هذه القصة عشت نهايتها بنفسي، والتفاصيل التي لم أعشها جمعتها من علاقة بعيدة دامت سنين. وأنا أُريد أن أبدأها بذلك اليوم من شتاء عام 1976 الذي كان يستعد فيه"مصطفى العشري"لمرحلة جديدة. كنت مدعواً إلى العشاء في بيته. لمحته وهو يقف أمام مرآة كبيرة في الصالة الواسعة وهو يتطلع إلى قوامه الفارع بابتسامة، كمن يرى أن من حقه أن يكون راضياً عن نفسه، عن شعره الأسود الكثيف الممشوط بعناية، فيه ذلك القدر اللازم من اللمعان الذي لا تشكك في أنه طبيعي. على الجانبين من رأسه شعيرات قليلة بيضاء تُضفي عليه نوعاً من الحكمة والمهابة التي تليق برجل اقترب من سن الخمسين. أنفه مستقيم. تنفتح شفتاه على صفين من الأسنان البيضاء القوية. ربما كانت عيناه صغيرتين إلى حد ما يطل منهما ما كان يسميه البعض قسوة باردة. لكن هذا الوصف لم يكن يُضايقه في شيء. كان يرى أن الدنيا لا مكان فيها للطيبة، أن الرجل القوي الذي لا تقف أمامه العقبات، ولا العواطف... لكنه كان يقول ان أغلب النساء اللائي صادفهن في حياته صرحن له بأن أكثر ما جذبهن إليه هو الحنان الذي تنقشع عنه نظرته في بعض الأحيان، وعلى الأخص عندما ينتهي من حياته الرسمية. كما كان كثر يقولون ان مصطفي العشري الحقيقي لا يظهر إلا عندما ينتهي من أعماله، ويتفرغ لساعات الصفو مع الأصدقاء. أما ما كان يُحكى عن عصاة الفروسية التي ينهال بها على الأُجراء في مزرعته أحياناً فكانت تُقابل بهزة من الكتفين كأنها أشياء لا ينبغي الاهتمام بها. مصطفى العشري بكل المقاييس المعترف بها رجل حقق نجاحاً غير عادي يحسده عليه كثر، وُصف بأنه رجل حظه من السماء، أما هو فقد صرح مراراً بأنه لا يُؤمن بالحظ. الحظ عنده هو بُعد نظر، ومعرفة الوقت المناسب لانتهاز الفرص، والنظام الصارم في الحياة اليومية. دار حول نفسه أمام المرآة يفحص بدلة الفروسية الجديدة التي فصلّها عند ترزي في شارع"قصر النيل". رجل أخرس تبدو عليه البلاهة، ولكن مقصه كالسحر، جعل السترة تلف حول جسمه كالقفاز، عريضة قليلاً عند المنكبين، ضيقة قليلاً عند الخصر، فقد استطاع أن يحتفظ بقوامه على رغم مرور السنين. كان يقضي الساعات الطويلة في الإشراف على أعماله، ويقضي ليالي أطول في سهراته. حيثما يذهب يحمل في جيبه مفكرتين صغيرتين أنيقتين، إحداهما سوداء فيها أرقام التليفونات الخاصة بالعمل، والأقرباء، والأصدقاء، والأخرى حمراء، فيها أرقام عدد كبير من النساء، فهو لم يكن يُحب الخلط بين الأمور حتى في المفكرات، فالنظام عنده أحد أركان النجاح. ومن كان يعرف مصطفى العشري عن قرب لاحظ أنه رجل عصري منظم للغاية. البيوت أو بالأحرى القصور الثلاثة التي يمتلكها مزودة بأحدث الأجهزة، تضمن أن يتم كل شيء فيها بدقة وسرعة وهدوء. مكتب التصدير والاستيراد الذي يقضي فيه ثلاث ساعات كل يوم، من الحادية عشرة صباحاً حتى الثانية بعد الظهر عبارة عن دورين في عمارة السعودي، جدرانه ألوانها هادئة، ناعمة تنتقل ما بين الفستقي والرمادي والبيج. ستائره شفافة، والإضاءة فيه غير مباشرة، والآلات الكاتبة الإلكترونية موجودة في أغلب الحجرات. الأبواب والأرضيات تلمع كلها، والأبسطة السميكة تكتم صوت الأقدام. السكرتيرات المهذبات المبتسمات الجميلات يختلن على كعوبهن في الممرات. أما المزرعة التي يقوم فيها بزراعة الياسمين، وتربية العجول الهجينة، وتدريب الخيول فكانت تُدار على أحدث الأنظمة المستوردة من الدنمارك، وتستطيع أن تضبط ساعتك على مواعيد إطعام الحيوانات، وتنظيف العشش والإسطبلات. لا شك في أن هذا التمسك بالدقة، والنظام، والأسلوب العصري في إدارة الأعمال كان عنصراً أساسياً في نجاح مصطفى العشري. لكن إذا سألته عن أهم أسباب التوفيق الذي لازم خطواته كان يقول، وفي عينيه الصغيرتين بريق،"بعد النظر". سأله كثر هذا السؤال، ذلك أن حياته كانت تتميز بقدر من النجاح منقطع النظير، فلم يضع يده في مشروع إلا وخرج منه بأضعاف أضعاف ما أنفق فيه من أموال. كان من ذلك النوع من الناس الذين يُقال عنهم"التراب يتحول بين يديه إلى تبر". لكن وُجد خبثاء قالوا ان قدرته الأساسية كانت تنجلي في علاقاته مع الدوائر الحاكمة، وعلى الأخص شعبيته في أوساط النساء اللائي تربطهن صلة ما برجالها. كان مصطفى العشري بعيد النظر بالفعل، فمثلاً قبل أن يصدر قانون الإصلاح الزراعي الأول عام 1952 أدرك إلى أين تسير الرياح، فتخلص من الأراضي التي ورثها عن أبيه، وأنشأ مزرعة بالقرب من الهرم مساحاتها 50 فداناً خصصها لزراعة المانغو، ثم أخذ يُضيف إليها سنة بعد سنة. ومع الأيام حول بعض أمواله إلى ورشة للخراطة، ومصنع للأثاث، ثم ابتاع عمارة في الدقي، وأخرى في مصر الجديدة. كان يختار مجالات عمله بحيث تكون متنوعة، ولا يُصيبها التأميم. بعد أن مات عبدالناصر ابتاع دورين في عمارة السعودي، وفتح مكتباً للاستيراد والتصدير، وحيث انه كان رفض طوال حياته الدخول في هذا المجال مفضلاً عليه ما يتعلق بالإنتاج، أبدى المقربون إليه دهشتهم وسألوه، فابتسم بهدوء وقال"انتظروا وسترون". لم يمر على فتح مكتبه خمسة شهور إلا وأُعلنت سياسة الانفتاح، فوصفه أحد الصحافيين من الشيوعيين بأنه ابن إقطاعي تحول إلى رأسمالي فهز رأسه وقال"بالضبط". عودته الحياة على أن يأمر فيُطاع. الأشياء والناس وحتى الظروف، كانت كالأدوات يُطوعها لإرادته. كان يداً من حديد تختفي في ثنايا القفاز، لكن نادراً ما كان يرفع القفاز. لذلك أجمع الناس على أنه رجل طيب. الصحف تكتب عنه بين حين وآخر فهو يُؤمن بالدعاية، لكن في حدود. شيء من الظل وشيء من النور، حتى ينتقل بسهولة من الواحد إلى الآخر عندما يُريد. يده سخية يُطلقها في الجمعيات الخيرية والشرعية وموائد الرحمن، في الحفلات التي يُقيمها ويسعى إليها العارفون، في مؤسسات الفكر والثقافة، وعدد من الصحف محدود. لكنه كان يتفادى الضجة، فقد علمه أبوه شيئاً مهماً لم ينسه"الستر، إذا بُليتم فاستتروا". شيء واحد فقط كان يُطلق لنفسه فيه العنان. كان مغرماً بالخيول، وفي سبيل غايته هذه كل تضحية تهون. كان إلى وقت قريب من مشاهير الخيالة، يُسافر إلى روما وباريس ومدريد وبلاد الخليج بخيوله، ويعود بالنياشين والكؤوس تبرق مع ابتسامته على صفحات المجلات. ففي هذا المجال أيضاً لم يكن يعرف الهزيمة. رأسه مرفوعة عالية على الدوام، ومع رأسه المرفوعة في الصحف والمجلات، يرفع المحررون راية الوطن، وقيمة المكافأة الودية التي يتلقونها منه عندما يعود. حبه الأكبر كان الخيول، فالخيول هي الشيء الوحيد الذي لا يُدر عليه ربحاً، بل يُكلفه الكثير. يدفع عن طيب خاطر ليُمارس عن طريقها أهم متعة له في الحياة. المزرعة، والمصانع، والعمارات، ومكاتب التصدير والاستيراد من ضرورات الحياة. يستثمر فيها أمواله لتعود عليه بالربح. لكن الخيول بالنسبة إليه شيء آخر، ربما كالنساء يُحب أن يمتطيها مع ذلك كان هناك فارق بينهما، ففي ما يتعلق بالخيول كان على استعداد للتضحية. فكم من المرات اختلف مع شخصيات مهمة طمعت في مهر أو حصان، وأبى مع ذلك أن يتنازل عن أحدهما ليذهب إلى صاحب جديد، بل وصلت المسألة في بعض الأحيان لانتقال الصراع إلى مجال الأعمال بسبب التنافس على الخيول. أما النساء فلا شك في أنه كان يُحبهن أيضاً، مع ذلك كان على استعداد للتضحية بأي امرأة إذا دعت مصالحه إلى ذلك، ربما لأن الحصول على النساء كان أسهل من الحصول على الخيول الأصيلة. المهم أن نعود من حيث بدأنا هذه القصة حتى لا نفقد الخيط. في ذلك الصباح الذي أتحدث عنه دعاني مصطفى العشري إلى بيته، ثم إلى الذهاب معه الى مزرعته لنقضي فيها يومين. فمن العادات المنظمة التي حرص عليها كانت تلك الزيارة التي يقوم بها في نهاية كل أسبوع... دعاني هذه المرة لمناقشة مشروع ثقافي أراد أن أُشارك فيه. لكن زيارته هذه المرة لم تكن ككل المرات السابقة، فقد كانت مقترنة بغرضين، الأول أنه اشترى حصاناً جديداً، والثاني أنه اصطحب في هذه الزيارة امرأة ارتبط بها حديثاً، ودعاها لهذه الزيارة للاتفاق على تفاصيل الزواج. صحيح أن السنين الماضية في حياته شابتها أشياء، ولكن النزوات طبيبعة في سن الشباب، وخصوصاً بين الرجال، لكنه أحس بعد تقدم العمر به إلى حد ما، أنه لا بد من الاستقرار، فأسلوب حياته القديم لم يكن مطلوباً بعد تخطي سن الخمسين، ثم لا مانع حتى بعد الزواج من عشيقة أو اثنتين، لكن هذا شيء والزواج شيء آخر، الزواج يحفظ الاسم والاحترام والكيان ويضمن له ذريّة ترث منه الأملاك. كان من الواضح أنه في ذلك اليوم أحس بالانشراح. بدا ذلك وهو يتطلع إلى نفسه في المرآة. كان يبدو أكثر شباباً، فهناك مناسبتان تبثان فيه النشوة، الزوجة والحصان، أو إذا أردنا الدقة الحصان والزوجة. صدفة غريبة ولكنها موفقة، ربما لا علاقة بينهما في الظاهر، ولكنهما تترابطان. ربما لم يكن هذا الترابط واضحاً في ذهن مصطفى العشري، أو لنقل انه على الأقل لم يكن تعدى إحساسه بالعلاقة بين الاثنين مستوى الوجدان إلى طبقات الوعي. رأيته يشد على سترته للمرة الأخيرة، ويتأكد من لمعان الحذاء. وضع العصا القصيرة تحت إبطه، وألقى نظرة حول الحجرة قبل أن يفتح الباب ويدعوني إلى ترك المكان. هبطنا السلّم الخشبي العريض. اجتزنا الصالة حتى حجرة الضيوف، وخطواتنا فوق البساط تتردد بدبيب مكتوم. خرجنا إلى الشرفة فوجدنا خطيبته تميل فوق الحاجز، وتتطلع إلى مشتل الزهور. قال: "صباح الخير يا نهاد" فوجئت به إلى جوارها، فالتفتت إليه في اضطراب. قالت: "صباح الخير يا مصطفى. لم أسمعك وأنت تُقدم". استدارت ولوّحت بيدها نحو الحديقة. لمحت عينيه تستقران عليها فيها تعبير عن كوامن الخيال. أحست بنظراته فصعد إلى وجهها احمرار خفيف. "أنظر الزهور، تتفتح". قال:"أندر الزهور في مصر. أستورد بذورها من الخارج مهما كلفتني". صمت... وضعت يدها على ذراعه، وحملقت أمامها كأنها تُفكر في شيء. سألها:"بمَ تُفكرين؟" قالت: "يا مصطفى، ألم تعدني بأننا سنشاهد حصانك الجديد". "طبعاً هيا بنا". وأشار إليّ بحركة من يده حتى أرافقهما إلى المكان الذي سيذهبان إليه. سرنا عبر الحديقة. حول أحواض الزهور أجساد تميل، وسيقان رفيعة يُطل سمارها أسفل الجلباب. وقفوا عندما مررنا، وارتفعت الأيدي إلى الجبهة مع خفض العيون. اخترقنا السور عند آخر الحديقة، ثم فُتح باب وأفسح لنا الطريق إلى حوش واسع دائري مُحاط بسور. تقدم نحونا صبي يرتدي سروالاً وقميصاً. تأملت وجهه الأسمر لفحته الشمس وتأملت عينيه تنظران إلينا في ثبات. خاطبه مصطفى العشري: يا"محمد"أطلب من عم"حسنين"أن يُحضر"عقاب". مالت خطيبته ناحيته. لمع شعرها في الشمس. لمحت نظرته تقول:"ممتع هذا الانتظار الموقوت". سألته:"من"عقاب"هذا؟". "الحصان". ضحكت في سرور، ثم قالت فجأة:"أنظر. أنظر."عقاب"هناك". توقف الحصان على مسافة منا منتصباً، فخوراً يتطلع بعينيه فيهما بريق. شيء كاللهب الأحمر يلمع في الشمس، شيء كالحريق. الأقدام فوق الأرض، والعُرف الأشقر يتطاير في الريح. الرأس صغير، دقيق كالأنثى المتمردة، وارتعاش الأنف، وبياض العينين إنذار قلق. استأنف السير وتقدم ناحيتنا بخطوات كأنه يتحسس الطريق، ثقة وحذر غريزي أمام المجهول. فوق ظهره الرجل العجوز كالعصفور يقوده بلمسات مستترة كالكلمات تروح وتجيء، قال"مصطفى العشري اقترب به يا عم حسنين". الآن أصبح يقف أمامنا. عين يُطل بياضها من طرف خفي، كالشر اللامع يُضيء. رأسه يرتفع وينخفض، وفي جسمه استسلام متوتر يستعد للاحتمالات. سكون فيه حركة كالسهم المشدود، وإلى جواره عم"حسنين"يُمسك باللجام. اقترب مصطفى العشري من الحصان. ربط على عنقه ثم تناول اللجام من"عم حسنين". قفز قفزة واحدة رفعته فوق ظهر الحصان، قفزة واحدة قفز معها الحصان كأنه عرف اللحظة قبل أن تجيء. سمعت صهيله الغاضب الصارخ كالتحدي. رأيته قدمين على الأرض، ورأساً مرفوعاً الى السماء، ثم جسداً أحمر ينقلب إلى الوراء. انطلق يجري في الدائرة مثل شيطان مجنون. يتوقف فجأة، ثم يصعد بقدميه كأنه يتسلق الفراغ. بياض العينين كالذعر أمام حريق. اللعاب يتطاير من الفم وأسنانه فوق اللجام كأنها تقطع في الحديد. كل شيء في عيني حدث سريع، وبطيء كمن يُذبح في لحظة ثم يفيق، كمن يرى نفسه يموت ثم يعيش. رأيت الفارس الأبيض معلقاً في الهواء، ورأيته بعدها في لحظة خاطفة ممتدة راقداً على التراب كالقتيل، والحصان يجري حول السور في بحث يائس عن مخرج ينطلق منه. وقفت مشدوهاً عاجزاً عن الحركة. قام مصطفى العشري من رقدته. نظف ثيابه بيديه ثم نادى بصوت حاد"يا عم"حسنين"أمسكه". في عينيه غضب بارد كريه. ينظر إلى الحصان بحرص من عرف خصمه. يمسح يديه من العرق على السروال، ويقترب منه بالتدريج. يحسب بعينيه المسافة. قفزة واحدة وبدأ الصراع من جديد. إرادتان ترفض كل منهما أن تلين. أرى العضلات المشدودة في وجهه، والعرق يسيل. صرخت"نهاد"بصوت باك فيه رجاء. "يا عم حسنين. أمسك الحصان". الرجل العجوز يتفادى النظر إليها. يعرف أن حياته لن تساوي كثيراً إذا تدخل. يتابع بعينين فيهما إشفاق الصراع الأبله العنيد. يجري ويقفز حول الحوش، كالغراب الأسود المذعور. أحسست بشيء في الجو فظيع. صرخت"نهاد": "إلحقه. إلحقه". رأيت الحصان يجري نحو السور. بدا لي أنه سيصطدم به، ورأيت مصطفى العشري محلقاً في الهواء كأنه يطير. سمعت دبيب حوافر الحصان كأنه الرعد السريع ثم خفتت بالتدريج وساد السكون . وجدناه فوق ظهره عند حافة الترعة. سحبوه من القدمين فوق الشاطئ. كانت الجثة مغطاة من أعلاها إلى أسفلها بالطين. العينان تنظران إلى السماء في دهشة، ولسان يتدلى من ركن الفم. وعلى بعد وجدوا"عقاب"يقف تحت شجرة. اقترب منه عم"حسنين"، وربت على رأسه وعنقه بلمسات خفيفة، ثم رفع جسده الأسمر الضئيل فوقه، وعاد به هادئاً فوق الطريق، كأن لغة صامتة تروح بينهما وتجيء.