ترفع الاحداث الامنية والسياسية المتواترة في العراق خلال الاشهر الاخيرة مستويات التوقع، وتتداخل الامنيات بالوقائع في شكل سافر فيما يظل هذا البلد عصياً على امكانات التحليل ومملوءاً بالمفاجآت. وهذه المرة قد تكون اشهر الصيف العراقي الطويل مضماراً لصراع يتوقعه البعض حاسماً في تحديد ملامح المستقبل القريب لمصلحة انهاء مرحلة الموت السياسي السريري واستئناف الدور الاقليمي في مقابل مخاوف من انتكاسة امنية حادة ودامية. هيبة الدولة على خلاف المألوف خرجت حكومة نوري المالكي بنصف حقائبها الشاغرة وبتحدياتها الجسيمة اكثر تماسكاً من ازمة"كسر العظم"مع الزعيم الشيعي مقتدى الصدر في معركة البصرة على رغم انها لم تنجح في فرض الاستسلام على الأخير. والمالكي الذي توجه الى الكويت لحض الحكومات العربية على احتضان العراق"الجديد"كان ترك خلفه في بغداد اندفاعاً من الكتل التي تمسكت بالانسحاب من حكومته"التوافق والعراقية والفضيلة"للعودة اليها، وقراراً شديد الجرأة يخير الصدر بين مرين"الاقصاء السياسي او قص جناحه العسكري". رئيس الحكومة العراقية شن حملة اعلامية وسياسية وامنية لفرض هيبة الدولة واستعادة الاجماع الشعبي حولها حتى ان وسائل اعلام الحكومة نقلت تظاهرات مؤيدة له في مدن جنوبالعراق الشيعية ترفع صوره وتعظم من شأنه تماهت مع تقليد عراقي انقطع بالنسبة للقادة السياسيين بعد الاحتلال وتحول الى القادة الدينيين. الصدر كان احد القادة الذين زاحموا في تواجدهم الطاغي اية شخصية سياسية ودينية اخرى ومنها المرجع السيد علي السيستاني، لكن صوره الملصقة على السيارات وفي اجهزة النقال او المحفظة الشخصية كتأشيرة دخول الى المدن الشيعية ومقرات الشرطة والجيش ونقاط التفتيش اصبحت خلال اشهر تهمة لحاملها، فيما طورد انصاره من حي الى آخر تلاحقهم احياناً رصاصات القوات الحكومية والاميركية واحياناً أخرى لعنات الاهالي المتعطشين الى الأمن. احداث البصرة بتداعياتها المتشعبة كانت من ضمن نتائجها الجانبية اعادة الدفء الى علاقة الحكومة مع الاكراد، البعض اعتبرها ثمن دعم كردي للمالكي خلال الازمة وآخرون صنفوها في نطاق احساس كردي متزايد بالعمل على تقوية بغداد لفتح طريق حماية دائمة لاربيل بدلاً من العمل على اضعافها، وفي العموم كانت زيارة رئيس حكومة اقليم كردستان الى بغداد لبحث القضايا العالقة لافتة لجهة وصفها بالايجابية من الطرفين بعد مرحلة تعثر طويلة. والمالكي يجادل الاميركيين في مفردات الاتفاقية الطويلة الأجل ويطلب تقليص صلاحيات الجيش الاميركي ضمن الاتفاقية كي لا تتحول الى اتفاق دائم ويفتح باب القوى الامنية لضم"الصحوات"السنية بديلاً عن"جيش المهدي"المطرود منها في مقابل سعيه الى تأسيس"صحوات"شيعية موازية. على المستوى الأمني الذي يعتبره الجيش الاميركي"هشاً"تصرفت حكومة المالكي بعقلية امنية مختلفة عن سابقاتها. لاحقت انجازات عشائر الرمادي و"صحوات"بغداد في طرد"القاعدة"وتحولت سريعاً من موقف المعارض لتشيكل ميليشيا العشائر الى المدافع الرئيسي عنها. استثمر المالكي ايضا المناخ الشعبي الرافض للعنف من اجل ضرب جيش المهدي قبل ان يستخدم الموازنات الأمنية المتحركة بين القوى التي تفرض وجودها في العراق لطرح القوات العراقية كرقم امني وانتقد للمرة الاولى التدخل الايراني وحذر من دعمه للمليشيات واختار عدم الاعتماد الكلي على الجيش الاميركي في المعارك اليومية وابرم صفقات سلاح لا يرضى عنها الاميركيون تماماً. جولة جديدة لكن الحديث عن"ربيع سياسي"بمقاييس الحكومة العراقية، يعيد تأسيس مشروع الدولة، لا يمكن الاعتماد عليه وان بدت مؤشراته ايجابية. فالتصورات تلك يبدو انها شيدت بعيداً من فرضية الوجود الاميركي الطويل في العراق وبصرف النظر عن التأكيدات الاميركية عن تواجد موقت في هذا البلد فإن استراتيجية البقاء سترتبط على الدوام بتفجر الأزمات السياسية والامنية وتفاقمها. وصيف العراق عام 2008 الذي بدأ باكراً بمواجهات مستمرة بين"تيار الصدر"والقوات الحكومية والأميركية لا يتوقع له طيف واسع من المراقبين ان ينتهي وفق فرضية متفائلة. فالصدر الذي اطلق بيانات متناقضة يهدد فيها مرة بإشعال"حرب مفتوحة"ويتراخى في اخرى"للدعوة الى استمرار تجميد ميليشيا المهدي"ما زال يمسك بأكثر من خيط في تشعبات الوضع الأمني والسياسي العراقي. فالأحداث على جسامتها لا تثبت عملياً نهاية عصره والوقائع على الارض تثبت بالمقابل ان انصاره متواجدون ومؤثرون ويجمعون بين الدعم الخارجي والتأثير الشعبي. وخطاباته النارية ضد الاحتلال لا تمنع فتح قنوات اتصال مع تلك القوات عبر وسطاء، فالصدر في النهاية عامل توازن مطلوب اميركياً في معادلة مواجهة اميركية - ايرانية متواصلة على ارض العراق. وعلى رغم ان المشهد يبدو غامضاً فإن معطياته تشير الى ان الصدر يتلقى دعماً ايرانياً من جهة ويحارب اصدقاء ايران في العراق من الجهة الثانية وينتقد التدخل الايراني من جهة ثالثة وكل تلك المنافذ واخرى تضعه في قلب المعادلة وليس خارجها فهو مطلوب ايرانياً كعامل ممانعة للتواجد الاميركي في العراق وهو مطلوب اميركياً بعد الترويض لمواجهة نفوذ ايران عبر اصدقائها الحكوميين والاكثر انه مطلوب شعبياً في توق شيعي مستمر الى معطيات مدرسة والده الدينية. الجانب الآخر من هذه المعادلة يبرر غرابة الموقف في وقت يكشف عن وجود دلالة في تعقيده، فلا جديد في الحديث عن صداقة استراتيجية تجمع"المجلس الاسلامي الاعلى"وحزب"الدعوة"بايران وضمان اقليم شيعي موال للجمهورية الاسلامية لا يمكن ان يتم من خلال تنظيم تغلب عليه العفوية وانعدام الخبرة كتيار الصدر، وانما من خلال احزاب ذات تنظيم هرمي وسلطة قرار وامكانات منهجية وفكرية وقيادية واضحة المعالم. وان يكون حزبا"الدعوة"و"المجلس الاعلى"مطلباً ايرانياً استراتيجياً يحمل الدلالات ذاتها لأن يكون الحزبان مطلباً اميركياً مرحلياً، وكل ذلك يبرر استحالة اقصاء الصدر من المعادلة او دعمه لاقصاء منافسيه. والصدر في وزن كتلته السياسية 30 مقعداً برلمانياً لا يسهل مهمة التحالف ضده على المدى الطويل فهو يتقرب من اياد علاوي عدو الامس ويفتح اتصالات مع جماعات مسلحة وعشائر سنية ودول معارضة للاحتلال في شكل آخر وسيستثمر اية فرصة متاحة للانقضاض على الحكومة الحالية في ضوء استمرار الاجواء التي تسمح بولادة الخلافات بين الاطراف السياسية الرئيسية الثلاثة التوافق السنية والتحالف الكردية والائتلاف الشيعية على معظم القضايا غير المحسومة كمسألة كركوك وقانون النفط والمعاهدة الاميركية العراقية وسواها. ومقاعد الصدر في البرلمان ليست مجرد رقم فائض فهو وحتى موعد انتخابات نهاية عام 2009 سيتمكن من الاشتراك في عرقلة أي مسار برلماني نحو اقرار القوانين ومعظمها لا تحظى بإجماع وتقر بفارق بضعة اصوات بين المؤيدين والمعارضين. والأهم من كل ذلك ان توصل تيار الصدر الى قرار حل جيش المهدي للاشتراك في انتخابات مجالس المحافظات في نهاية هذا العام يرجح ان يتم تأجيلها سيمنحه هامشاً واسعاً للمنافسة على السلطات المحلية في المحافظات التي ستزاحم خلال المرحلة المقبلة سلطات المركز وربما تتجاوزها. الحسم المؤجل ومع تكاثف الازمات في العراق يتبلور تصور واضح يذهب الى ان الازمة العراقية بجوهرها لا تخص تمرد جماعة مسلحة في المناطق السنية واخرى في المناطق الشيعية وان نهاية ازمة الصدر لا تعني بالضرورة نهاية المشكلة وان كانت تفتح ابواباً لذلك. فالجماعات المسلحة التي رفعت شعار مقاومة الاحتلال في العراق طوال السنوات الخمس الماضية لن ترضى بدور"الصحوات"وان تكيفت مع هذا الدور بفعل ضغط"القاعدة"والاشهر الماضية كانت كفيلة بإعادة تنظيم بعض هذه الجماعات في اجواء اكثر هدوءاً، والاهم ان جماعات معروفة استقطبت في شكل واسع عناصر تنظيم"القاعدة"السابقين وتم ترويضهم ضمن مجالس"الصحوة". والعامل الآخر في هذه القضية، ان الخيارات المطروحة امام الجماعات المسلحة لا توازي مخططاتها الاستراتيجية، بالتالي فان خيار القتال ما زال فاعلاً ومستمراً ما يشكل عامل تهديد لمجمل العملية السياسية على المدى البعيد. وعلى المستوى السياسي ما زالت جبهة التوافق التي تعود الى الحكومة تعاني من انشقاق اطرافها داخلياً ومزاحمتها على يد العشائر والصحوات والجماعات المسلحة ما يدفع فرضية ان"التوافق"التي عادت الى الحكومة اليوم تختلف من ناحية الوزن والتأثير عن تلك التي اسهمت بتشكيل الحكومة عام 2006 الى أمام. وسياسياً ايضاً ما زالت جبهات سياسية داخل العملية السياسية وخارجها ككتلة علاوي وصالح المطلك وتنظيمات تأسست بعد عام 2006 تعد عدتها للحصول على ادوار سياسية في مرحلة افول ممثليات الاسلام السياسي التي يتوقع ان تكون قريبة في العراق بعد احتراق اوراقها السياسية. كما ان خط الخلافات بين بغداد واربيل ما زال فاعلاً خصوصاً في القضايا موضع الجدل مثل كركوك والنفط، وحل مثل هذه الازمات يتطلب تنازلات ما زالت بعيدة المنال بين الاطراف.