في مطعم الفندق الفخم ذي الخمس نجوم، التف السياح مبهورين وهم يصدرون أصواتاً عجيبة غريبة، على غرار:"أووه"،"واو"،"يامي"... بينما الحاجّة حسنية منهمكة في عجن أرغفتها وخبزها وهي جالسة القرفصاء. والحاجّة خبيرة خبيز، تأتي يومياً إلى مقر عملها المشرف على نيل القاهرة من بلدتها أبو صير، المتاخمة للجيزة. ويسترخي السياح في أماكنهم أمام الطاولات، بعد أن يكون كل منهم التهم ما لا يقل عن رغيفين طازجين،"من الفرن توّاً إلى الفم"، كما يقول أحدهم، بينما يتأوّه آخرون من فرط الإعجاب بهذا الطعم الممّيز ل?"رغيف العيش"الذي لن يجدوا مثله إلا في مصر. ومعظم هؤلاء لم تعنِه كثيراً الفاتورة التي وضعت أمامهم، وسعر الرغيف"اللذيذ"الواحد مدوّن فيها على حدة،"ثلاثة جنيهات وأكثر". وهو السعر الذي تدفعه الحاجّة حسنية، الخبّازة، في مقابل الحصول على ثلاثين رغيفاً مدعوماً من الحكومة، من الفرن القابع في أوّل الشارع الذي تقطن فيه، هذا إذا وُفّقت هي أو مبعوثوها من الأبناء أو الأحفاد، في الحصول على الخبز. قصة رغيف الخبز الذي يدعى في مصر"رغيف العيش"هي قصة شعب، ومؤشر سياسي واقتصادي واجتماعي، لا مجرّد خلطة دقيق وخميرة وماء. والمصري بات محتاجاً إلى مقدار أكبر من العناية للخروج سالماً من مغامرته اليومية عندما يقف في طابور الانتظار أمام الفرن، وهي العناية نفسها التي تلهم المصريين الصبر والرضا وحس الفكاهة، للتغلب على تضافر"جهود"الحظ العاثر والسياسات الخاطئة والسياسيين المخطئين، عليهم وهم في طريقهم إلى البحث عن"لقمة العيش". والمصري، عموماً، يتخذ موقفاً دفاعياً شديد اللهجة تجاه رغيفه. ويقولون في مصر، على سبيل الدعابة التي لا تخلو من الجِد:"عض قلبي ولا تعض رغيفي". وقد يسكتون عن انتهاك حقوقهم، ونهب أموالهم، وتدهور مستوى معيشتهم، ولكن المساس ب?"رغيف عيشه"، يحول هذا المواطن القانع الهادئ إلى"وحش كاسر"، ولو تعرّض، في أثناء معركته للدفاع عن رغيفه، لأن يَقتل أو يُقتل. ولمَ لا؟ ورغيف الخبز هو سيد مائدة الطعام لدى غالبية المصريين، الذين يرزح ما يزيد على 19 في المئة، منهم تحت خط الفقر، بحسب تقرير التنمية البشرية المصري، الذي صدر قبل أيام. وعلى رغم أن القدماء خلفوا وثائق تاريخية تدلّ على قيمة الخبز في حياة المصري القديم، إلا أن ظاهرة التقاتل في طابور الانتظار، التي من نتائجها الإقدام على القتل أو"الاستشهاد"في سبيل"العيش"، ستدوّن في التاريخ المصري الحديث، في مطلع القرن الحادي والعشرين. خبز غني بالحديد على مرّ العصور اعتباراً من العصر الذي سبق حقبة الأًسر الفرعونية، كان رغيف الخبز، المصنوع من حبوب الغلال، هو الطعام الأساس للمصريين. وكان الدقيق يُخلط بالخميرة والحليب والتوابل والملح، وربما بالزبد والبيض، ثم يعجن في أوعية ضخمة. وكانت الأرغفة تشكّل على هيئة أقراص في مقلاة. ثم ظهرت القوالب لتشكيلها ملفوفة دائرياً أو طولياً. وكان السميك منها يُحشى بالفول أو الخضراوات. وللتحلية، كان يضاف إلى العجين العسل والتمر وأنواع من فاكهة المواسم. والفراعنة كانوا أول من أكتشف خميرة الخبز، 4000 ق.م. وإذا كان المصري القديم أكل الخبز محشواً بالتمر الغني بالحديد، فإن المصري الحديث يأكله محشواً بالحديد نفسه، على هيئة مسامير معضدة بنشارة الخشب المعروف بمحتواه الغني من الألياف. ولتأكيد مكانة"رغيف الخبز"وجدت البعثات الاستكشافية في المعبد الجنائزي لأمنحتب الثاني، بقايا مما يعتقد أنه كان رغيف خبز، عمره يزيد على أربعة آلاف عام. وكان موضوعاً مع متعلقات أخرى، كان القدماء يعتقدون أنها من أساسيات الحياة الأخرى للمتوفين. ويبدو أن المصريين بالفعل ملتصقون التصاقاً شديداً بماضيهم وحضارتهم، وقيل أن أحدهم كتب في وصيته، إبان أزمة الخبز الأخيرة، أن يدفن ومعه عشرة أرغفة. ويشير غير مرجع تاريخي إلى أن قسماً من بناة الأهرامات والمعابد الفرعونية القديمة، كان يتقاضى أتعابه خبزاً وبقولاً وحبوباً. وهو النظام الذي أخذ بعض الجهات الدولية يشير إلى عودته في الدول الفقيرة، حيث يعمل العامل في مقابل الحصول على قوت يومه. ورداً على الذين يزعمون أن الميسورين في مصر يأكلون الخبز الفرنسي الفاخر و?"العيش"الطباقي، الذي يبلغ سعره حالياً نحو 60 قرشاً الرغيف المدعوم بخمسة قروش، فإن هذه الظاهرة فرعونية وليست مستجدّة. ورغيف الخبز عرف الفروق الاجتماعية، منذ ظهوره في مصر القديمة. فالفلاحون والمواطنون العاديون كانوا يعدّون خبزهم بمزج الدقيق والمياه. أما خبز الفرعون والكاهن فكان يضاف إليه العسل والفواكه والسمسم. والطريف أن إحدى البعثات الأثرية العاملة في جنوب منطقة أبي الهول في الجيزة اكتشفت قبل سنوات مخبزاً مجهزاً بالكامل يعود إلى القرن الثالث ق.م. والمثير أن أمين عام المجلس الأعلى للآثار صرح في حينه، أن أسلوب عجن الخبز ونوعيته في هذا المخبز الفرعوني يتطابقان وأسلوب خبز الخبيز، في صعيد مصر حالياً، وهو الخبز المسمى"عيش شمسي". وقد تكون هذه التسمية مستمدّة من الاعتقاد الذي كان سائداً في مصر الفرعونية بأن القمح ينمو على بقايا جسد أوزوريس الذي لا يفنى، وأنه أوزوريس وإيزيس، هما المسؤولان عن الزراعة وخصوبة التربة. ومع انقشاع أسطورة"إيزيس وأوزوريس"واتضاح الرؤية، بات أكيداً أن توافر القمح اللازم للخبز هو وليد سياسات ناجحة أو فاشلة. والمواطنون المصريون يعتبرون الحكومة الجهة المسؤولة عن توفير أرغفتهم اليومية. وتقوم قيامتهم ولا تقعد، كما يقول المثل الشعبي، حتى توفره. وحتى لو قعدت قيامتهم، تكون قَعْدةً على صفيح ساخن، تضاهي سخونته درجة حرارة الفرن الذي يحمّيه الوقود... ولهيب طوابير انتظار المحتشدين في أوقات الأزمات. ويحكى على سبيل النكتة، أن أحدهم كان متوجهاً عقب صلاة الفجر، إبان أزمة الخبز الطاحنة الأخيرة، ليتخذ موقعه في طابور"العيش"فوجد مصباح علاء الدين، فحكه، فخرج له الجني وسأله سؤاله المعتاد"تؤمر بإيه؟"فطلب عشرة أرغفة مدعمة، فهاج الجني وماج، ووبخ المواطن الذي أخرجه من الطابور، من أجل هذا الطلب العسير. ويحكى كذلك أن مسؤولاً كبيراً كان يجول في المدينة، فلاحظ تجمهراً بشرياً ضخماً، فسأل عن السبب، فردت الحاشية بأنه طابور للخبز، فضرب المسؤول كفاً على كف وهو يسأل متعجباً:"وهم لسه معاهم فلوس يشتروا بها خبزاً؟". وقيل إن وزارة المال التي باتت متخصصة في فرض الضرائب على أي شيء وكل شيء، تفكر في فرض ضريبة على الوقوف في طابور الخبز، وهي ضريبة تضرب عصفورين بحجر:"العصفور"الأول جمع أكبر قدر من المال، والثاني تقليص الشكل"غير الحضاري"الناتج من تجمهر الفقراء أمام المخابز.