تحرر لبنان من عهد الانتداب عام 1943 فأعلن استقلاله الناجز وسيادته الكاملة على أراضيه، انطلاقاً من طموح ابنائه ونضالهم مستفيداً من الصراع الفرنسي - البريطاني لأجل النفوذ والحضور المتطور في المنطقة، وكانت فرحة اللبنانيين بمعركة الاستقلال التي مثَّلها الرئيس بشارة خليل الخوري والزعيم رياض الصلح، تجسيداً لإجماعهم وتوافقهم وانصهارهم ضمن وحدة وطنية تجعل الدولة عضواً في جامعة الدول العربية - بعد ذلك - ورمزاً للتمتع باستقلال منفتح على الأشقاء - وسورية أقرب دول الأسرة العربية إليه بما يظهر كيف التزم اللبنانيون على اختلاف طوائفهم واتجاهاتهم ومشاعرهم بالميثاق الوطني، وهي تسمية استشغل أهل الاستقلال كثيراً على تحصيلها. والمفاجأة التاريخية الأخوية كانت من دمشق عندما اقترح الرئيس السوري الاستقلالي الأول شكري القوتلي ان تكون هذه العبارة، هي القوة الجامعة لروحية الدستور اللبناني، والكفاح الذي يوحد المواطنين ويرسم أمامهم طريق المستقبل. فعبّر الرئيس القوتلي يومذاك عن الموقف الأخوي العربي السوري العميق. وعرفت العلاقات اللبنانية ? السورية، في عهده وعهد الرئيس بشارة الخوري أروع صفحات التعاون والتبادل والانسجام، في نظرة دمشقوبيروت الى المستقبل العربي الأفضل، بدعم معنوي من المملكة العربية السعودية ومصر، وقبل ان يكتمل استقلال بقية البلدان العربية، بين المغرب والمشرق، وقبل ان يصبح عدد أعضاء جامعة الدول العربية اثنين وعشرين، على التوالي. ومن مظاهر الاستقلال التام، الاستقرار الذي لم يسلم إطلاقاً من المداخلات الدولية، طوال المراحل التي أعقبت انتهاء الاستعمار أو الوصاية او الانتداب، بعد الحرب العالمية الثانية، والسعي للتأثير على الأنظمة الحاكمة أو خلعها، في ضوء ما أسفر عنه بالطبع قيام دولة إسرائيل عام 1948. ومع ان انتكاسات الوحدة الوطنية في لبنان معروفة منذ 1943 ويمكن تعدادها من الضغط على عهد بشارة الخوري، والإضرابات عام 1952 استهدافاً لمكافحة الفساد الوهمي، إذا قيس وضع الدولة بما حصل فيها بعد استقالة الرئيس الاستقلالي، وبما تبين من ان تحوّل فئة من مؤيدي العهد للمعارضة، كان بدافع من سياسة حلف بغداد الرامية لإدخال لبنان في تكتلات عسكرية مع تركيا وباكستان وبريطانيا والعراق، بحجة مقاومة خطر الاتحاد السوفياتي والشيوعية الدولية. فإن الوصول بالمنطق نفسه، لعام 1958 وحوادثه العسكرية والطائفية مروراً بمؤتمر القمة العربية الذي عقد في لبنان عام 1955، وأسفر عن وجود مخطط لاصطناع خلافات عربية حول صعود الثورة الناصرية في مصر، والإصرار على محاولة ضمّ لبنان للتحالفات العسكرية الإقليمية. يظهر مرة جديدة ان تضارب المواقف بين السلطات الشرعية اللبنانية ومنطق المقاومة الفلسطينية وحلفائها، زعزع الاستقرار الوطني وأضعف هيبة الدولة التي كانت تتردد بحسم الأمور أمنياً حفاظاً على المشاعر القومية. فامتدت آثار 1968، واتفاق القاهرة بين منظمة الحرير الفلسطينية والدولة اللبنانية الى احداث 1975، واندلاع الحروب الأهلية التي ما كانت لتهدأ في هدنة ما، حتى تعود للاشتعال والتدمير وبعث الرواسب الطائفية والمذهبية في نفوس الأهالي الذين استبدت الميلشيات بحرية أفكارهم ? ولما تزل الى حد كبير ? بينما جاءت المبادرة العربية التي عرفت باتفاق الطائف، وحملت اسم"وثيقة الوفاق الوطني اللبناني"، لتحتوي الأزمة المستعصية، وهي مبادرة أقرها اللقاء النيابي في مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية بتاريخ 22 تشرين الأول اكتوبر 1989 ثم صدّقها المجلس النيابي في جلسته المنعقدة في القليعات، شمال لبنان، في 5 تشرين الثاني نوفمبر 1989. علماً ان الحال الأمنية في بيروت لم تكن تسمح يومذاك بوصول النواب الى مقر المجلس النيابي. وهي حال تشبه واقع النواب وانقساماتهم حالياً بين موالين ومعارضين غير متفقين على ما يمكن إنهاء الأزمة المصيرية المتجددة، في شأن رئيس الجمهورية وصلاحياته، أو رئيس المجلس النيابي وحقه في منع المجلس من الانعقاد دفاعاً عن الشرعية أو ضد فقدان الحكومة ? بعد انسحاب قسم من وزرائها ومقاطعتهم ? لنشاطها أو حق رئيس الحكومة في إدارة شؤون البلاد، مع شغور منصب الرئيس الأول، ومع ما يعرفه الناس جميعاً داخل لبنان وخارجه الآن عن الأزمة التي يستحيل حلها من دون توافق عربي وإقليمي ودولي. ومؤتمر الطائف، الذي عقد بدعوة من المغفور له خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز امتداداً لقرارات مؤتمر القمة العربي غير العادي في الدار البيضاء، بإشراف لجنة مكونة من الملك فهد نفسه والمغفور له الملك الحسن الثاني ملك المملكة المغربية والرئيس الشاذلي بن جديد رئيس الجمهورية الجزائرية يومذاك، أي عام 1989، ومتابعة اللجنة الوزارية المكوّنة من وزير خارجية المغرب عبداللطيف الفيلالي ووزير خارجية المملكة العربية السعودية الأمير سعود الفيصل، ووزير خارجية الجزائر سيّد أحمد الغزالي ومعهم مندوب اللجنة العربية العليا الأخضر الإبراهيمي، أدى الى وقف الحرب في لبنان، وإشاعة جو من الحياة السياسية الطبيعية التي تخللها انتخاب الرئيس رينه معوض واغتياله، ثم انتخاب الرئيس إلياس الهراوي لمدة ست سنوات، جرى تمديدها ثلاث سنوات أخرى قضاها بالاستقرار النسبي خلافاً للسنوات الثلاث الأخيرة التي مددت لولاية الرئيس إميل لحود، وما تبع ذلك ولا يزال من اضطرابات وتأزمات عقيمة تدور في الظاهر حول اسم المرشح للرئاسة الأولى ? والتوافق واضح حول اسم قائد الجيش اللبناني العماد ميشال سليمان، ولكنه غير واضح حول ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية، ولا حول تقاسم المقاعد الوزارية بين الموالين والمعارضين، خصوصاً أن الانتخابات النيابية المقبلة بعد سنة من هذا التاريخ ? هذا إذا جرت بصورة طبيعية وحرة ? قد تحدد هي تأليف الحكومة، ونوعية تقاسم الحقائب الوزارية، وعلى الأخص لا فائدة ترجى للبنان في ظل قانون الانتخاب الحالي الذي يخدم مصلحة الإقطاع والطائفية والمذهبية، والميليشيات المختلفة التي تحصل على المال والسلاح ولا يقدر الحكم حالياً عليها والحد من فسادها. وأما المبادرة العربية، التي حملها الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى وطاف بها بين بيروتودمشق وعواصم أخرى، فتبقى الحل الأفضل لمستقبل لبنان وشعبه ودولته، وينبغي انتظار الأيام والأسابيع المقبلة لمعرفة مدى تجاوب الجهات المحلية والإقليمية والدولية معها، طالما أن الساحة اللبنانية أصبحت أكثر منها في أي زمن سبق، مفتوحة أمام المداخلات والأطماع، ولا يمكن ضبطها إلا بتوافق عربي يتمثل خصوصاً بالاتفاق بين الرياضودمشقوالقاهرة، يتناغم حوله موقف بقية الدول العربية، والإسلامية، لا سيما موقف إيران وما تتمتع به من نفوذ وتأثير متزايدين في الشرق الأوسط، حيث يمكن ان يؤدي التفاهم في شأن لبنان الى تفاهم بين إيران والغرب القلق من تخصيبها النووي، سلمياً كان أو حربياً. فتقدر العواصم الغربية عندئذ على تهدئة إسرائيل ومنعها من الاستعداد لمغامرات عسكرية تهدد استقرار العالم بأسره إذا باشرتها. ولدى التطلع الى مؤتمر عربي جديد، ينقذ لبنان، ويعيد إليه وحدة أبنائه، عملاً بما سعى إليه مؤتمر الطائف ? وقد يكون المؤتمر الجديد في الطائف أيضاً ? فلا بد من الإشارة الى التقصير، المتعمد أو الإجباري، الذي أخَّر تنفيذ بنود مهمة من"وثيقة الوفاق الوطني اللبناني"كان يمكن الإقدام عليها أن يوفر على لبنان المأساة العقيمة التي يجد نفسه فيها حالياً. ومن النصوص، التي أدى عدم الأخذ بها، في شكل بديهي، ما ورد في المبادئ العامة والإصلاحات من أن النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها... فأين الفصل وأين التوازن وأين التعاون؟ ومنها في الإصلاحات السياسية أن للمجلس ولمرة واحدة بعد عامين من انتخاب رئيسه ونائب رئيسه وفي أول جلسة يعقدها أن يسحب الثقة من رئيسه أو نائبه بأكثرية الثلثين من مجموع أعضائه بناء على عريضة يوقعها عشرة نواب على الأقل... وهذا ? على رغم الأزمة القائمة بين رئاسة المجلس والغالبية الحكومية، لم يحصل ولا يمكن أن يحصل بحكم توزع القوى، بينما حصل للتطاول على الرئيس لحود من دون أي نجاح. ومنها في ما يتعلق بمنصب رئيس الجمهورية، وبأنه رئيس المجلس الأعلى للدفاع، ويكون رئيس الحكومة رئيس مجلس الوزراء حكماً نائباً لرئيس المجلس الأعلى للدفاع، وهذه صلاحية لا يقدر أي رئيس حكومة أن يمارسها ضمن الفوضى الخطيرة المهيمنة على البلاد. وهل من الضروري الإشارة الى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء؟ أو الإشارة الى واقع المجلس الدستوري الخاص بتفسير الدستور، ومراقبة دستورية القوانين؟ أو الإشارة الى وجوب إلغاء الطائفية السياسية وقاعدة التمثيل الطائفي لاعتماد الكفاية والاختصاص في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة والمصالح المستقلة؟ أو ما يرافق إلغاء ذكر الطائفة والمذهب في بطاقة الهوية. وأين المجلس الاقتصادي والاجتماعي للتنمية الذي نص عليه اتفاق الطائف؟ وأين حلّ جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم أسلحتها للدولة اللبنانية خلال ستة أشهر بعد التصديق على الاتفاق، والاتفاق دخل عامه العشرين والتسلح حالياً بلغ أعلى درجات الخطورة في مختلف المناطق اللبنانية؟ وأين ? وهذا قد يكون الأهم للحاضر والمستقبل ? إعادة النظر في المناهج التعليمية وتطويرها بما يعزز الانتماء والانصهار الوطنيين، والانفتاح الروحي والثقافي وتوحيد الكتاب المدرسي في مادتي التاريخ والتربية الوطنية؟ إن لبنان في حاجة لإجماع عربي أخوي حوله لمساعدته على تجاوز الأزمة المصيرية التي تشلّ عمل دولته، وتفسد مجتمعه، وتدفع بشبابه الى الهجرة، لأن سلامة العرب من سلامة لبنان وتقدمهم لا ينفصل عن تقدمه، ولا عن طبيعة الدور الحضاري الذي يؤديه بالاتحاد معهم. * كاتب لبناني