يكتب يسري الغول قصصه بلغة شعرية تحمل على الاعتقاد أن أغلب هذه القصص هي نصوص، تتبوأ اللغة فيها المكانة الأولى، وهي إلى ذلك تتميز في الكثير من الحالات بقدر من التكثيف يجعل الشريط اللغوي فيها مضغوطاً إلى أقصى حد ممكن. ويتبدى الهم الفلسطيني على نحو أو آخر في عدد من قصص المجموعة، ولا تتم متابعة الحدث هنا بالطريقة المألوفة التي اعتادتها القصة التقليدية. ثمة منحى تعبيري في الكتابة، ومن خلاله تظهر بعض تفاصيل المعاناة الفلسطينية من الاحتلال. يتكرر ظهور المخيم في عدد من قصص المجموعة، إنما ليس بالطريقة التي يظهر فيها المخيم ظهوراً واقعياً، بتفاصيله وملامحه الدالة عليه، كما هو الحال في القصص الواقعية التي كتبها قاصون فلسطينيون في مرحلة سابقة. يظهر المخيم في قصص يسري الغول مشخصاً بالقليل من التفاصيل حيناً، ومجرداً حيناً آخر، باعتباره واحداً من المؤشرات التي تنبئ عن الموضوع الفلسطيني. ويتكرر ذكر الموت في عناوين بعض القصص وفي متونها، حتى لا تكاد قصة واحدة تخلو من ذكر له، وفي بعض الأحيان يجري إقحامه في القصة من دون أن يكون ثمة مبرر لحضوره أو لذكره، وإنما هو يأتي من خارج السياق، كما في قصة"فتاتان برائحة الغربة"حيث جاء في نهاية القصة ومن خارج سياقها تماماً وعلى نحو غير مبرر الآتي"هما ذكرى مرت من هنا، بجوار قلبي الذي ذاب بعد ذلك الحديث إلى حبيبة ماتت بعد العودة إليها بقليل". ولا بد من ملاحظة المفارقة الكامنة في عنوان المجموعة، الذي هو في الوقت نفسه عنوان القصة الأولى فيها، حيث يجتمع الضدان: الموت والغناء، تحت سقف واحد. وهذا بدوره واحد من المؤشرات التي تنبئ عن طبيعة الوضع الذي يحياه الفلسطينيون، حيث الموت من جهة والإصرار على الحياة من جهة أخرى. فإذا أضفنا إلى ذلك كله، تكرار ذكر المنافي والسجون والتشرد والهزيمة والنصر، فإن الدائرة تكتمل، ويصبح الموضوع الفلسطيني هو الهاجس الرئيس في هذه المجموعة القصصية. والموضوع الفلسطيني لا يظهر هنا معزولاً عن الهموم الخاصة لشخوص القصص. ثمة تداخل بين العام والخاص، وهو يضفي على القصص مزيداً من الحميمية والصدق. يظهر ذلك على سبيل المثال لا الحصر، في قصة:"زوجة عابرة"على رغم ما فيها من غموض لا يحسب لصالحها. وحينما لا يكون ثمة ذكر للموت في قصة من قصص المجموعة، ولا يكون ثمة جنود يمارسون العسف ضد الفلسطينيين، ونكون أمام قصة حب بين رجل وامرأة انتهت بالكراهية وبالفراق، فإن المفردات الدالة على الاحتلال وعلى الموت، تحضر هنا لكي لا نبدو بعيدين عن الوضع المهيمن على أجواء المجموعة. فالكاتب يصف سقوط المطر في قصة"هواجس النهاية"على النحو التالي:"يبدأ المطر بالسقوط، وقذيفة تلو أخرى تبللني، تدك ملابسي حتى أغرق قبل أن أصل الخطوة السادسة". ويتجلى الموضوع الفلسطيني على نحو آخر في قصة"ظلال الرجال"حيث تستمر اللغة الشعرية في تدفقها عبر السرد بضمير الأنا، وتتخذ القصة من مظاهر الطبيعة المختلفة ومن طقوس الموت والميلاد، رموزاً لهذا الموضوع وما فيه من هجرة ورحيل، وموت واستشهاد، وتشتت وانبعاث. ويجري السرد في عدد من قصص يسري الغول على إيقاع الجمل الإسمية التي يبدأ بها القص، ثم تليها الجمل الفعلية المبدوءة بالفعل المضارع، ما يهب الحالة الموصوفة حضوراً حياً، وكما لو أنها حالة راهنة تتبدى أمام عيوننا عند لحظة التلقي. يظهر هذا بوضوح في قصة"صخرة الجلمود"وهو عنوان ثقيل الوطأة غير شاعري، وإن كان المقصود منه الإيحاء بالصمود والثبات. في هذه القصة ذات المنحى التعبيري الموشى بالرموز، نبدو منذ السطر الأول كما لو أننا أمام حالة أسطورية ذات بعد تراجيدي:"المدينة روح وريحان. القلعة ضوء شاحب. أجزاء مهدمة. يدخل الرجال بحذر متوجسين بينما يرسل الآخرون هداياهم لسيد البحر. يلقون بالجثث الميتة للحيتان الجائعة. يمرون بسيوفهم أعلى التل". أحياناً، يبدو التمرد على طبيعة الحياة في المخيم سلبياً، حيث يقرر بطل قصة"طائرة لحرمان قديم"السفر وعدم العودة إلى المخيم، وهو يكذب على الفتاة الجالسة إلى جواره في الطائرة قائلاً لها إنه سيراها لاحقاً في مسقط رأسه، وهو موقن بأنه لن يراها لأنه لن يعود. في حين نرى العكس تماماً في قصة"المسافر"حيث يعود الشاب من السفر مدفوعاً بالشوق إلى وطنه، وقبل الوصول إلى منزله في المخيم تصطدم شاحنة بالسيارة التي تقله، فتقتله ويموت. هنا يحدث الموت بالمجان، وبالصدفة المحضة! وهو الأمر الذي يثير الانتباه في زمن يكثر فيه القتل عمداً وعن سابق قصد وتصميم! وفي أحيان أخرى، تغري الكاتب وفرة المآسي التي يتعرض لها الفلسطينيون، فيعمد إلى مراكمة عدد منها في قصة واحدة، في حين تصلح كل واحدة لكتابة قصة أو أكثر عنها. ففي قصة"عريس آخر النهار"ثمة طفل يقتل ويدفن بجوار أبيه، والبيت يهدم والأسرة تعيش في خيمة، وثمة صراع مع المستوطنين، والمستوطنون راغبون في تدمير كل ما جاورهم من ثكنات سكنية للفلسطينيين! هذه كثرة غير مبررة فنياً، وهي علاوة على ذلك وقائع معروفة للقارئ، إنما يقدمها الكاتب للمتلقي في حلة من الكتابة النصية ذات اللغة الشعرية، التي لا تخلو من جمال حيناً ومن مبالغة حيناً آخر. يمكن العثور في هذه المجموعة على تجليات للبلاغة الزائدة وللإيغال في اللغة الشعرية، التي قد لا تحتملها القصة القصيرة. مثلاً:"نشوة من الغريزة تتعثر في الأجساد المتخمة بألم شريد"، ومثلاً:"الليل سيمفونية تعزف ألحان الخوف لرهبان النهار"، ومثلاً:"خطوات تنبعث كإيقاع مع ريح هوجاء كللت سكون المكان بالأرق". ولعل قصة"رسائل باهتة"أن تكون خروجاً بيناً على النمط الكتابي الذي وسم هذه المجموعة القصصية. حيث لا نجد هنا لغة شعرية طافحة ولا بلاغة زائدة. نحن هنا أمام قصة تتخذ من الرسائل أسلوباً لها، وهذا نمط شائع ومعروف. السرد هنا واقعي متخفف من اللغة الشعرية. ثمة عرض سلس لقضايا معروفة: مصادرة الأرض، الاجتياحات وحظر التجوال المرافق للانتفاضة الثانية، مجابهة العدو من دون خوف أو وجل، تشتت الأسرة الفلسطينية بين الداخل والخارج جراء الإجراءات الإسرائيلية الجائرة، العودة إلى الوطن وتحمل العسف في سبيله. ربما كان الجديد في هذه القصة، إظهار ساعي بريد يحمل الرسائل الثلاث التي تتكون منها القصة، باعتبارها رسائل وصلت إليه بحكم وظيفته، وهو يسعى من أجل تسليمها إلى أصحابها. وتندرج في الإطار نفسه قصة"لبنان الجرح"، فهي قصة نبيلة المقاصد، غير أنها أقل قصص المجموعة حظاً من التميز الفني. قصة مباشرة ولغتها إخبارية تسعى إلى حشد أكبر قدر ممكن من وصف العدوان الإسرائيلي على لبنان، والتحريض ضده واستعداء الناس عليه. *"على موتها أغني"منشورات مركز أوغاريت للنشر والترجمة، رام الله، 2007