سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
المافيا والسياسة وبؤس العالم والعولمة في اختتام الدورة 61 للمهرجان السينمائي الأشهر . جوائز "كان" أرضت الجميع وأغضبت إيستوود ... كثير من السياسة قليل من الضحك
وبعد واحد وعشرين عاماً من الغياب عن "السعفة الذهبية"، استعادت السينما الفرنسية هذه السعفة التي كانت، حتى حين نالتها قبل خُمس قرن عن فيلم"تحت شمس الشيطان"للراحل موريس بيالا جوبهت باحتجاج صاخب من النقاد العالميين، أجبر المخرج وهو يعتلي الخشبة على رفع يده في حركة شتيمة تجاه الصاخبين. ومنذ ذلك الحين 1987 وأهل السينما الفرنسيون يشعرون بالمرارة: في كل عام يقولون هذا العام عام سعفتنا الذهبية، ثم يخيب أملهم، حتى في الحصول على ما هو أدنى منها. ولكن هذه المرة حدثت"المعجزة"الصغيرة. لكنها لم تحدث إلا في شكل غير متوقع. وفي مكان آخر غير ذاك الذي صخب النقاد والصحافيون الفرنسيون في حديثهم عنه منذ أول أيام المهرجان. ففي البداية كانت"الإشارة"واضحة: على النقاد أن يركزوا، حديثاً وتعليقاً وتوقعاً على فيلم"حكاية عيد ميلاد"لآرنو دبليشان، ابن"كان"المدلل، والجامع لعدد وفير من النجوم الفرنسيين. بالنسبة الى الفرنسيين، ستكون السعفة من نصيب هذا الفيلم حتماً. وهو أمر لم يشاركهم فيه غيرهم من النقاد الآتين من شتى بلدان العالم. وخلال الأيام الأولى لم يكن ثمة ذكر لفيلم فرنسي آخر هو"بين الجدران"، كان جرى اختياره في شكل متأخر جداً، وعرض في اليومين الأخيرين للمهرجان من دون أية بهرجة إعلامية أو صخب، الى درجة أن كثراً لم يتنبهوا الى ضرورة حضوره. ولكن منذ عرضه، بدا كثر واثقين من أنه إذا كان لفرنسا أن تنال السعفة الذهبية هذا العام، فإنها لن تنالها إلا من طريق هذا الفيلم... الفيلم الذي لا دراما صاخبة فيه ولا نجوم، وبالكاد يعرف أحد من أهل السينما العالمية اسم مخرجه:"بين الجدران"الذي سمي في الإنكليزية"الصف"وهو من إخراج لوران كانتيه، الذي لم يعرف قبل الآن إلا بأفلام يغلب التوثيق الاجتماعي عليها. ومن هنا إذا كان كثر فوجئوا بنيل"بين الجدران"السعفة الذهبية، فإن الذين شاهدوا الفيلم لم يفاجأوا... بل بالأحرى فوجئوا كيف أن عالم"كان"المخملي الصاخب تنبه الى هذا العمل الاجتماعي - السياسي القوي راجع عن"بين الجدران"مكاناً آخر في هذه الصفحة. لكن حدة المفاجأة تضاءلت حين تذكّر الجميع أن رئيس لجنة التحكيم هذه المرة هو شون بن، الممثل والمخرج الأميركي المشاكس الذي كان وعد الصحافة قبل الافتتاح بأن"هذه الدورة من كان ستكون سياسية إن لم يكن في التوجه العام لعروضها، ففي نتائجها". إذاً، مساء اليوم الحادي عشر للدورة 61 لمهرجان"كان"السينمائي، تحقق لفرنسا ما كانت تتطلع إليه واستعادت سعفتها الذهبية. وحقق شون بن ما كان وعد به وسيّس النتائج. أما أهل السينما ونقادها فإنهم تراكضوا يتساءلون كيف سيقيض لهم أن يشاهدوا"بين الجدران"ليكتبوا عنه. وكان الجواب واضحاً: في الليلة نفسها بعد إعلان النتائج، وتحديداً في رفقة أصحاب الفيلم ودزينتين من مراهقين سود وعرب وصينيين وفرنسيين متواضعي الموقع الاجتماعي، هم أبطال هذا العمل. البؤس والثروات وإذا كان فوز"بين الجدران"قد شكل مفاجأة في ليلة"كان"الأخيرة، فإن عنصر المفاجأة هذا لم يسر على بقية الجوائز، التي وزعها شون بن ورفاقه في لجنة التحكيم وسط حفلة تنافس صخبها مع تقشفها على الخشبة، مع أناقة الفاتنات والسادة من الحضور في صالة راحت تضج بالتصفيق كلما أعلن عن اسم فائز، حتى بصرف النظر عن التناقض الكبير بين روحية الأفلام الفائزة، ومظهر الصخب الاجتماعي الأنيق في الصالة. إذ أمام المشهد الإجمالي كان يحق للمرء أن يتساءل: ترى، ما الذي أتت أفلام الجوع والبؤس والسياسة والاستسلام أمام صعوبة الحياة والنضال الثوري تفعله أمام هذا العالم المتأنق الجميل؟ والجواب بسيط: إنها معجزة السينما. المعجزة البسيطة التي سمحت لشون بن ورفاقه بمكافأة سينمائيين عبّروا عن بؤس العالم، أمام نجوم وشخصيات، قد تكفي ثرواتها لدرء هذا الجوع! إذاً، فيلم عن صعوبة العيش والتعايش بين أستاذ للفرنسية وطلابه الآتين من الطبقات المسحوقة "تحت الجدران"، وفيلمان عن المافيا الإيطالية وعلاقتها بالسياسة "غومورا"و"ال ديفو"، وفيلم عن حياة بطل التحرير في أميركا اللاتينية ونضاله وسقوطه "تشي"، وفيلم عن مجتمعات البؤس والجوع والتفكك في برازيل اليوم "خط العبور"، وفيلم عن التفكك العائلي والسقوط الأخلاقي في اسطنبول الراهنة "ثلاثة قرود"، وواحد عن بؤس العمال المهاجرين المسحوقين في بلادهم، المرفوضين في ديار الهجرة "صمت لورنا"... هذه الأفلام كلها، بمشكلات الحاضر التي تطرح، تتضافر هنا لتشكل مجموعة الأفلام التي اختارتها لجنة التحكيم في"كان"للجوائز السبع الرئيسة التي تمنح مرة في كل عام في هذا المهرجان. وهذه الأفلام في تضافرها، إنما تعكس في الحقيقة، ما كان يمكن أن يكون متوقعاً من لجنة تحكيم يرأسها شون بن، المكافح منذ بداياته ضد الظلم والهيمنة على العالم وضد الإدارة الأميركية التي يعتبرها مسؤولة عن هذا كله. ومن الواضح أن شون بن حين سعى الى"فرض"اختياراته هذه، إنما تعمّد أن يقدم في المقابل ما بدا أنه تنازل شكلي مزدوج: جائزة خاصة ابتكرت للمناسبة وأطلق عليها اسم"الجائزة الخاصة للدورة الواحدة والستين"وهو، للمناسبة، اسم غريب ولا معنى له. ولكن كان من الضروري اللجوء إليه. فإذا كانت التوقعات"السعفية"، سارت منذ البداية في اتجاه ان الفرنسيين يريدون الجائزة الكبرى ل?"حكاية عيد ميلاد"، فيما يريد شون بن إعطاءها لصديقه كلينت إيستوود، عن رائعته الجديدة"الإبدال"أولاً لأن هذا الفيلم يستحق ذلك، وثانياً لأن بن كما قيل يجب أن يردّ الى إيستوود جميلاً كان هذا الأخير أسداه له قبل سنوات حين أعطاه في فيلم"مستيك ريفر"دوراً نال عنه أوسكار أفضل ممثل، إذا كان التوقعات سارت في هذا الاتجاه، فإن تسوية ما يبدو أنها فرضت نفسها في النهاية تفضي بتنازل كل طرف عن رغبته لمصلحة إعجاب مشترك ب?"بين الجدران"، في مقابل أن يعطى كلينت إيستوود مخرج"الابدال" وكاترين دونوف بطلة"حكاية عيد ميلاد" معاً جائزة الدورة 61 الخاصة. ولئن كان هذا الفوز قد سرّ دونوف وجعلها تتألق في وصولها الى الخشبة، فإنه ? كما يبدو مؤكداً ? أغاظ كلينت إيستوود الذي امتنع من حضور الحفلة، فكان في غيابه، الحاضر الأكبر! الضحك... في مكان آخر وإيستوود نفسه، الذي كشف غيابه منذ بدء الحفلة عن أن فيلمه استبعد من كل جائزة كبرى، كان في الأصل حاضراً طوال ايام المهرجان، كما كان يصر على مشاهدة بعض الأفلام ولو خفية عن الأعين الفضولية للصحافيين والجمهور، ويقال إنه ضحك كثيراً حين شاهد"فيكي كريستينا برسلونا"لزميله وودي آلن، مشيراً من طرف خفي الى أن على الجميع أن يضحكوا كثيراً حين يشاهدوا هذا الفيلم لأنه"الفرصة الوحيدة للضحك في هذه الدورة". وكان من الواضح أن إيستوود يشير هنا، وربما ناقداً، الى غياب الضحك عن أي فيلم في المهرجان. فإذا كانت كل العواطف قد حضرت، كما حضرت كل السياسات والقضايا الاجتماعية الساخنة، فإن الضحك والمرح كانا الغائبين الأكبرين... ولنكون أكثر صدقاً، لا بد من أن نشير الى أن الجمهور ضحك، مع هذا، في فيلمين لم يكن الإضحاك مقصوداً فيهما: فيلم"حدود الفجر"للفرنسي فيليب كاريل، الذي توّج"أكثر الأفلام إثارة للضجر"في الدورة، وضحك الجمهور على بعض مشاهده"الأكثر رومنطيقية"، وفيلم"تصوير باليرمو"الذي أثار بعض الحوارات، لا سيما الحوار مع الموت، فيه، سخرية ظالمة، فضحك بعض الجمهور، ما أساء الى فيلم من الواضح أن مكانته ستكبر أكثر وأكثر مع الوقت وهذا على أي حال دأب كل فيلم من أفلام صاحب"تصوير باليرمو"الألماني فيم فندرز: يستقبل أول الأمر استقبالاً سيئاً ثم يعاد إليه الاعتبار، بل يصبح عملاً كلاسيكياً كبيراً، لاحقاً. على رغم السخرية من بعض حواراته، لا بد إذاً من الاعتراف بأن"تصوير باليرمو"فيلم كبير، وكان يستحق الفوز بجائزة ما. وهو في هذا الغياب عن الجوائز انضم الى بضعة أفلام أخرى كانت كل التوقعات تعطيها حظوظ فوز كبيرة منذ عرضت، لكنها خُذلت في النهاية. وفي مقدم هذه الأفلام فيلم"عبادة"للكندي - الأرمني - المصري آتوم ايغويان، هذا الفيلم الذي دنا، في شكل تركيبي موفق من بعض أكثر المشاكل والقضايا سخونة في عالم اليوم: الإرهاب والتعامل معه، قضية الشرق الأوسط، المجابهة بين الأديان، العنصرية ثم الإنترنت ودوره في حياتنا اليومية. ويبدو أن هذا الدنو الذكي والواعي من كل هذه المسائل لم يمكّن فيلم ايغويان الجديد هذا من إقناع لجنة التحكيم بمنحه ولو جائزة السيناريو، التي بدا مستحقاً لها أكثر بكثير من فيلم"صمت لورنا"للأخوين داردين، الذي بدا مستحقاً للسعفة الذهبية أو لجائزة لجنة التحكيم الكبرى. ولكن ليس لجائزة أفضل سيناريو التي منحت له. طبعاً، يمكننا هنا أن نورد قدر ما نشاء من ملاحظات واعتراضات، كما نفعل ويفعل غيرنا في كل مهرجان، وفي كل دورة... مع معرفتنا بأن هذا لن يبدل من طبيعة الأمور، ومع معرفتنا أيضاً بأن هذا لن يكون في النهاية سوى اختيار شخصي ذاتي، مثله مثل النتائج نفسها، إذ نعرف دائماً أن مجرد اختيار لجنة التحكيم، هو تعيين مسبق للأفلام التي ستفوز. وهنا، في هذا الإطار لن يفوتنا أن نشير الى أنه، حتى وإن كان غياب أفلام مثل"تصوير باليرمو"أو"عبادة"أو حتى"فالس مع بشير"لآري فولمان إدانة بالرسوم المتحركة الوثائقية لمجازر صبرا وشاتيلا، عن الجوائز أدهش كثراً وأغاظهم، فإن أسماء الأفلام الفائزة، في النهاية، لم تثر أي احتجاج... فهي ? أو معظمها ? كانت الأسماء المتداولة منذ عرضت، مع انزياح من هنا وانزياح من هناك، ما جعل تطابقاً ما يلوح بين المتوقع وما أسفرت عنه الأمور، مع بعض الاستثناءات. فمثلاً، بالنسبة الى جائزة أفضل ممثل التي حظي بها بنيسيو ديل تورو عن لعبه دور غيفارا في"تشي"لستيفن سودربرغ، كان واضحاً ولاعتبارات كثيرة من بينها بالتأكيد أسلوب ديل تورو الرائع في تأدية الدور انها ستذهب إليه، من دون منافس جدي. والذين رأوا"خط العبور"لوالتر ساليس، لم يكن لديهم أدنى شك في أن بطلته ساندرا كورفيولوني ستعطى جائزة أفضل ممثلة، لروعة أدائها دور الأم الشجاعة التي تعمل خادمة في بيوت الأثرياء في ساوباولو اليوم لتعيش أسرتها المؤلفة من أربعة صبيان مختلفي المشارب والأخلاق، فيما هي حامل بالخامس الذي لا يعرف أحد من هو أبوه. وفيلم"ثلاثة قرود"، الذي فاز مخرجه التركي نوري بلجي جيلان، بجائزة أفضل مخرج، لم تكن المفاجأة أنه فاز بالجائزة، بل كونه لم يفز ? مثلاً ? بالسعفة الذهبية وهذا الفوز هو الثالث لجيلان، عن ثالث فيلم يعرضه في"كان". وقد سبق أعلاه أن تحدثنا عن"صمت لورنا"للأخوين البلجيكيين داردين وفوزه بجائزة السيناريو واستحقاقه ما يفوقها. إذاً، هذا كله بدا واضحاً مريحاً وبدهياً، وتبقى مسألة أخيرة: فوز فيلمين إيطاليين بجائزتي لجنة التحكيم، الكبرى ل?"غومورا"لماتيو غاروني، والخاصة ل"ال ديفو"لباولو سورنتينو. فالحقيقة ان هذا الفوز الإيطالي المزدوج كان المفاجأة الوحيدة في نهاية الدورة. ليس لأن الفيلمين لا يستحقان الفوز راجع عنهما معاً في مكان آخر من هذه الصفحة، بل لأن"العادة"جرت بألا تعطى جائزتان من أصل ما مجموعه 7 جوائز لفيلمين آتيين من بلد واحد ويدوران من حول قضية واحدة، لا سيما قضية المافيا التي يقال دائماً إنها أشبعت أفلمة وصخباً، ولكن أتى هذان الفيلمان ليقولا على أي حال - ان لمسألة المافيا وجوهاً كثيرة ودائمة الجدة. في النهاية، عرف شون بن كيف ينهي الدورة في شكل مقبول وكيف يرضي كثراً - ولكن ليس بالتأكيد صديقه وربما أستاذه كلينت إيستوود -. ولئن قيل كثيراً - في محاولة لهجائه - انه"قاد"دورة فيها الكثير من السياسة والقليل من الضحك، فإنه - هو المعروف بنضاله ومشاكسته - لن يجد في هذا القول ضرراً، بل لن يكون لديه من الوقت ما يكفي للتوقف عنده، هو الذي سيكون - وربما رفقة صديقه بنيسيو ديل تورو - منهمكاً في إرضاء إيستوود وإغداق وعود مستقبلية عليه، وتبرير عدم إعطائه"سعفة"كان إيستوود يتطلع للحصول عليها وهو في سنه المتقدمة هذه.