من المرجّح أن يؤدي طلب الزعيم الشيعي- العراقي مقتدى الصدر أنصاره بإنهاء المظاهر المسلّحة إلى وقف المواجهات الدموية في البصرة والتصعيد المتبادل في العديد من المدن العراقية بين أنصاره وجيش المهدي من جهة والحكومة والقوى الشيعية الأخرى من جهة ثانية. ومن الواضح أنّ طلب مقتدى الصدر جاء في سياق اتفاق عُقد بين الطرفين، لكن لا يوجد هنالك ما يضمن عدم تفجر الأزمة مجدداً، ما دامت عوامل التأجيج فاعلة. "معارك البصرة"تعكس الصراع الشديد بين القوى الشيعية المختلفة. فالمالكي وحلفاؤه من الشيعة لا يسعون فقط إلى السيطرة على البصرة، وما تمثله من قيمة اقتصادية حيوية وهامة نفط، وتهريب وتجارة بل إلى كسر شوكة التيار الصدري والسيطرة على حصة الشيعة في الانتخابات البلدية القادمة في تشرين الأول أكتوبر 2008، تمهيداً لمرحلة"خفض القوات الأميركية"أو إعادة الانتشار بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. ويتزامن الصراع الشيعي- الشيعي مع صراع سني- سني، على مستويات متعددة عسكرياً وأمنياً وسياسياً. فقد خرج الصراع السني إلى العلن منذ بدايات عام 2007 بين القاعدة والفصائل المسلحة الأخرى، ثم تشكلت"الصحوات العشائرية"في المجتمع السني، وانخرطت فيها فصائل مسلحة متعددة، في مقدمتها الجيش الإسلامي وجبهة الجهاد والإصلاح في مواجهة القاعدة ولتأمين المناطق والأحياء السنية ضد الميليشيات الشيعية، وذلك بمباركة ودعم أميركي، ما أدّى بالفعل إلى إضعاف القاعدة إلى مرحلة تكاد تصل إلى الأفول. انهيار القاعدة وغروب شمسها في العراق يؤكده أيضاً عدد من الفاعلين في المشهد السني، ويبدو تساقط القاعدة عيانياً مع اعتقال قياداتها ورموزها واحداً تلو الآخر، انطلاقاً من مقتل الزرقاوي وصولاً إلى اعتقال خالد المشهداني، الذي لعب دور"أبو عمر البغدادي"امير ما يسمى بدولة العراق الإسلامية، وقبله مقتل محارب الجبوري، ومؤخراً اعتقال وزير الزراعة وقاضي المحكمة الشرعية في"دولة العراق الإسلامية". بل تتحدّث مصادر مقربة من القاعدة أنّ هنالك هجرة معاكسة تقوم بها العناصر العربية الموجودة في العراق إلى دول أخرى، خلال الشهور الأخيرة. إلاّ أنّ الصراع على المجتمع السني لا ينتهي عند تخوم"القاعدة"، إذ تمرّ حالياً الصحوات في مرحلة تحول أخرى بالانتقال من المجال الأمني إلى المجال السياسي، وقد بدأ هذا التحول مع إعلان صحوة الأنبار - التي يقودها أحمد أبو ريشة - بإنشاء"كيان سياسي"ودخولها في صراع مع الحزب الإسلامي في مناطقها، وتهديدها للحزب بضرورة إغلاق مقاره هناك. في المقابل سيُعلن خلال شهر نيسان وفقاً لمصادر موثوقة عن تشكل"كيان سياسي"جديد، باسم"الحركة الوطنية للتنمية والإصلاح"يتكون من قادة"صحوات"بغداد وهم شخصيات تمثل قيادات ميدانية، في الجيش الإسلامي وكتائب ثورة العشرين، تشارك بصفتها الشخصية لا الحركية، بالإضافة إلى شيوخ عشائر، وتكنوقراط، ويتوقع مؤسسو الكيان الجديد أن ينافس الحزب الإسلامي بصورة فاعلة وكبيرة على النفوذ السياسي داخل المجتمع السني. وما يفسّر التحولات في مفهوم الصراع وطبيعته داخل العراق، وتدويره بين صراع طائفي وصراع على الطائفة، تطور الظروف السياسية والأمنية، وما تخلقه من متغيرات وتحديات استراتيجية. ففي بداية الاحتلال كان الشيعة حريصين على التوحد، وتعزيز مكتسباتهم في العملية السياسية، فعملوا على توحيد قواهم وتوزيع أدوارهم ومصادر قوتهم، وتمكنوا من عقد صفقة مع التيار الصدري، وإدماجه في العملية السياسية، بعد أن كان يعلن رفضه لها. وعلى المستوى الأمني كان هنالك صراع نفوذ قوي مع القوى السنية للسيطرة على المناطق والمحافظات والأحياء المختلفة، بخاصة في بغداد، ما أدّى إلى عمليات"التطهير الطائفي"وتبادل القتل على الهوية والذبح والتهجير. وحرص كل من الطائفتين على توسيع مناطق نفوذها ديموغرافياً وسكانياً، بخاصة في بغداد، التي حاولت القوى الشيعية تغيير هويتها"الطائفية". لكن بعد استقرار العديد من المناطق الشيعية، وتبيّن مساحة كبيرة من الخارطة الطائفية الجديدة في العراق، وبروز إرهاصات لإعادة انتشار القوات الأميركية، فإنّ الصراع على النفوذ عاد مرة أخرى بين الفصائل الشيعية ذاتها، وهو ما عكسته"معارك البصرة"، ويمكن أن يظهر بوضوح في الانتخابات القادمة. أمّا بالنسبة للعرب السنة"فقد اختلفوا، في بدايات الاحتلال، حول استراتيجية مواجهة المرحلة الجديدة"فمن الفصائل الحزب الإسلامي من اختار طريق العمل السياسي، كي لا يترك العملية السياسية للشيعة والأكراد فيفقد السنة دورهم في النظام السياسي الجديد، ومنها من راهن على العمل المسلح لإخراج الأميركيين وإبقاء السلطة بيد السُنة والحفاظ على دورهم القيادي، وقد نجح هذا الاتجاه في إعادة الاعتبار لأهمية وضرورة الحل السياسي للسنة ولإدماجهم بصورة قوية في العملية السياسية. لكن تشكل إدراك جديد لاحقاً، لدى العديد من الفصائل السنية المسلحة، بأنّ التهديد الإيراني أخطر من الاحتلال الأميركي، ما دفع بها إلى فكرة الصحوات وعقد"هدنة"مع الأميركيين لمواجهة النفوذ الإيراني وإعادة التوازن للمؤسسات السياسية والأمنية. التحولات الأخيرة تفسر ظاهرتين رئيستين"الأولى الصراع الحالي داخل كل من المناطق السنية والشيعية بين القوى والأحزاب المختلفة. والثانية تراجع عمليات مقاومة الاحتلال الأميركي، وتحول فصائل المقاومة إلى ترتيب البيت السني الداخلي، في ظل التراجع الكبير للقاعدة وتحولها من العمل العسكري وفكرة إقامة"الدولة الإسلامية"في المناطق السنية إلى"العمل الأمني"، لاغتيال قادة الصحوات وخصوم التنظيم. الاحتلال الأميركي هو المستفيد الأول، بامتياز، من التحولات الأخيرة. إذ تخلّص الاحتلال من أغلب قدرات القاعدة، بأيدٍ سنية، وقد لخّص مسؤول أميركي هذا التحول بالقول"إنّ الأميركيين نجحوا في خصخصة قتال القاعدة". كما تدفع التحولات الجديدة جزءاً كبيراً من المجتمع السني من العمل المسلح إلى العمل السياسي، ما يحقق في الوقت نفسه هدفين استراتيجيين للأميركيين: الأول إعادة بناء التوازن للعملية السياسية والحد من نفوذ القوى المؤيدة لإيران في العراق، والثاني إزالة هواجس دول الجوار العربي، الحليفة لأميركا من المد الإيراني الإقليمي. على الجهة المقابلة، وإذا كان من الصعب تحديد القنوات الخلفية بين التيار الصدري وإيران، مقارنة بالعلاقات التاريخية والأمنية الاستراتيجية الإيرانية مع القوى الشيعية الأخرى، إلاّ أنّ المصلحة الإيرانية تكمن في"إدارة الفوضى"في العراق، وهي الاستراتيجية التي لا تخدمها سياسات حلفائها الرسميين المجلس الأعلى وحزب الدعوة، وإنّما تتحقق من خلال دور"التيار الصدري"، كما أنّ إنشاء"الصحوات العشائرية"وتراجع المقاومة السنية المسلحة ضد الاحتلال الأميركي لا يخدم المشروع الإيراني ببقاء الأمن في العراق ورقة استراتيجية للمقايضة مع الإدارة الأميركية. ومن المتوقع أن تكون انتخابات البلديات القادمة اكتوبر 2008 بمثابة باروميتر لمدى التحولات الأخيرة ولقدرات القوى المختلفة داخل كل طائفة في تعزيز نفوذها على الأرض سياسياً وعسكرياً، لتحظى هي بالحصة الأولى في تمثيل طائفتها سياسياً وواقعياً. * كاتب أردني.