنسب، في أوساط الأكثر تعليماً، بينما تبدو كلينتون، المحامية المتخرجة من جامعة يال، المرشح الأنسب في أوساط الأقل تعليماً. وأزعم أن خطاب أوباما، الزمني الطابع والعلماني، يستميل أنصاره، في حين أن خطاب كلينتون عن المكافحة والمثابرة يلقى صدى في أوساط الأقل تعليماً. ولكن الفرضيات والنظريات التي تسعى الى فهم الأشكال الثقافية المختلفة هذه تقصر عن إدراك بنية هذه الثقافات المعقدة والمركبة، والبادية الغموض حتى في نظر من يتبناها. فالنخب الليبرالية التي سخرت حياتها في سبيل إحقاق المساواة، ونبذ الامتيازات, هشمت التراتبية الاجتماعية القديمة. فحلت محلها تراتبية تعليمية اجتماعية. عن دايفيد بروكس،"انترناشيونال هيرالد تريبيون"، 29/4/2008