"عضّ قلبي ... ولا تعض رغيفي" وپ"يا واخد قوتي ... يا ناوي على موتي" وپ"أكل العيش مر". تدل تلك الأمثال الشعبية القديمة على مدى أهمية رغيف الخبز بالنسبة الى المصريين الذين يعانون بشدة هذه الأيام للحصول عليه, علماً أنه عنصر أساسي في كل وجباتهم الغذائية, ما يبرر حرص الحكومات المتعاقبة على عدم المساس بدعمه. الحكومة المصرية الحالية أعلنت في أكثر من مناسبة أن أزمة الخبز تأتي بسبب القفزة المفاجئة للأسعار في أسواق القمح العالمية, ما أدى إلى زيادة الطلب في شكل غير مسبوق على الخبز المدعوم, إضافة إلى تهريب أصحاب المخابز الطحين المدعوم وبيعه في السوق السوداء. وبعدما ضربت أزمة شح الرغيف الأسر المصرية وتفاقمت المشكلة الى الحد الذي وصلت اليه تدخل الرئيس حسني مبارك وعقد اجتماعين وزاريين برئاسته في محاولة لحل تلك القضية التي فشلت الحكومة في حلها. وأوصى مبارك الحكومة بوضع حلول غير تقليدية للتغلب على تلك المشكلة وزيادة المخزون الاحتياطي للدقيق إضافة إلى زيادة الاعتمادات المالية المخصصة لدعم رغيف الخبز. وشدد مبارك على ضرورة أن يتاح رغيف الخبز للمصريين وتختفي ظاهرة طوابيره. وهكذا وجدت حكومة أحمد نظيف نفسها في موقف لا تحسد عليه, فرئيس الدولة انتقدها علناً وحمّلها مسؤولية تلك الأزمة, وبالتالي باتت السهام تأتيها من كل صوب. وجاءت تلك الأزمة المتفاقمة في شكل غير مسبوق لتدفع قوى المعارضة إلى تكثيف هجومها على حكومة الحزب الوطني التي تدفع البلاد نحو"نفق مظلم", على حد قول الأمين العام المساعد لحزب"التجمع"اليساري محمد سعيد الذي رأى في حديث لپ"الحياة"إن مسألة الخبز"مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى المواطن البسيط"، مشيراً إلى أن الحزب يصر على عدم المساس بدعم رغيف الخبز حتى لا تتكرر"انتفاضة الجياع"التي تمثلت في التظاهرات العنيفة التي شهدتها البلاد في 17 و18 كانون الثاني يناير 1977. وأضاف أن أزمة الخبز تتمثل في أسباب عدة منها أن مصر لا تنتج سوى 30 في المئة من احتياجاتها من القمح على رغم أن الفلاح على استعداد لزراعة القمح إذا دعمته الدولة ورفعت سعر شراء القمح. كذلك فإن الحكومات المتعاقبة، والحكومة الحالية خصوصاً، لا تفرض أي نوع من الرقابة على أصحاب المخابز ومعظمهم من"أصحاب النفوذ"فهي توزع الدقيق على المخابز وتعلم أن ما يتم إنتاجه هو نصف الكمية الموزعة. وأشار سعيد إلى أن"التجمع"اقترح في وقت سابق حلولاً عدة لتلك القضية منها إيجاد منافذ للتوزيع مستقلة عن المخابز, وهو ما بدأت الحكومة تنفيذه, ولكن لا بد من التوسع في انتشار تلك المنافذ، كذلك يمكن إضافة الذرة إلى مكونات الخبز للتغلب على ارتفاع أسعار القمح. وكشف أن فرع الحزب في محافظة المنوفية شمال القاهرة أبدى استعداده لإنشاء المنافذ لتوزيع الخبز من دون مقابل إلا أنه لم يتلق أية ردود من السلطات التنفيذية المختصة. ويتفق رئيس حزب"الوفد"الليبرالي الدكتور محمود أباظة مع سعيد على ضرورة الإبقاء على الدعم الحكومي للسلع الأساسية وفي مقدمها الخبز"نتيجة للتفاوت الرهيب في الدخول". ويضيف أن مسألة أن الدعم يذهب في بعض الحالات إلى غير مستحقيه لا تنطبق على الخبز الذي تعتمد عليه قطاعات واسعة من المهشمين في المجتمع. وأوضح أباظة أن من الأسباب الرئيسية لمشكلة القمح زيادة الأسعار العالمية نتيجة لزيادة الاستهلاك العالمي إضافة إلى التنمية التي تشهدها الهند والصين، وبالتالي زيادة متوسط استهلاك الفرد، إذ أن البلدين يمثلان ثلث سكان العالم، مشيراً إلى عدم إمكان الاكتفاء الذاتي من إنتاج القمح لأن ذلك سيأتي على حساب محاصيل أخرى نحتاج إليها مثل البرسيم الذي يستخدم في الإنتاج الحيواني. وأضاف أن لدينا 8 ملايين فدان من الأراضي الزراعية لا بد من زراعة ثلث هذه المساحة بالقمح لتحقيق الحد الأدنى من"الأمان الغذائي". ويرى أباظة أن الحكومة تستطيع أن تضع بعض السياسات لتشجيع المستثمرين لخدمة المجتمع والتوجه إلى إنتاج الخبز وتوزيعه بأسعار مناسبة, عبر الإعفاء من الضرائب, على سبيل المثال. إلا أن الحكومة ممثلة بوزارة التضامن الاجتماعي تؤكد أنها تحاول مواجهة تلك القضية من طريق محاولاتها المستمرة لمنع التسريب غير القانوني للطحين من خلال زيادة أعداد مفتشي التموين أو استحداث نظام فصل إنتاج الخبز عن توزيعه وإسناد التوزيع الى شركة مستقلة، كذلك بحث أفكار عدة منها إسناد مهمة توزيع الخبز إلى وزارة الداخلية وذلك لمنع قيام بعض أصحاب المخابز بتهريب الدقيق المدعوم وبيعه بأسعار مضاعفة, على أن تصدر مديريات الأمن في المحافظات"بونات"لضمان عدم تلاعب منتجي الخبز بحصصهم من الطحين. وهناك اقتراح آخر بأن تتولى هذه المهمة وزارة الدفاع ممثلة بجهاز الخدمة الوطنية عبر توزيع الخبز من طريق منافذ بيع في مختلف أنحاء البلاد, على أن يتولى"مجلس المحافظين"الذي يضم حكام المحافظات المختلفة الإشراف على عملية فصل إنتاج الخبز عن توزيعه, والتفتيش على المخابز. ويحذر الخبراء من أن زيادة سعر الرغيف المدعوم، والذي لم يتجاوز ثمنه خمسة قروش أقل من سنت منذ 20 عاماً قد تؤدي إلى ثورة شعبية كپ"انتفاضة الخبز"التي شهدتها مصر في عام 1977 في ظل عدم زيادة الأجور والارتفاع المستمر للأسعار. وكان برنامج الغذاء العالمي أشار إلى أن معدل إنفاق الأسرة المصرية المتوسطة ازداد 50 في المئة منذ مطلع العام الحالي، فيما يؤكد خبراء أن نسبة التضخم أكبر بكثير من الأرقام التي تعلنها الحكومة. كما وزع مكتب الأممالمتحدة في القاهرة بياناً - احتفت به وسائل الإعلام الرسمية - تضمن تصريحات للأمين العام للمنظمة الدولية بان كي مون قال فيه إن أسعار المواد الغذائية تشهد ارتفاعاً هائلاً ما يؤدي إلى تعاظم التهديدات التي يطرحها الجوع وسوء التغذية وبات الملايين من الناس الأضعف حالاً في العالم معرضين للخطر. وأضاف البيان أن أسعار القمح والذرة والرز ارتفعت بنسبة 50 في المئة أو أكثر في الأشهر الستة الماضية، كما انخفض مخزون الأغذية العالمية بنسب غير مسبوقة, موضحاً أن ارتفاع الأسعار يرجع إلى ارتفاع الطلب على الاقتصاديات الكبيرة مثل الهند إضافة إلى سوء المناخ والطقس الذي أدى إلى زيادة تدمير المحاصيل, إلى جانب ارتفاع كلفة نقل الأغذية, مطالباً بالعمل من أجل تلافي النقص في الغذاء بمقدار الثلث تقريباً من خلال تحسين شبكة التوزيع المحلية للمنتجات الزراعية والمساعدة على تحسين الصلات بين صغار المزارعين والصندوق الدولي للتنمية الزراعية. ويرى خبير التنمية الاقتصادية الدكتور مصطفى كامل أن مشكلة الخبز في مصر لها أسباب عدة منها ارتفاع أسعار القمح عالمياً، كذلك عدم اهتمام استراتيجية التنمية الزراعية في مصر بالتركيز على زيادة إنتاج الحبوب بدعوى أن لا بد من التركيز على زيادة إنتاجية الخضر والفاكهة لتصديرها, أما البعد الثالث فهو السياسة التي يتبعها وزير التضامن الاجتماعي الدكتور علي المصيلحي والتي لا تستند الى التشاور مع من يهمهم الأمر من أصحاب المخابز أو فتح حوار مفتوح مع منظمات المجتمع المدني. وأضاف أن الخبز يمثل جانباً مهماً من غذاء المصريين خصوصاً للطبقات المنخفضة الدخل. وعن تهريب أصحاب المخابز الطحين المدعوم وبيعه في السوق السوداء أشار كامل إلى أن تلك المشكلة ليست وليدة اللحظة وليست هي السبب الرئيسي في الأزمة, فلا شك أن أبعاد المشكلة الأساسية تتمثل في عدم كفاية القمح المحلي للاستهلاك الذاتي، لذلك فليس هناك مفر من توفير الحكومة الطحين، وبالأسعار المناسبة حتى يمكن على المدى المتوسط زيادة إنتاجية القمح، كما أن سياسة فصل الإنتاج عن التوزيع لا بد من أن تأتي تدريجاً، مشيراً إلى أن إعطاء القوات المسلحة مهمة إنتاج الخبز وتوزيعه هو حل موقت، فلا بد من الاعتماد على المؤسسات التي تقوم بتوفير الخبز على المدى البعيد. وعن مشاركة رجال الأعمال في محاولة حل القضية كما فعل أحد هؤلاء أوضح كامل أن ذلك الأمر جيد ولكنه ليس الحل النهائي فلا بد من التشاور بين منظمات المجتمع المدني ورجال الأعمال من جهة, والحكومة من جهة أخرى حول وضع حلول غير تقليدية لتوفير الخبز للمواطنين. ويتفق أستاذ الاقتصاد الزراعي في جامعة الأزهر الدكتور محمود منصور مع كامل في أن عدم كفاية الإنتاج المحلي من القمح ليس وليد اللحظة ولكن المشكلة الرئيسية هي ارتفاع أسعار القمح في الأسواق العالمية ما أدى إلى قصور في إمكان الاستيراد وعجز تغطية الحاجات المتزايدة, وكذلك تسرب القمح بنسبة 30 في المئة منذ وصوله إلى الميناء واستخدامه لغير الغرض المخصص له, إضافة إلى وجود فائض يصل إلى أكثر من 20 في المئة بسبب عدم كفاءة الصوامع, وكذلك استخدام المزارعين وسائل بدائية لجمع المحصول. وأشار منصور إلى أن القمح محصول أمن قومي وبالتالي لا بد من وجود ضمانات لوصوله إلى المستهلك، ولكن الاكتفاء الذاتي غير مطلوب وغير ممكن لأن من الأفضل إنتاج محاصيل أخرى بدل استيرادها, موضحاً أن لا بد من زراعة أكثر من 5 ملايين فدان من القمح لتحقيق الاكتفاء الذاتي وهذا غير ممكن, ولكن من الممكن زراعة المساحات التي تؤدي إلى"الأمن الغذائي"وهي من 50 في المئة إلى 70 في المئة. وأكد منصور أهمية الاهتمام بالأصناف العالية الإنتاجية وتوفيرها للمزارعين إضافة إلى تنشيط دور الجمعيات التعاونية الزراعية لخدمة المزارعين وتوفير مستلزمات الإنتاج بأسعار مناسبة وبالتالي حمايتهم من جشع التجار. وطالب بمضاعفة حصص الطحين المخصصة للمخابز لتغطية الاستهلاك,"وهو حل فوري وضروري", إضافة إلى وضع نظام يتم فيه حصر الحاجات الحقيقية لكل منطقة ومحافظة ويتم بناء عليه التوزيع.