زار البابا بنديكتوس السادس عشر الولاياتالمتحدة لستة أيام. وقد حفلت زيارته بالرمزيات، مثل زيارة الكنيس اليهودي بنيويورك، ومثل الخطاب والصلاة باستاد اليانكي، ومثل زيارة موقع أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر. وهذه الرمزيات والطقسيات مهمة، لأنها لفتت الجمهور الأميركي إليه، وأخرجته من ظل البابا السابق العملاق يوحنا بولس الثاني. بيد أن البابا ركّز في زيارته على أربعة موضوعات هي في الحقيقة الأمور التي قادته أو دفعته لزيارة أميركا: إظهار إرادته إصلاح الكنيسة وتطهيرها وفي الولاياتالمتحدة بالذات، بعدما شاع واشتهر منذ العام 2002 من إساءات جنسية من جانب كهنة كاثوليك ضد الأطفال - والاهتمام بمشكلات المهاجرين من أميركا اللاتينية وكلهم من الكاثوليك الى الولاياتالمتحدة - وتجديد الحديث مع البروتستانت عن الوحدة والتضامن - ودعم مؤسسات الأممالمتحدة، باعتبارها العامل الرئيس في الاستقرار والأمن العالمي. في الولاياتالمتحدة اليوم 23 مليون كاثوليكي، أكثر من نصفهم جاؤوا من أميركا اللاتينية. وهم لا يعانون فقط من مشكلات الهجرة والفقر، بل يشعرون أيضاً بأن كنيستهم لا تهتم لآرائهم وطموحاتهم كما يجب. فالبابا يستطيع مطالبة الرئيس بوش والكونغرس بتغيير قوانين وآليات التعامل مع هؤلاء، لكن رعاياه أنفسهم يشكون من جمود الكنيسة أمام المشكلات والتطورات، والتي تظل مواقف الكنيسة محافظة فيهم، بحيث يضطر كثيرون الى الخروج على تلك التعليمات، مثل منع الإجهاض، ومنع وسائل التخصيب، والإعراض عن حقوق النساء وقضاياهنّ ومن ضمنها المطالبة بإشراك المرأة في مراتب الكهنوت، وعدم دعم التواصل مع المسيحيين الآخرين من الناحية الدينية. وهم يشكون أيضاً من أن عشرات، وربما مئات من الكهنة، والذين يأتمنهم الأهل على أطفالهم، أساؤوا كثيراً خلال العقدين الماضيين، وهناك انطباع أن التغطية حصلت، وما عولجت القضايا بصراحة وإخلاص. فالكنيسة المتظاهرة بالمحافظة والتقليدية، والمعارضة بشدة للشذوذ الجنسي، وللعلاقات خارج الزواج، وفي العهد الطويل لولاية البابا الحالي رئاسة مجمع الإيمان أو العقيدة الصحيحة، لا تُظهر صرامة كافية في اتباع الأخلاقيات التي تقوم عليها، وتدعو إليها. وقد اضطر ذلك أهل أكثر الأطفال لإقامة دعاوى أمام المحاكم، والدخول في تسويات وتعويضات، أشرفت معها الكنيسة بالولاياتالمتحدة على الإفلاس. ولذا فقد كان أمراً مؤثراً من جانب البابا حرصه على الكلام علناً عن ذلك الأمر مراراً، وحرصه على استقبال بعض أهالي الضحايا. لكنه ما قال شيئاً عن القضايا"العقائدية"الأخرى، والتي حرمت الكنيسة من اندفاع الشبان باتجاهها، كما يفعلون مع ديانات أخرى مثل البروتستانتية والبوذية والإسلام. ولا تنحصر مشكلة أكبر دين بالعالم بعد الإسلام بليون ومئة مليون مسيحي، في مقابل بليون وثلاثمئة مليون مسلم في الجمود وحسب، بل تبدو أيضاً في ضآلة الإقبال من جانب القيادة على التجديد، في وقت تسود الأديان الأخرى التوحيدية وغيرها إحيائيات قوية وهائجة، وفي البروتستانتية والبوذية والإسلام والهندوسية. ولذلك، ووسط الجمود لدى الكاثوليك، تتمدد الديانات الأخرى على حساب الكثلكة، ويضطر ذلك البابا للقيام بتصرفات عصبية تجاه الديانات الأخرى، وتجاه الكاثوليك المعارضين. فالموضوعات التي ذكرناها سابقاً، والتي جعلت حوالى ال40 في المئة من الشبان والكهول الذين نشأوا في أسر كاثوليكية يُعرضون عن الدخول في سلطان الكنيسة، سبق أن نبَّه إليها أساتذةٌ كاثوليك كبار أبرزهم هانس كينغ، زميل البابا الحالي وخصمه منذ درَّسا معا بجامعة توبنغن مطلع السبعينات من القرن الماضي. فقد دعا كينغ لفتح الكنيسة على التغيير لتظل قادرة على البقاء والتحدي في عالم اليوم وفي المستقبل. وقد كتب كينغ بياناً عقدياً جديداً ما جاء كله من"قانون الأيمان"الذي أقرّته المجامع الكنسية في العصور الوسطى. ثم إنه قاد حركة من داخل الكنيسة، ثم من خارجها بعد أن أخرجه راتسينغر من حق تربية الكهنة. وفي الثمانينات من القرن الماضي، وعندما كان البابا يوحنا بولس الثاني مهتماً بإسقاط الشيوعية والإلحاد، وراتسينغر، البابا الحالي، مشغولاً بتثبيت"العقيدة الصحيحة"، كان كينغ ينطلق الى حوارات معمقة مع أهل ديانات التوحيد، والديانات الأخرى. وفي آخر الثمانينات توصل الى أطروحته أو مقولته الشهيرة: لا استمرار من دون أخلاق عالمية، ولا سلام عالمياً من دون سلام ديني، ولا سلام دينياً من دون الحوار بين الديانات. ومع أن البابا بنيديكتوس ما تعرض في رحلته الأميركية للإسلام في شكل مباشر، فإن الطريف أن مجلة"نيوزويك"الأميركية، اعتبرت أن من ميزات البابا الحالي إقامة حوار مع الإسلام! فأمام المحتشدين في مكان برج التجارة العالمي دعا البابا الى إنهاء عهود الكراهية والخصومة، والمصير الى السلام والتضامن والمحبة. وقد اصطدم بالمسلمين مراراً، ولا يزال، لكنه استطاع فهم رغبتهم في الحوار، ودخل معهم في أحاديث جدية لا تزال في بداياتها لكنها واعدة ودائماً كما تقول"نيوزويك". وإذا كانت الكنيسة الكاثوليكية تعاني من بعض الجمود والتخثُّر، فإن الإسلام المعاصر يُعاني من ثوران كبير، أدى الى إضعاف مؤسساته الدينية، وإلى ما يُشبه الانشقاق وهذا أمر لا يمكن تصوره داخل الكنيسة الكاثوليكية!. ولأن الإسلام أكبر الأديان في العالم دعوة وانتشاراً وحجماً، فإن البابا أحسن في نظر مؤيديه، لأنه يتعامل مع الإسلام من دون مجاملة، بل بنقدية بارزة، بدلاً من التأدب المصطنع، أو الإعراض الجاف، كما حدث خلال عقود عمله الماضية. وقد وجهت إليه دعوتان للحوار من جانب المسلمين، دعوة مؤتمر عمّان من 135 عالماً مسلماً، ودعوة الملك عبدالله بن عبدالعزيز. أما الدعوة الأولى فقد ردّ عليها الكاردينال توران رداً فظاً، وأما الدعوة الثانية فإن متابعتها جارية على قدم وساق. والواقع أن البابا وبعد أن اصطدم بجهات عدة في سنتيه الأوليين، ركّز جهده على التحاور مع المسلمين والعلمانيين والبروتستانت. ومشكلته مع الفئتين المذكورتين مختلفة كلياً عن قضيته مع الإسلام. ومرة أخرى، وعلى رغم الجمود الكاثوليكي النسبي، فإن الثقل الكاثوليكي في العالم لا ينبغي الاستخفاف به بحجة تراجع دور الدين بأوروبا. فالحق أن توجهات البابا الحوارية معلَّق نجاحها على أوروبا، وعلى قدرة البابا في استعادة"الشراكة"مع الإنجيليين ومع العلمانيين بالقارة القديمة. وتقول أوساط الفاتيكان إن البابا يريد الحديث مع المسلمين في موضوعات كثيرة من بينها: التكافؤ في التعامل تبنون جوامع لدينا، فنبني كنائس عندكم، والحريات الدينية، وعلاقة الدين بالدولة. والموضوعان الأخيران هما لبُّ القصة، لكن لا البابا ولا المسلمين يستطيعون الانفراد بأمور كهذه، ولا بد من تنظيم مؤتمر بفِرق عمل متخصصة. ذلك أن تينك المسألتين بالذات ما كانت للكاثوليك ولا للمسلمين نجاحات كبرى فيهما. فقد تقاتلت الكنيسة لثلاثمئة سنة مع الدولة، وها هي الأصولية الإسلامية تتقاتل اليوم مع كل أحد داخل الحزبيات أو خارجها. ثم ان الكنيسة الكاثوليكية لا تشكّل نموذجاً صالحاً للحرية الدينية، فقد اضطهدت المسيحيين الآخرين، فضلاً عن غير المسيحيين، قروناً وقروناً. ويعاني المسلمون اليوم من ظواهر التكفير والخوف من الارتداد، والطريف أو غير الطريف؟ أن البابا، وقبل شهرين، عمّد بنفسه شاباً مصرياً اسمه مجدي علاّم، وكان من الممكن أن نقول: ما زاد طنوس... الخ. فالدينان تبشيريان، ويتنافسان، ويمكن لنا نحن المسلمين أن نستفيد أكثر من الكاثوليك ومن الحوار معهم في أي موضوع. إذ أن عندهم مؤسسات عريقة للعلاقات بين الديانات، وعندهم تراكم تجربة. لكن كما سبق القول، لا بد في الحوار الأخلاقي، من شمولية تجمع ولا تفرّق، ولا بد من الاستعانة بخبرات الإنجيليين والعلمانيين، لأنهم هم الذين فصلوا الدين عن الدولة عملياً. أما الحريات الدينية، فإن الأمر يبقى عصياً على أكثر الفئات والنقاشات. بدأ الكاردينال راتسينغر عهده في البابوية منزعجاً من كل أحد، وضائقاً ذرعاً بكل أحد. وها هو الآن يستدير ويتلفّت، ويحاول استلام الكرسي الرسولي بالفعل، من خلال مشروع ملائم لم تكتمل معالمه بعد، وقد لا تكتمل إلا بالحوار مع الآخرين في عالم اليوم، وأبرزهم البروتستانت والمسلمون.