كثير عدد المؤرخين الذين توافقوا على نشأة المكوّن الاجتماعي الأول في جبل لبنان من الموارنة والموحدين الدروز. وفي حين توجه الموارنة نحو الغرب المسيحي الكاثوليكي، توجه الدروز نحو الشرق العربي الإسلامي، فسادت الجبل حضارة مدنية اجتماعية رعاها الأمير فخر الدين المعني الكبير في عصره على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، وأولها الدفاع عن كيان الإمارة. تلك نبذة من تاريخ تعددت مصادره وصارت سطوراً في عالم النسيان. لكن إذا كانت تلك النبذة تعود إلى أكثر من أربعمئة سنة فهناك نبذة من وثيقة حديثة يعود تاريخها الى ثماني وعشرين سنة فقط، ولا يزال كتبتها وشهودها موجودين، ويتحملون المسؤولية عن عدم تطبيقها، وهي المادة الأهم في «مؤتمر الطائف» الذي أقرّ وثيقة تاريخية أنهت حرباً لبنانية سياسية دامت نحو خمس عشرة سنة. تلك الوثيقة التي «ثبتت» رئاسة الجمهورية للموارنة، ورئاسة مجلس النواب للشيعة، ورئاسة مجلس الوزارة للسنّة، أقرّت إنشاء «مجلس شيوخ» تكون رئاسته للموحدين الدروز. ومنذ العام 1989 حتى اليوم توالى أربعة رؤساء على الجمهورية اللبنانية، وأربعة رؤساء على مجلس الوزراء، ورئيسان على مجلس النواب، ولم يمر «مجلس الشيوخ» في حساب أي عهد مضى، لا في رئاسة الجمهورية، ولا في رئاسة مجلس النواب، ولا في رئاسة الحكومة. ليس هناك نص تفصيلي لدور «مجلس الشيوخ» اللبناني ومهماته، وصلاحياته، وسلطاته التنفيذية، لكن من خلال ما ينشر عن دور «مجلس الشيوخ» في دول الغرب الديموقراطي يُفهم أنه «صمام أمان» يحمي الأنظمة والدول والشعوب من السقوط في متاهات أخطاء وأخطار تهدد سلامة المجتمع وهيبة الدولة. ويُفهم من «مجلس الشيوخ» أنه مجلس حكماء، وهذا يعني أن كل طائفة لبنانية ستتمثل بانتخاب من ترى فيهم الضمانة من عواقب أخطاء النواب وسواهم. بل إنه يحمي النواب، والوزراء، والرؤساء، من الانزلاق على المنعطفات الطائفية والمذهبية. فلو كان للبنانيين «مجلس شيوخ» هل كانت عقدة قانون الانتخاب قد تطورت وتضخمت إلى حد أنها باتت مستعصية على الحل؟ اللبنانيون حالياً في بداية عهد جديد. لكن حتى الآن ليس لهذا العهد برنامج محدد لمرحلة مدتها، على الأقل، سنتان. الرئيس الجنرال ميشال عون الذي دخل القصر الجمهوري في الأول من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2016 هو غير الجنرال عون الذي غادر هذا القصر قبل 27 سنة. ولبنان هذا الحاضر غير لبنان ذلك الزمن. ربما الشعب اللبناني باقٍ على ما كان، وعلى ما هو هذه الأيام. وكما للمعارك العسكرية إستراتيجيات، كذلك للمعارك السياسية والإصلاحية إستراتيجيات. فهل يذكر التاريخ للرئيس ميشال عون أن مجلس شيوخ لبنان نشأ في عهده؟ في ستينات القرن الماضي دُعي الصحافي اللبناني الفرنكوفوني جورج نقاش مؤسس جريدة «الأوريان» بالفرنسية والتي تصدر اليوم باسم مزدوج (الأوريان – لوجور) إلى المشاركة في حكومة كانت قيد التشكيل، فاستغرب الطلب، وسأل: لماذا وقع الاختيار عليّ وأنا لا أتعاطى مع الحكومات إلا من باب النقد والمعارضة؟ كان الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة من قراء (الأوريان) الدائمين، وبالتحديد الافتتاحية التي كان يكتبها جورج نقاش، فقال للصحافي المدعو ليكون وزيراً: «مسيو نقاش... أنا أحفظ لك جملة قديمة قلتها لصديق جاء يسألك أن تفيده بجواب عن سؤال: ما هي نصيحتك لصحافي يستعد لإطلاق صحيفة جديدة؟... فكان جوابك التالي: اسأل كابتن طائرة مجرّباً ماذا يفعل عندما يتلقّى إشارة الإقلاع؟ فتسمع منه جواباً مختصراً مفيداً هو التالي: «أعطي محركات الطائرة أعلى درجات الزخم لترتفع، ثم أتابع العطاء حتى تبلغ الطائرة حدّها الأعلى، وعندها تسري في الهواء براحة وطمأنينة». مَثَلُ الطائرة والطيار ينطبق أيضاً على العهد اللبناني الجديد، كما ينطبق على الحكومة الجديدة. واللبنانيون حالياً في مرحلة مراقبة العهد وحكومته. فما هي نسبة الاطمئنان حتى الآن؟ من عادة اللبنانيين، ومن طبائعهم في الأصل، أنهم لا يعلّقون آمالاً كبيرة على أي عهد، أو حكومة. هذا يعود إلى تجاربهم من جهة، والى اعتمادهم على أنفسهم وعلى إمكاناتهم من جهة أخرى. ومثلهم طبعاً، الموظفون، كبارهم وصغارهم. هم أيضاً على هذا النمط من العلاقة مع الدولة. وحتى اليوم لم يمضِ زمن طويل على بداية العهد العوني لبناء حكم له، أو عليه. فهو اليوم في شهره الخامس الذي لم ينتهِ بعد. لكن هناك مؤشرات وملاحظات يتداولها اللبنانيون في حياتهم اليومية، وهي على سواء، وثناء، وهناء، في جهة، وعلى نقد، واعتراض، وشكوى، من جهة أخرى. ولا عجب. فهذه طبيعة اللبنانيين في علاقتهم مع الدولة منذ تأسيس أول إدارة مدنية. وحدها الوظيفة العسكرية هي المشكورة من الجميع على السواء... والسبب يعود إلى مبدأ الثواب والعقاب. كان انتخاب الجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية مثالياً بالمبدأ، وبالأصول، وبالشفافية، كما يُقال في وصف الأحداث والمناسبات التي تدخل في إطار الدستور والقوانين، فالخطاب العوني الرئاسي حافظ على القواعد والأصول. إذ حرص على تأكيد التزامه وثيقة «الوفاق الوطني» على أنها جزء أساس في قاعدة الدستور، خصوصاً أنه شدّد حرصه على سلامة القضاء والعدالة وثلاثية «الجيش والشعب والمؤسسات». حكومة العهد أيضاً في المسؤولية والحساب، فهي جزء أساس من «حبكة» الرئاسة، وبيانها وعد بإجراء انتخابات نزيهة وشفافة. لكن، بعد خمسة أشهر، بات جائزاً البدء بالمحاسبة، في الشكليات على الأقل، بعيداً من مشاريع «بلوكات النفط» الراسية في قعر البحر. فهي أيضاً، حتى الآن، «سمك في بحر». لقد شاء العهد أن يبدأ بمشروع قانون جديد للانتخاب، وهذا معلّق منذ نحو ستين سنة. ووفق الأصول كان متوقعاً أن تقدم الحكومة مشروعها، أو مشاريعها، من خلال وزارة الداخلية ذات الاختصاص والعلاقة. لكن المبادرة جاءت من وزير الخارجية بمشروع مركّب من «خلطة» تجمع بين «النسبي» و«الأكثري» و«المختلط». ولذلك تساءل المراقبون من داخل لبنان ومن خارجه: أين وزير الداخلية، وأين مشاريعه؟ ومتى يسحب الميكروفون نحوه؟ لكن العقدة الكبرى تكمن في تفاصيل مشروع القانون الأول الذي تبدأ به عملية أي إصلاح لجعل لبنان دولة مؤهلة للإنتماء الى عالم العصر الحديث، والمطلوب قانون انتخاب من هذا العصر. في أرشيف الدولة (القصر الجمهوري، ومجلس النواب، والسرايا) عشرات الملفات التي تحتوي قوانين انتخابات الجمهورية اللبنانية، في زمن الانتداب الفرنسي، وفي زمن الاستقلال، ومعها دستور 1943 الذي لم يكن يتضمن نصّاً يحدّد طائفة رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس النواب، ورئيس الحكومة. ولأن الدساتير، كما القوانين، بتطبيقها لا بنصوصها، حفلت عقود الأربعينات، والخمسينات، حتى الستينات من القرن الماضي، بمبادرات جليلة القصد والمعنى قامت بها شخصيات لبنانية من أهل العلم، والقانون، والسياسة، والثقافة، للارتقاء بالمجتمع اللبناني الى مرتبة مجتمعات الدول المتقدمة، وقد كانت الهوية المذهبية في ذلك الزمن غائبة عن المدارس والجامعات، وعن المحاكم والدوائر الرسمية، وعن الأحزاب، حتى عن الأحزاب ذات المذهب الواحد. ففي عيد الاستقلال كان أقطاب حزب «الكتائب» المسيحي و «حزب النجادة» المسلم، وجماهير الحزبين، تحتشد معاً في ساحة الشهداء تحت أعلامها التي يتقدمها علم لبنان، وتؤدي النشيد الوطني بصوت واحد. وفي ذلك الزمن تمكنت كتلة نيابية من سبعة أعضاء باسم «الجبهة الاشتراكية الوطنية» أن تستنفر اللبنانيين من جميع المناطق والمذاهب الى إضراب وطني شامل عمّ كل أنحاء البلاد والمؤسسات والقطاعات الخاصة والعامة. كان شعار ذلك الإضراب التاريخي: أيها الرئيس: اصلح أو استقل. سبعة نواب فقط من أصل 77 نائباً قادوا ذلك الإضراب، وتجاوب معهم الشعب اللبناني، فأرغموا رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري على الاستقالة، وسجّل لبنان أول حركة شعبية سلمية في الشرق العربي نجحت بتغيير رئيس الجمهورية بطريقة ديموقراطية. ولا بدّ للبنانيين أن يذكروا ويتذكروا أن نعمة استقلال قرارهم الوطني ما كانت لتكتمل لولا أمثولات شهدائهم الذين تصدّوا لسلطة الوصاية السورية خلال 47 سنة. وقد مرّت يوم 16 آذار (مارس) الجاري الذكرى الأربعون لاستشهاد كمال جنبلاط، وقبلها ذكرى استشهاد رفيق الحريري ورفاقه في 14 آذار (مارس)، وقبلهم عشرات الشهداء من أهل الفكر والعلم والصحافة والإعلام، ويمضي لبنان في مسيرته من عهد إلى عهد، متشبثاً بغاية وجوده، مهيئاً للتطور والارتقاء إلى مصاف الدول الطامحة لحجز مكان لها في قطار الحريّة، والمدنية، والديموقراطية، عابراً الحدود الجغرافية بين الدول، والشعوب، والقوميات، متطلعاً إلى مكانة له تؤهله لمجاراة حركة العصر. لقد اكتفى لبنان حروباً، وجهاداً، وشهداء، وتضحيات، ونكبات، وخسائر، في كل القطاعات. وآن الأوان لينكفئ رؤساؤه وأقطابه وأحزابه إلى الداخل ليستعيد قسطاً من نِعم ما وهبته الطبيعة، فيتسنى للبنانيين أن يعيشوا زمناً طال انتظاره، باستقرار وأمان، في حمى جيشه وشعبه، وقراره الوطني الحر المستقل. * كاتب وصحافي لبناني