كان في وسع فلاديمير بوتين تعديل الدستور، والإقامة بقصر الكرملين ما طابت له الإقامة، على مثال نزار باييف في كازاخستان. فالبرلمان الروسي مجلس الدوما طوع يد الرئيس السابق، ولا يتوقع احتجاج الغرب. ولكن تجديد الولايات الرئاسية فوق ما يبيح الدستور وينص يؤدي الى تنصيب نظام أقرب الى الديكتاتورية التقليدية منه الى ديموقراطية موجهة. ويقتضي إرساء ديكتاتورية تقليدية صوغ أيديولوجية صلبة يفتقدها حكم بوتين، ولا ينزع إليها. فالديموقراطية الموجهة قوامها إجراء انتخابات دورية، شرط معرفة نتائجها مسبقاً، وترك القضاء ينظر في القضايا والدعاوى شرط مجاراة الأحكام مصالح السلطات، والإغضاء عن تعدد الصحافة على أن يتمتع الحكم بامتلاك وسائل الإعلام الكبيرة أو معظمها. ولا يحتاج نهج الحكم هذا الى أيديولوجية، وقد يحسب بعض المراقبين أن القومية قد تكون نواة الأيديولوجية. ولكن واحداً من أبرز مؤرخي ومنظّري روسيا ما بعد العهد السوفياتي، ديمتري فورمان، يذهب الى أن القومية أضعف من القيام محل الديموقراطية وتسويغ سلطة بوتين. فالنازع القومي الروسي ليس عصبية متشددة وصلبة، على خلاف القومية الألمانية التي أرسى عليها هتلر حركته وسلطانه. فهو، اليوم، أقرب الى شعور محبط بالعجز عن تعنيف الدول الجارة التي كانت تدور في الفلك الروسي، مثل جورجيا وأوكرانيا ودول البلطيق، منه الى باعث على التوسع والفتح والسيطرة. وحمل افتقار حكم بوتين الى أيديولوجية خاصة، وتآكل الشعور القومي الروسي وهزاله، حمل الأمران فلاديمير بوتين على تصوير نظامه في صورة ديموقراطية خاصة تحظى بقبول زملائه في مجموعة الدول السبعالثماني + روسيا. وعلى هذا جلا روسيا"بلداً عادياً"في طريقه الى الحضارة الغربية. واستبعاده تجديد ولايته أفضى الى حال غير مسبوقة هي تولي رأسين السلطة: الرئيس الجديد والرئيس القديم. وقد لا يشك بوتين في طواعية ديمتري ميدفيديف، ومسايرته إرادته، فالمحامي الشاب كان مساعده ومعاونه الممتثل منذ رئاسته بلدية سان بطرسبورغ. ولكن المثال المزدوج هذا لم ينجح في يوم من الأيام. وقلّما قنع البدلاء بالاقتصار على حصتهم من السلطة"فبعد وفاة لينين، وخشية تروتسكي القوي، عهد الحزب الشيوعي الحاكم بالسلطة الى ستالين، أقل قادته بروزاً وقدرة، فلم يلبث أن تحول الى طاغية ساحق. واختير خروتشوف ليخلف ستالين أميناً عاماً للحزب الشيوعي، واستبعد معاونا ستالين القويان، بيريا ومالينكوف. فما كان من الأمين العام الضعيف إلا أن أقصى منافسيه وضلع في قتل الأول، أقوى الاثنين. ولعل اشتداد القمع، والتلاعب بالقانون منذ خريف 2007 تمهيداً لفوز أنصار بوتين في الانتخابات العامة فوزاً كاسحاً، من الأمارات على توتر الرئيس السابق عشية تركه الرئاسة. والحق أن روسيا بوتين، أو روسيا ما بعد الحقبة السوفياتية في طورها الثاني، طور الاستقرار، تشكو معضلات عميقة لا ينفع تعاظم الموارد النفطية والغازية في مداواتها. ففي غضون خمسة أعوام، 1990 - 1994، زادت نسبة الوفيات لتبلغ 32 في المئة. واقتصر متوسط حظ الروس من العمر على 58 سنة، على قدر متوسط سكان بنغلاديش. وفي 2003، نقص السكان 5 ملايين، قياساً على عددهم 1993. وحين أخذ يلتسين الحكم كان عدد الروس أقل من 150 مليوناً بقليل. ويتوقع أن يبلغ 100 مليون في 2050. والى عوامل إماتة الروس وقتلهم، مثل"الإيدز"والسل والانتحار والكحول والتبغ، ينبغي إحصاء عامل آخر هو اقتصار النفقات الصحية في الموازنة العامة على 5 في المئة، وهي حصة تبلغ نصف نظيرها في الموازنة اللبنانية. ونصف النساء الروسيات يعشن وحيدات. ومن 1000 امرأة، 175 لم يتزوجن، و180 أرامل و110 مطلقات يقمن بأودهن بنفسهن، وتفوق نسبتهن من السكان 15 في المئة نسبة الرجال. ومكانة روسيا في العالم انقلبت من حال الى حال. فطوال ثلاثة قرون متصلة كانت روسيا دولة كبرى. وهذا ما لم تحظ به دولة من دول الغرب. ولا تزال، مساحةً، أكبر بلد في العالم. ولكنها لا تملك قاعدة صناعية كبيرة أو صلبة، وتدين بانبعاث اقتصادها الى اضطلاعها بدور مصدِّر مواد وخامات أولية. والدور هذا تتهدده تبعية مفرطة لتقلبات الأسعار العالمية، من علو سريع وتضخم ولهاث وراء الأسواق وانهيار مفاجئ. وليست صناعتها العسكرية، وقواتها المسلحة، إلا ظل ما كانت عليه في الحقبة السوفياتية. وتقلصت مساحة أراضيها الإقليمية الى دون ما كانت عليه في آخر القرن السابع عشر. ويقل عدد سكانها عن عدد سكان بنغلاديش، وناتجها الداخلي الإجمالي عن نظيره المكسيكي. وقد يكون التغير الذي طرأ على إطار روسيا الجغرافي والاستراتيجي السياسي أشد ما أصابها في تاريخها. فروسيا اليوم محشورة بين اتحاد أوروبي لا يفتأ يتوسع ويمتد، ويبلغ ناتجه 8 أضعاف ناتجها وعدد سكانه 3 أضعاف عدد سكانها، وبين الصين وقوتها المتعاظمة، ويفوق ناتجها الناتج الروسي 4 أضعاف وعدد سكانها 10 أضعاف الروس. وهذا، في ميزان التاريخ، انقلاب تام. وقليل من الروس سبروا، الى اليوم، أبعاد هذا"التضاؤل". وعلى المسرح الاستراتيجي والسياسي، اليوم، لا يسع روسيا الاضطلاع بدور قوة أوروبية كبرى بين القوى الأخرى، على نحو ما كانت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وعلى خلاف حالها يومذاك، تلغي نفسها في مقابل كتلة الاتحاد الأوروبي المتماسكة والهائلة، المنفية منها من غير رجاء عودة عن النفي هذا. والى الشرق، ينتصب المارد الصيني، ويزداد ازدهاراً ونماءً، ويلقي بظله على الانبعاث الروسي. وبإزاء الوجهين هذين، ليس بين يدي روسيا إلا ورقة الطاقة. وليست هذه من غير ثقل، ولكنها ليس كفء التحدي المزدوج. ولا ريب في أن الانقلاب هذا، بينما لم يتخلَّ الروس عن عرقية البيض تجاه الصفر، عسير على القبول. ولا يسع الروس ألا يقارنوا حداثة المدن الصينية بمدنهم المتآكلة والجرباء، وألا يحسوا جرح كبريائهم. ولكن مصدر الجرح العميق هو الغرب. ف80 في المئة من الروس يقطنون الشطر الغربي من روسيا، ومساحته ربع مساحة روسيا. ومعظم النخب الروسية يعتد بأوروبيته، على رغم دعاة الأوراسية. والدولة الروسية تعرِّف نفسها بخلاف أوروبا، وتتمسك بما يخرجها من أوروبا، ولا يسع أوروبا تضمنه. وهذا ظلم لا تطيقه"النفس"الروسية. عن بيري أندرسون،"لندن ريفيو أوف بوكس"البريطانية، 1/2008