غداة صدور كتابه الجديد "التمزّق الكبير" اعترف فوكوياما أن نظريته الشهيرة حول "موت التاريخ" وكانت أحدثت قبل عشرة أعوام ما يشبه "البلبلة" السياسية والفكرية قامت على ذريعة خاطئة. فالتاريخ لا يمكن أن ينتهي ما دامت علوم الطبيعة المعاصرة في ذروة تجلّياتها وليست النهاية المزعومة إلا انتهاء حقبة وبداية حقبة أخرى. واعتراف فوكوياما ولو جاء متأخراً. بخطأ ذريعته بل بعجزها عن ترسيخ فكرة التاريخ "الموجّه" والمتوّج في نموذج الدولة الليبرالية الحديثة لا يعني تراجعه عن نظريته ولا استسلامه أمام الحملات النقدية التي واجهها ويواجهها منذ عشرة أعوام. فهو ما برح يحتمي ببعض المفكّرين والفلاسفة الذين لا يستطيع أن يبلغ شأوهم معتبراً مثلاً أنه استخدم مصطلح "التاريخ" في معناه الهيغلي والماركسي، ومعترفاً أيضاً أنّه استعار مفهوم "الإنسان الأخير" من الفيلسوف الألماني نيتشه. يسعى فوكوياما جاهداً للعودة الى الواجهة السياسية والفكرية حتى وان كان ثمن عودته الاعتراف بخطأه وخطأه الجسيم ربماا. لكن هذا الاعتراف لم يكن على ما بدا فضيلة أو فعلاً مجانياً إذ جعل منه فرصة ملائمة ليطرح أفكاره "الجديدة" التي حملها كتابه "التمزّق الكبير". وفيه "يكتشف" متأخراً كعادته أنّ الثورة "المعلوماتية" أحدثت على غرار الثورة الصناعية سابقاً، ما يشبه الانحلال في القيم والخلل العميق في البنية الاجتماعية. لكنه لن يتوانى في الكتاب نفسه بل في الجزء الأخير منه عن إعلان نهاية حقبة التمزّق مفاجئاً قارئه بها في طريقة اعتباطية وغير متوقعة. فإذا الكتاب الذي ينعى في البداية الحالة الاجتماعية في العالم المعاصر يمتدحها في النهاية متفائلاً بما سيؤول اليه هذا العالم. وخلاصته السريعة على طريقة الوجبات السريعة دفعت أحد النقاد الأميركيين الى وصفها ب"الخلاصة الهوليوودية" في حين شبّه ناقد آخر الكتاب المزعوم ب"الرواية الرخيصة" التي يصعب على القارىء ألا يصدّق أن غايتها هي أن تصل الى "النهاية السعيدة". أمّا أجمل ما وجّه من نقد الى فوكوياما أخيراً فهو ما وصفه به عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين إذ قال عنه: "تائهاً في كبريائه الأميركية عمّم فوكوياما للمستقبل انتصارات الولاياتالمتحدة الراهنة جاعلاً منها نموذجاً عالمياً". ولم يكتف تورين بهذا القدْر من الهجاء فتحدّث عن "انتحار" فوكوياما في "حقل المعركة المملوء بالموتى" وكذلك عن "اضمحلاله" في "فتنة ما بعد التاريخ". أعترف أنني لست من المدمنين على قراءة فوكوياما وعلى "ملاحقة" نظرياته "العجيبة" ولا من القادرين على استيعاب أفكاره الكبيرة و"المتفجرة". لكنّ مقولته عن "نهاية التاريخ" التي أطلقها قبل عشرة أعوام أثارت فيّ بعض "الحشريّة" وبعض الريبة فتابعت كتابه الشهير ولم أجد فيه إلا "صرعة" إيديولوجية جديدة ولم أكتشف فيه هو شخصياً إلا نموذجاً حديثاً "للمبشر" الأميركي ذي الدم الهجين والمتنطّح الى الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم السياسة وعلم الاقتصاد والتربية والدين وهو قد يكون براء منها جميعاً. حتى استعارته مقولة "الرجل الأخير" من كتاب نيتشه الشهير "هكذا تكلّم زارادشت" بدت مصطنعة وغير أصيلة وأشك كلّ الشك في أن يكون تعمّق في تجربة نيتشه الفريدة، المشوبة بالقلق الوجودي والميتافيزيقي العميق. أما علاقته بهيغل فقال نقاده عنها أنها سطحية وعابرة واتهمه البعض أنه سرق فكرة هيغل من خلال محاضرات كان ألقاها المفكّر الروسي كوجيف وأعاد فيها إحياء فكرة "نهاية التاريخ". وان لم تكن مهمّتتي كقارىء أن أنتقد فوكوياما بعدما كثر نقاده وباتوا لا يُحصوون في أميركا كما في أوروبا فأنني على ثقة شديدة في أنّ دعوة فوكوياما هي أقرب الى صرعات العصر السريعة العطب والسريعة التلاشي والانطفاء. فهذا "المؤرّخ" و"المفكّر" ليس إلا "موظفاً" ايديولوجياً وداعية من دعاة العولمة الجديدة والإيديولوجيا الجديدة المتّسمة الآن بالديموقراطية والليبرالية واقتصاد السوق وسواها. وان كان المجتمع الحديث وما بعد الصناعي بل "المعلوماتي" يحتاج الى الكثير من دعوات التفاؤل وحملات الإصلاح فهو لم يبق قادراً أيضاً على تحمّل المزيد من الفضائح الفكرية والسياسية. وفوكوياما قد يكون فعلاً فضيحة الأعوام الأخيرة من القرن الحالي. لعلّ أجمل مَن سخر من فوكوياما ذاك الناقد الأميركي الذي قال حرفياً: "لا ينهض فوكوياما من سريره إلا ليعالج شؤون الكون". أما التاريخ الذي انتهى بحسب فوكوياما في العالم الأول فهو ينتهِ في العالم الثالث بل هو ما برح في بدايته هنا. لكنها حتماً نهاية تاريخ فوكوياما نفسه، نهاية تاريخه الفكري ونهاية مقولته "الاعتباطية" والإيديولوجية والبعيدة كلّ البعد عن أي معطى علمي أو فلسفي.