اتخذ رغيف الخبز - المعروف مصرياً باسم رغيف العيش - منحى جديداً في مسيرته التاريخية التي تنصهر فيها عوامل اجتماعية واقتصادية، وحتى سيكولوجية، عدة. رغيف العيش الذي كان يباع حتى أواخر السبعينات بنصف قرش مصري قفز سعره في العام السابع من الألفية الثالثة إلى ما يزيد على 25 قرشاً ويصل إلى 125 قرشاً في المحلات السياحية وينخفض إلى خمسة قروش لمن يقوى على"وقفة الطوابير"و"هضم الحديد"، فقد احتدمت نبرة الانتقادات الموجهة إلى المسؤولين عن الرغيف، عصب الغذاء لغالبية المصريين والبطل المغوار على موائدهم. 40 مليون رغيف مدعم تنتجها المخابز يومياً وتكلف الدولة نحو 3.8 بليون جنيه مصري في العام الماضي. هذه الأرغفة المسماة ب"البلدي"تواكبها ملايين الأرغفة الأخرى من نوعيات مختلفة من الخبز البلدي"المعدل"أو"الطباقي"وغيرهما من الأنواع التي لا أول لها ولا آخر، والتي اشترى من أجلها القطاع الخاص بين تموز يوليو 2006 وكانون الثاني يناير 2007 نحو 1.6 مليون طن من القمح. ويقدر عدد الأرغفة الكلية التي يأكلها 76 مليون مصري بمختلف فئاتهم بنحو 150 مليون رغيف يومياً. لكن الاعتماد الرئيسي لنحو 44 في المئة من المصريين يقع في المقام الأول والأخير على الرغيف المدعم ذي القروش الخمسة، وهو الرغيف الذي ساءت حاله وتدهورت إلى الدرجة التي جعلت منه أسطورة يحكي عنها الناس ويتحاكون بدءاً بمعاناة الحصول عليه أو مروراً بأكله وانتهاءً بهضمه. وتحولت"طوابير العيش"إلى منظومة قائمة بذاتها، يصحو من أجلها الأبناء مبكراً للحاق بصفوفها الأولى، ويتأخر بسببها الموظفون عن اللحاق بأعمالهم من أجل الحصول على استهلاك أسرهم اليومي من الخبز، وتتناقل صفحات الحوادث جرائم الضرب والسب، وأحياناً القتل، بسبب الخلاف على الدور أو ما شابه. ومنذ تولى الدكتور علي المصيلحي منصب وزير التضامن الاجتماعي، وهي الوزارة التي ابتُدعت حديثاً"من أجل ترسيخ وتعميق البعد الاجتماعي لخدمة المواطن البسيط الذي يقع في بؤرة اهتمامها"، حسب كلمات مصيلحي نفسه وقت تقلده الوزارة، اشتدت ضراوة حروب"العيش"بين تردي حالته، وتناقل الإعلام قصص عثور مواطن على مسمار حديد كامل في رغيفه، أو بقايا أخشاب، أو آثار خيوط، وأحياناً حشرة، وهي مواد"كلاسيكية"كانت تجد طريقها إلى الرغيف المدعم أحياناً، ولكن زاد وجودها فيه أخيرا. وأثارت انتقادات الصحف غضب الوزير مصيلحي الذي أكد في مؤتمر صحافي على هامش افتتاح"المؤتمر الإقليمي الأول في المنطقة العربية"في مدينة الإسكندرية أول من أمس اختفاء الرغيف ذي المسامير والخيوط وغيرها. وأعرب عن غضبه من استمرار الانتقادات التي تتجاهل تماماً أي تحسينات أو تطورات تطرأ على الرغيف. إلا أن المطالبين برغيف آدمي ليسوا الإعلاميين والصحافيين فقط، بل ابتدع البعض شعار"يا مصيلحي خليك بعيد، بكرة ترجع للبريد"إذ كان يشغل منصب رئيس هيئة البريد من قبل. آخرون انتقدوا أسلوب مصيلحي في تناول مشكلة الخبز، وعللوا ذلك بأن الوزير يتعامل مع الأزمة من منطلق خلفيته التقنية العالية وهو الحاصل على درجة الدكتوراه في هندسة الحاسبات من إحدى الجامعات الأميركية، والذي اقترح العمل بنظام"الدليفري"في الخبز المدعوم، أي خدمة توصيل الخبز للمنازل على غرار البيتزا وساندويتشات البرغر، إذ بشر مصيلحي المصريين بأن هذه الخدمة المبتكرة سيبدأ العمل بها في تموز يوليو المقبل. لكن الخدمة الجديدة ترفع العديد من علامات الاستفهام، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: هل سيكون هناك حد أدنى للطلبات، فهل يمكن مثلاً طلب رغيفين بعشرة قروش؟ وما القيمة المستحقة للتوصيل لا سيما أن الوزير قال إن شركة توصيل الخبز الجديدة ستوفر الآلاف من فرص العمل للشباب برواتب تتراوح بين 400 و500 جنيه مصري؟ وبما أن المصريين شعب"صاحب مزاج"في الأكل ولا يعترفون بالخبز"البلدي"إلا إذا كان ساخناً وخرج لتوه من الفرن، فهل ستكون هناك ضمانات بتوصيل الخبز وهو ينفث دخانه؟ الخوف كل الخوف الآن هو أن التاريخ القديم والحديث يشيران إلى أن المصري يمكن أن يتحمل الكثير من الصعاب والمظالم باستثناء واحد وهو تهديده برغيف العيش، وليس أدل على ذلك من بيت الشعر القائل:"عض قلبي ولا تعض رغيفي إن قلبي على الرغيف رهيف".