في مجموعاته القصصية السابقة استطاع الكاتب الفلسطيني أكرم هنية أن ينقل الكتابة القصصية في الأرض المحتلة من المباشرة والتعبير الصارخ عن الاحتلال والمقاومة الى شكل آخر من السرد الذي يستظل بالشعر أو الحكاية الشعبية أو المادة الاسطورية التي تلتحم بالمعيش والراهن لتحكي عن الألم والعذاب والصمود في زمان الاحتلال الأول. وقد لفتت كتابة هنية منذ أصدر مجموعته الأولى "السفينة الأخيرة... الميناء الأخير" 1979 الأنظار اليه بسبب اقتراب لغته القصصية من الشعر وتعليمه هذه اللغة بمادة الحياة اليومية التي يقوم الكاتب بتصعيدها الى صيغة من صيغ التعبير الشعري. وقد انتقل هنية في مجموعتيه التاليتين، "هزيمة الشاطر حسن" 1980 و"التغريبة الثانية للهلالي" 1981، الى استخدام الحكايات والأمثولات الشعبية مطوراً تجربته القصصية بالاقتراب من مفهوم الكتابة التي تتخلص شيئاً فشيئاً من الشحنة الشعرية الفائضة في عمله القصصي. لكن أكرم هنية لم يواصل حفره في عالم السرد، على رغم موهبته الواضحة وطاقاته البارزة في الكتابة القصصية. ومع أنه أصدر مجموعة رابعة ضمن كتاب "طقوس ليوم آخر"، الذي ضم مجموعاته الأربع ونشرته مجلة الكرمل في سلسلة "كتاب الكرمل" 1986، إلا أنه لم يعاود النشر منذ ذلك الحين. لقد شغلته الصحافة والسياسة وأبعدته اسرائيل من الضفة الغربية فانتقل للعمل السياسي مع منظمة التحرير الفلسطينية، وعاد مع العائدين بعد اتفاق أوسلو، وهو يرأس الآن تحرير صحيفة "الأيام" التي تصدر في رام الله. أكرم هنية يطل علينا في مجموعته القصصية الأخيرة المفاجئة "أسرار الدوري" دار الشروق، رام الله، أيلول سبتمبر 2001 معيداً ذلك الوهج الى تجربته التي عرفناها في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات. انه يحشد في عدد من القصص، التي كتب معظمها هذا العام، كل طاقته السردية وامكاناته التخييلية ويحول ذلك كله الى مرآة للتعبير عن قدر الفلسطيني المعذب على أرضه. تقوم القصص جميعها، عدا قصة "أربع شرفات وأحلام زائدة"، على حكاية الفلسطيني وقدره اليومي ونفيه الأبدي حتى في نطاق أرضه. وينسج هنية مادة قصصه من لحم الحكايات الواقعية ودلالاتها الرمزية، أو أنه يحيل المادة اليومية في سرده الى سياقات رمزية وتعبير نموذجي عن الحالة الفلسطينية في كل زمان ومكان. في هذا السياق تندرج قصة "قصة سحر الحب"، التي أظن انها من أفضل قصص المجموعة بسبب عمقها الإنساني وطاقتها السردية العالية وقدرة القاص على تحويل المادة اليومية فيها الى بعدها الرمزي الذي يجعل الكاتب جزءاً من كتابته، ويظهر من دون مباشرة ان الفلسطيني محكوم بقدر العذاب والمقاومة، وأن الشروط السياسية والتاريخية الجديدة، بعد أوسلو،. لم تتغير من مفردات هذا القدر اليومي. ان مادة القصة تتمثل في مونولوج يلوب في رأس الكاتب، والأستاذ الجامعي، الذي يرغب في كتابة قصة عن شابين يتحابان ضمن الشروط الحياتية الجديدة التي ولدتها الاتفاقات السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين بحيث بدا وكأن الحياة قد أصبحت طبيعية يمكن ان تقوم فيها قصص الحب من دون أن يقاطعها الاحتلال ويعيد صياغتها ضمن شروطه القاهرة، ويجعلها جزءاً من سرده اليومي. لعل ما هو لافت في القصة السابقة، التي يفتتح بها أكرم هنية مجموعته، هو قدرة القاص على التجول بقارئه في أرجاء حكاية الراوي الداخلية مخططاً لكتابة قصة عن "سحر الحب"، دارساً الشروط السياسية والاجتماعية التي تشكل الأرضية التي تنشأ ضمنها الحكاية بحيث نصل في النهاية الى اليقين نفسه الذي وصل اليه الراوي: بأن الحياة الطبيعية التي يمكن أن ينشئ فيها الكاتب قصة حب آسرة غير ممكنة ضمن شروط احتلال معقدة وصعبة يقاطع فيها المحتل الاسرائيلي كل شيء حتى ولو تمثل ذلك الشيء في حكاية كتابة قصة عن "سحر الحب". تبدأ القصة بالراوي وهو يقود سيارته متجهاً الى جامعة بيرزيت وتنتهي بوقوفه عاجزاً عن الحركة أمام تظاهرة حاشدة في مواجهة قوات الاحتلال حيث يرى وجهي الشاب والفتاة اللذين كان يفترض أن يكونا بطلي القصة بين الجموع الحاشدة. وفي هذه النقطة من مسار السرد يلتحم البعد الوجودي لحياة الفلسطيني بالبعد الرمزي الذي يصعد هذه الحكاية الى ما يتجاوز اليومي الى أسطرة حكايات الفلسطينيين وجعلها تتجمع في بؤرة واحدة هي العذاب والمقاومة. من بين قصص المجموعة التي تبرز الشوط الكبير الذي قطعته تجربة أكرم هنية قصة "أربع شرفات وأحلام زائدة"، التي لا تستوحي الشرط الوجودي الفلسطيني ولا تحكي حكاياته ولا تعيد رسم مساراته، بل تحكي عن الشرط الإنساني المعقد. انها تنويع على ثيمة الانتظار الطويل غير المجدي. على حكاية بنيلوب في وجه من وجوهها، وعلى انتظار ما يأتي في مسرحية صمويل بيكيت "في انتظار غودو". لكن هذا التنويع سيتحول في نهاية القصة الى شكل من أشكال العزلة الأبدية والانقطاع عن العالم، ستقفل البيوت الأربعة شرفاتها المفتوحة على الانتظار، وتقفل محطة القطار الواقعة بالقرب من تلك البيوت وتفوح من البيوت رائحة الصمت وتشقق الجدران والموت. فهل يمكن رد هذه الحكاية الألليجورية على الشرط الفلسطيني؟ وهل يجوز لنا حصر إبداع الكاتب في خانة شرطه التاريخي الوجودي؟ يمكن لنا ان نقرأ القصة السابقة في سياق الشرط الإنساني حيث تدور حكاية سكان العمارة، ذات الشرفات المفتوحة على الانتظار، في اطار أدب العبث بأمثلته التي تستلهم مسرحيات صمويل بيكيت ويوجين يونسكو، بسبب القرابة الأسلوبية وتماثل حكايات الشخصيات وثيمة الانتظار ومفردات المكان الذي يتمثل في محطة قطار وبناية ينتظر فيها المنتظرون. لكن حكاية الانتظار تتقاطع في مستوى من مستوياتها مع الوضع الفلسطيني وتراجيديا الانتظار الفلسطيني الطويل على بوابة الأمل. وإذا كانت قصة "أربع شرفات وأحلام زائدة" تبني مادتها من شرط وجودي يقيم في حياة البشر الذين يختم الموت والانهيار مسيرتهم على الأرض فإن عنوان القصة الذي يقرن الشرفات الأربع المنتظرة ب"الأحلام الزائدة" يعيد القصة، من وجهة نظري، الى محورها الفلسطيني، الى يأس الكاتب من امكانية الوصول الى حل لهذا الاشتباك المصيري المعقد بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لقد طال الانتظار حتى داهم الانهيار والموت والتفسخ ورائحة التحلل العضوي الانتظار والمنتظرين. ثمة قصص أخرى تدور في اطار الكتابة القصصية الفلسطينية، بنماذجها النمطية، وتعيد كتابة حكايات الفلسطينيين الذين يواجهون مصيرهم المرسوم سلفاً بشروطه السياسية واليومية المعلنة. ضمن هذه الشروط تقرأ قصة "يوم عادي" التي تسرد أحداث يوم عادي من أيام الانتفاضة الثانية وطائرات الأباتشي تقصف الأماكن والبشر فيما يمارس هؤلاء البشر حياتهم اليومية، يذهبون الى مدارسهم وعملهم ويخططون للزواج والاحتفال. وتقرأ في السياق نفسه قصة "بوح سريري" التي يجري سردها على لسان شهيد مات موتاً سريرياً برصاصة قناص اسرائيلي أثناء مواجهة مع قوات الاحتلال في أيام الانتفاضة الثانية، وكذلك قصة "فلاش باك" التي تلخص الحكايات الفلسطينية في حكاية الراوي وتستعيد في صفحاتها كيف آل وضع الفلسطينيين الى ما آل اليه. لكن البارز في هذه القصة هو الفقرات الأولى منها التي تلحمها مع قصة "أربع شرفات وأحلام زائدة" حيث سيرة الانتظار والانهيار والتعفن: "هذا ليس زماني. سأحمل جسدي عضواً عضواً. سنة سنة، خيبة خيبة، حزناً حزناً، وسأضعني في زاوية ساحة ذات اضاءة خافتة جداً، سأحدق في اللاشيء الماثل أمامي، ورائحة تعفن أعضائي تعبق الجو، وانتظر حزني القادم. ثمة أسوار عالية تحيط بمشهدي الخاص، ثمة أسلاك شائكة وحواجز محصنة، ثمة طيور معدنية مخيفة تنقض علي، هناك وجع في قلب كهل متعب، ومرارة في الحلق، هناك دخان أسود، شديد السواد، يتسيد السماء. انه الاختناق... انه الموت البطيء". ص:57. في القصة السابقة يقيم أكرم هنية سياقاً متصلاً لهذه المجموعة التي تبدو في وجه من وجوهها مواصلة لتجربته القصصية السابقة وانقطاعاً عنها في الآن نفسه، فهي تستعيد الثيمة المركزية في عمله القصصي، أي ثيمة الانتظار ولنتذكر عنوان مجموعته الأولى "السفينة الأخيرة... الميناء الأخير"، كما انها تقوم بتصعيد هذه الثيمة والاقتراب من الشرط الوجودي للبشر جميعاً. لكنها لا تستطيع، بسبب طبيعة السياق السياسي الذي يكتب القاص ضمنه، ان تنفلت من انعكاسات التجربة الفلسطينية وموتيفاتها المتكررة، حتى في قصصه التي تتخلص من القاموس الفلسطيني للكتابة وتبدو في التأويل الأخير محمولة على اليأس لا الأمل، فإن كلمة صغيرة تفضح انغماسها في شرط الفلسطيني المعقد، في دورانه الدائم حول فلسطينه التي تغور عميقاً في داخله لتظهر في سياق كتابة مغايرة تلتمس في الفلسطيني رغبته في التحرر من التعبير المباشر عن حكاية عذابه التي طالت حتى تحولت الى حكاية انتظار الإنسان، مطلق إنسان، لقادم يأتي ولا يأتي.