تنشغل الدوائر الفكرية والسياسية الغربية برصد التطورات الدرامية الحاصلة في العشرين سنة الأخيرة للتوصل الى نموذج تفسيري قادر على مقاربة الأحداث وفهمها للتحكم باتجاهاتها المستقبلية، بعيداً من تباطؤ أو توقف التاريخ في المجتمعات المتخلفة والمقفلة التي لم تتغير بحكم لا تاريخيتها أولاً، وبحكم التبعية والتهميش ثانياً. أما المجتمعات الانتقالية كالمجتمعات العربية فتقف في منتصف الطريق ينتابها القلق الشديد في عصر العولمة، خوفاً من الارتداد الى مواقع خلفية وما زالت تجاهد للحفاظ على ذاتها، وعلى دورها في العملية التاريخية الخارجة عن إرادتها، حتى حكم عليها بعض المفكرين بالخروج من التاريخ نظراً لاتساع الفجوة الحضارية بين الغرب والعالم العربي. وبعيداً من المعطيات الكمية والتجريبية للبرهنة على مدى الهوة الفاصلة بين العالمين، فإن الواقع الغربي الأوروبي والأميركي يعانيان من تسارع التاريخ، أي حصول أعداد متزايدة من الوقائع والحقائق الجديدة خلال فترة زمنية قصيرة جداً، كانت مثيلاتها من الأحداث الكبرى تحتاج لإضعاف الفترة الزمنية الحالية، التي دفعتها الثورة العلمية التكنولوجية، والاتصالات، والمواصلات الحديثة الى هذا الحد من التسارع والتغير. ولم يلتفت الغرب في حكمه النهائي الى تاريخ الآخر القابع خارج منظومته الفكرية والجغرافية، والمغزى من ذلك تحويل تاريخه الخاص الى تاريخ كلي ومطلق الدلالة، على اعتبار أن الغرب مركز العالم الذي يختزل الأطراف، ويمنحها ذاتاً ومعنى، مدعياً أنها عاجزة عن تمثيل ذاتها، أو تمثل العملية التاريخية بكليتها. وبغض النظر عن ممانعتها أو خضوعها أو بالأحرى إخضاعها لتجرجر أقدامها على عتبات التطور الرأسمالي واللحاق المستحيل بالعرب، فليس لها تاريخ خاص يتطلب إعادة النظر بكلية التاريخ الأوروبي ومركزيته. وعلى رغم الاستقراء الناقص في المنهج العلمي الذي لا ينقص علميته إلا أن هذا النقص يتخذ طابعاً فاضحاً في التحليل التاريخي، ولا يسمح ببناء مفهوم على هذه الدرجة من الخطورة، ويؤكد ان الانتقال من الملاحظات التجريبية للبنى الغربية الى التعميم قد تم بطريقة تعسفية تفتقر للمنهجية العلمية. وبغض النظر عن التقويم الذاتي للتغيير السريع، إلا أنه اكتسب في نظر ممارسيه الضرورة التاريخية لهدم البنى القديمة التي فقدت مشروعية استمرارها، وعجزت عن تلبية مطالب الثورة العلمية التي قرعت أبوابها بقوة، كما عجزت عن إشباع الحاجات المادية والروحية لمواطنيها، ولكن التسارع لا يمكن تصوره أو رصده إلا بتحديد محتواه وتحديد طبيعة مكوناته، التي تغيرت، ومدى تأثيرها على الناس في وحدة زمنية معينة، إلا أن هذه القاعدة التي تبدو علمية ليست مبدأ مسبقاً للتفسير المثالي للأحداث، بل هي أقرب ما تكون للحكمة الصوفية التي تكتسب أهميتها الإجرائية من التلطيف الذهني للقلق، والاضطراب المصاحب للتغيير، ففهم الظاهرة هو جزء من القدرة على التحكم فيها، وتسارع التاريخ كظاهرة يشير الى الأهمية القصوى ضرورة للتحكم فيها وزيادة فاعليتها للقضاء على البنى القديمة قبل أن تمتص هذه البنى ديناميكية الجديد وتقضي على جدواه أو مغزاه. والمفارقة الأخرى، أن تسارع التاريخ بمعناه الفلسفي لا يتم إلا بما ينتهي إليه، ونهايته لا تتم إلا بتباطؤ حركته حتى يمكن ملاحظته مما يفقده معناه، ويجعله مقولة خارجية مستمدة من الفيزياء تكمن أهميتها في الرد على مقولة أكثر رواجاً هي نهاية التاريخ، التي ارتبطت بالباحث الأميركي فوكوياما على رغم اصولها الهيغلية التي فرضت عليه العودة الى هيغل للتخلص من النزعة التجريبية والفيبرية المهيمنة في العلوم الاجتماعية، ولإعطاء سند فلسفي للمقاربات السياسية والاقتصادية التي أجراها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وجوهر الفكرة أن تاريخ البشرية انتهى من حيث المبدأ بالوصول الى الليبرالية والقضاء على المذاهب والمنظومات المنافسة لها، ولم يبق من المنافسين المرشحين للصمود قليلاً إلا القومية والدين، خصوصاً الإسلام بطابعه الشمولي والتشريعي الكلي، إلا أنه بحسب ما يراه المؤلف ستكتسحه الحداثة الليبرالية، وتصده الى مواقعه الأصلية، وسينتهي الصراع السياسي بنهاية التاريخ، وينقسم العالم الى عالم ما بعد تاريخي من الدول الليبرالية الديموقراطية، وعالم تاريخي غارق في صراعاته السياسية والدينية والحروب التي نشبت وستنشب لحاجة البشر للاعتراف والاحترام، أو تحقيق الغريزة الثيموسية عند الأفراد والجماعات والدول. والمفارقة التي لا يمكن التكهن بها أن الطموح للسيطرة وفرض الاعتراف على الآخر لم يختفيا من التاريخ، ويمكن أن نتصور عودة الصراعات في كل زمان ومكان، واستئناف التاريخ الذي أوقفه فوكوياما عند الليبرالية وفرض إرادة الأسياد على العبيد بطريقة أخرى. ولتبديد المفارقة عاد المؤلف وأدخل نيتشه لتصويب الرؤية والاعتراف باحتمالات خارج التصور، أو لتبرير استئناف الصراع والتاريخ، ولكنه في النهاية يخضع الليبرالية الأصلية كمبدأ سياسي لمقتضيات الاقتصاد الرأسمالي، ويحول العقل الموضوعي النقدي الى عقل أداتي، ويفشل في قراءة هيغل لأنه يراه بعيون كوجيف الفيلسوف شبه الصوفي والوجودي المسيحي، وأخيراً يخون هيغل ونيتشه والجدال والواقع المتغيّر، وقد انطوت مقولة نهاية التاريخ على حاجة نفسية لتبديد المخاوف والقلق من تسارع التاريخ مهما حصل، فقد وصل التاريخ الى مبتغاه، وخلق الإنسان جنته المبتذلة من المتع والملل، وتحكمت منتجات العقل التقنية والعلم بالعقل نفسه، ولم يخف فوكوياما حبوره الممزوج بالحزن العميق"ستكون نهاية التاريخ حدثاً حزيناً، فالنضال من أجل التميز والمخاطرة بحياة الفرد من أجل هدف مجرد خالص والصراع الأيديولوجي على نطاق العالم الذي يستشير الجسارة والشجاعة والمثالية والخيال ستحل محلها جميعاً الحسابات الاقتصادية والحلول التي لا تنتهي للمشاكل التقنية والاهتمامات البيئية وإشباع المطالب المتحذلقة للمستهلكين، في حقبة ما بعد التاريخ لن يكون ثمة شعر ولا فلسفة قط". أما في البلدان العربية، فالعملية معكوسة تماماً، فعمليات الإصلاح وإعادة البناء أو حركة الإصلاح التي يتطلبها الوضع العام من السياسة الى التربية بطيئة جداً، لأنها لا تمس إلا القشرة الخارجية للبنى المجتمعية المتهالكة للإبقاء على جوهرها الذي يحتاج هو نفسه الى التغيير أي أن الهدم وإعادة البناء والتثوير والنهضة والانقلاب السلمي ما زالت مفردات خارج المألوف وغريبة عن القاموس النفعي الليبرالي الذي تتحكم فيه وفي الإصلاح نفسه نخبة سياسية واجتماعية ما زالت تدور حول نفسها في أطرها الضيقة والمغلقة بعيداً من الفئات الشعبية القادرة على تمثيل نفسها بنفسها.