على مدار تجربته القصصية استطاع الكاتب الفلسطيني أكرم هنية أن ينقل الكتابة القصصية في الأرض المحتلة من المباشرة والتعبير الصارخ عن الاحتلال والمقاومة إلى شكل آخر من السرد الذي يستظل بالشعر أو الحكاية الشعبية أو المادة الأسطورية التي تلتحم بالمعيش والراهن لتحكي عن الألم والعذاب والصمود في زمان الاحتلال. وقد لفتت كتابة هنية منذ أصدر مجموعته الأولى "السفينة الأخيرة... الميناء الأخير" 1979 الأنظار إليه بسبب اقتراب لغته القصصية من الشعر وتطعيمه هذه اللغة بمادة الحياة اليومية التي يقوم الكاتب بتصعيدها إلى صيغة من صيغ التعبير الشعري. وانتقل هنية في مجموعتيه التاليتين، "هزيمة الشاطر حسن" 1980 و"التغريبة الثانية للهلالي" 1981، إلى استخدام الحكايات والأمثولات الشعبية مطوراً تجربته القصصية بالاقتراب من مفهوم للكتابة يتخلص شيئاً فشيئاً من الشحنة الشعرية الفائضة في عمله القصصي. في مجموعته الأولى "السفينة الأخيرة... الميناء الأخير"، والتي كرسته واحداً من أفضل كتاب القصة في الأرض المحتلة في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي، تقترب القصة من الأمثولة التي تكتسب طاقة ألليجورية عالية تمكنها من الكشف عن الخيوط الأساسية التي تنتظم الحاضر من دون أن تقع هذه القصة في فخ المباشرة والشعارية اللتين كانتا، وما زالتا، السمتين الملازمتين للكتابة القصصية الفلسطينية عموماً. وقد آثر هنية الهروب من التعبير المباشر، والكتابة الواقعية التي تمزج الوصف المباشر بالشعار الجاهز، إلى كتابة قصصية تعيد وضع الأمثولات والحكايات الشعبية والبنى الأسطورية في ضوء آخر، لتكون هذه الحكايات والأمثولات قادرة على تأويل الواقع الراهن للعرب والفلسطينيين. وبهذا المعنى فإن مجموعة "السفينة الأخيرة... الميناء الأخير" تنتزع تلك الأمثولات والحكايات من سياقاتها العامة لتدخلها في نسيج الحال الفلسطينية الخاصة. إن حكاية الحاكم الراغب في وضع معجم لغوي جديد يخلو من كلمات الحب والحرية والإخلاص والتضحية والكفاح والتحرر، ليتمكن من الهيمنة على شعب بلا ذاكرة تاريخية، تصطف إلى جوار حكاية محمد العربي الذي يعجز المارد الذي يصطاده عن مقاومة رجال الاستخبارات، وحكاية أبو محمود القاسمي الذي ينهض من موته على صوت الجرافات الإسرائيلية وهي تزيل من الوجود المقبرة التي تواري عظامه، وحكاية النابغة الذبياني الذي ما عاد شعره يرضي النعمان بن المنذر لأن الشعر نفسه أصبح بلا قيمة في هذا الزمان. وفي سياق مواز يكتب هنية قصصاً عن مدينة محترقة وسفينة أخيرة تقلع من ميناء أخير وشاعر يتنبأ بالخراب العظيم، وعن موت الحب بتأثير هزيمة الفرد الداخلية، وعن اختفاء قبة الصخرة. الحكاية الشعبية والفانتازيا في المجموعة الثانية "هزيمة الشاطر حسن" ثمة تحول طفيف في أسلوب الكتابة القصصية. ففيما يواصل هنية كتابة تستند إلى الحكايات الشعبية والبنى الأسطورية، من خلال إعادة كتابة حكاية "الشاطر حسن" وحقنها برؤية شعبية نضالية جماهيرية، تحتفظ للبطل الشعبي الفرد بطاقته الملهمة" فإنه يعمل في الوقت نفسه على كتابة قصص أخرى تعتمد الفانتازيا أو تتخذ من أسلوب محاكاة الوثيقة والريبورتاج الصحافي مادة للكشف عن طبيعة مرحلة سياسية واجتماعية مجرحة بالهزيمة والتشظي. وفي هذين الخطين من خطوط الكتابة القصصية يزاوج هنية بين أسلوب التقرير الصحافي، الذي يتحدر إليه من عمله في الصحافة، والوصف الشعري لأحلام الشخصيات وحواراتها الداخلية، وأسلوب تيار الوعي. في الخط الأول، الذي يعتمد الفانتازيا، يجدل القاص الحكايات الفانتازية بغايات راهنة وضرورات سياسية. وفي الخط الثاني، الذي يستفيد من أسلوب الريبورتاج، يعتمد المزج بين الوصف الموضوعي والشهادة المختزلة ولغة التقرير والحوارات الداخلية للشخصية القصصية والحوارات المختزلة القصيرة، التي تؤدي غرضها في الكشف عن تطور علاقات الشخصيات الثانوية في القصة، إضافة إلى الاقتباسات الشعرية. في مجموعته القصصية الثالثة "التغريبة الثانية للهلالي" سنعثر على تحول جديد في كتابة أكرم هنية القصصية. ففي القسم الأول من المجموعة ثمة عدد قليل من القصص يركز على معاناة الناس في زمن الاحتلال الإسرائيلي الذي ينتزع الأرض من تحت أقدام الفلسطينيين ويزيد من عسفه بسجنهم وإطلاق الرصاص عليهم إن حاولوا الدفاع عن أرضهم. يضاف إلى هذه القصص، التي تحكي عن زمن الاحتلال، قصة واحدة عن موت بائع صحف يحلم بتحسين وضعه المعيشي وتعويض ابنه الذي حرم من التعليم ليشارك الأب في إعالة العائلة الكثيرة العدد. لكن القصة، على رغم كونها مكتوبة بلغة شاعرية مؤثرة، تبدو نابية في سياق هذه المجموعة المكرسة للتعبير عن حال الفلسطيني في الزمان الراهن، خصوصاً أنها تنتهي بقصة "التغريبة الثانية للهلالي" التي تعيد كتابة سيرة أبي زيد الهلالي في ضوء الحكاية الفلسطينية المعاصرة. يمكن النظر إلى "التغريبة الثانية للهلالي" بصفتها أفضل ما كتب أكرم هنية من قصص، فهي إضافة إلى كونها تعتصر الحكاية التراثية للهلالي، الهارب من أرض إلى أرض، فإنها تغرس هذه الشخصية التراثية - الأسطورية، ذات الامتداد العميق في المخيلة الشعبية، في تربة فلسطينية لتجعل من حياة هذه الشخصية تعبيراً رمزياً عن رحلة الفلسطيني الطائر، من أرض إلى أرض، ونمو حركة نضاله من عام 1948 وحتى بداية ثمانينات القرن الماضي. إذا انتقلنا إلى المجموعة القصصية الرابعة "عندما أضيء ليل القدس" 1986 فسنجد أن قصصها جميعها مسكونة بزمن الاحتلال الإسرائيلي والنضال ضده. ثمة تنويع على حكايات الاحتلال وزمانه الحزين، وانشغال بالتعرف على آليات المقاومة من خلال الأخبار والوقائع والحكايات الصغيرة وأشكال العيش اليومي. ويستخدم هنية أسلوباً سردياً تقريرياً للتعبير عن الواقع اليومي الخشن تحت الاحتلال. هناك القليل جداً من الشاعرية، وإن لم تخل بعض القصص من الأبعاد الرمزية الغائرة. لا يشذ عن توجه مجمل القصص في مجموعة "عندما أضيء ليل القدس" سوى القصة الأخيرة التي تتخذها المجموعة عنواناً لها. في "عندما أضيء ليل القدس" ثمة حكاية تعيد توليف قصة المسيح، وظهوراته، وتحولاته، وقدرته على الحلول في جسد الرجل المقاوم، واستعصائه على الموت برصاص الإسرائيليين لكونه رمزاً، ونوراً يملأ الأرض من حوله. كل من يراه يظن أنه ذو صلة به: أباً راحلاً، أو حبيباً غائباً، أو صديقاً عزيزاً، أو ملهماً. في هذه القصة، دون غيرها من قصص المجموعة، ثمة بعض الشاعرية والانتماء إلى عالم هنية القصصي الأول، وامتزاج البعد الرمزي الوطني بحكاية المسيح المخلص. تقوم قصص المجموعة الأخيرة، عدا قصة "أربع شرفات وأحلام زائدة"، على حكاية الفلسطيني وقدره اليومي ونفيه الأبدي حتى في نطاق أرضه. وينسج هنية مادة قصصه من لحم الحكايات الواقعية ودلالاتها الرمزية، أو أنه يحيل المادة اليومية في سرده إلى سياقات رمزية وتعبير نموذجي عن الحالة الفلسطينية في كل زمان ومكان. ومن بين قصص المجموعة التي تبرز الشوط الكبير الذي قطعته تجربة أكرم هنية قصة "أربع شرفات وأحلام زائدة"، التي لا تستوحي الشرط الوجودي الفلسطيني ولا تحكي حكاياته ولا تعيد رسم مساراته، بل تحكي عن الشرط الإنساني المعقد. إنها تنويع على ثيمة الانتظار الطويل غير المجدي، على حكاية بنيلوب في وجه من وجوهها، وعلى انتظار ما يأتي ولا يأتي في مسرحية صمويل بيكيت "في انتظار غودو". لكن هذا التنويع سيتحول في نهاية القصة إلى شكل من أشكال العزلة الأبدية والانقطاع عن العالم. ستقفل البيوت الأربعة شرفاتها المفتوحة على الانتظار، وتقفل محطة القطار الواقعة بالقرب من تلك البيوت، وتفوح من البيوت رائحة الصمت وتشقق الجدران والموت. فهل يمكن رد هذه الحكاية الألليجورية على الشرط الفلسطيني؟ وهل يجوز لنا حصر إبداع الكاتب في خانة شرطه التاريخي الوجودي؟ يمكن لنا أن نقرأ القصة السابقة في سياق الشرط الإنساني حيث تدور حكاية سكان العمارة، ذات الشرفات المفتوحة على الانتظار، في إطار أدب العبث بأمثلته التي تستلهم مسرحيات صمويل بيكيت ويوجين يونسكو، بسبب القرابة الأسلوبية وتماثل حكايات الشخصيات وثيمة الانتظار ومفردات المكان الذي يتمثل في محطة قطار وبناية ينتظر فيها المنتظرون. لكن حكاية الانتظار تتقاطع في مستوى من مستوياتها مع الوضع الفلسطيني وتراجيديا الانتظار الفلسطيني الطويل على بوابة الأمل. وإذا كانت قصة "أربع شرفات وأحلام زائدة" تبني مادتها من شرط وجودي يقيم في حياة البشر الذين يختم الموت والانهيار مسيرتهم على الأرض، فإن عنوان القصة الذي يقرن الشرفات الأربع المنتظرة ب"الأحلام الزائدة" يعيد القصة، من وجهة نظري، إلى محورها الفلسطيني، إلى يأس الكاتب من إمكان الوصول إلى حل لهذا الاشتباك المصيري المعقد بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لقد طال الانتظار حتى داهم الانهيار والموت والتفسخ ورائحة التحلل العضوي الانتظار والمنتظرين. * صدرت المجموعة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت - عمان، 2003.