ها هي وزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس، تحدّد مجدّداً لنفسها هدفا مستحيلاً. وهذه المرة، لا تحاول دعم عملية السلام الفلسطينية - الإسرائيلية - وهي مهمة فشلت فيها فشلا ذريعاً - إنما تحاول تحسين أمن العراق. في مؤتمر دولي من المقرر ان يعقد في الكويت في 21 و22 نيسان ابريل الجاري، تأمل في إقناع الدول المجاورة للعراق بمساعدة الولاياتالمتحدة الأميركية على إرساء الأمن في البلد الممزّق والمشتّت بفعل الحرب ? أي بعبارة أخرى، المساعدة على إصلاح بعض الأضرار الجسيمة التي تسبّبت بها الولاياتالمتحدة الأميركية بنفسها. وقد يستحق الأمر المحاولة، إلا ان فرص حصوله غير واعدة. عقدت مؤتمرات دولية مماثلة وغير ناجحة في شرم الشيخ في أيار مايو سنة 2007 وفي اسطنبول في تشرين الثاني نوفمبر. وفي كلّ مرة، كان حجر العثرة الأساسي متمثّلا في العلاقات الأميركية - الإيرانية السيئة. وطالما أن الولاياتالمتحدة الأميركية مستمرة في تهديد إيران ومعاقبتها والسعي إلى تقويض اقتصادها من خلال مقاطعة مصارفها، فإن توقعها بأن تساهم إيران في حلّ المشاكل الأميركية في العراق أمرٌ غير واقعي تماماً. إلا أن الرئيس جورج بوش الابن يستمرّ في التكلّم عن الهجوم والتأكيدات الساذجة بشكلٍ خطير التي أتت بالخراب إلى عهد رئاسته. وأعلن من البيت الأبيض في الأسبوع الماضي قائلاً:"العراق هو نقطة التقاء تهديدين من بين أكبر التهديدات المحدقة بأميركا في هذا القرن: القاعدة وإيران". وأضاف:"إذا فشلنا هناك، فقد تدّعي القاعدة تحقيق انتصار دعائي بحجم هائل، ومن المرجح أن تربح ملاذاً آمناً في العراق تنطلق منه لمهاجمة الولاياتالمتحدة الأميركية وأصدقائنا وحلفائنا. ستسعى إيران إلى ملء الفراغ في العراق، ومن شأن فشلنا أن يشجّع زعماءها الراديكاليين ويغذّي طموحاتهم للسيطرة على المنطقة". لا شعورياً - وفي جملتين - قدّم بوش مثلاً بارزاً على السياسات الخاطئة التي أنتجت ما وصفته صحيفة"نيويورك تايمز"ب"أحد الإخفاقات الاستراتيجية الكبرى في تاريخ أميركا". إلا أنه يبدو أن بوش لا يرى ذلك بكل بساطة. وهو يبقى في حالة إنكار. لم تكن"القاعدة"موجودة في العراق قبل أن ترتكب الولاياتالمتحدة الأميركية جريمة الحرب التي جرى التخطيط لها بشكل سيئ. فالغزو الأميركي والاحتلال المستمر منحا تنظيم"القاعدة"فرصة ترسيخ نفسه في العراق. ولن ُتهزم"القاعدة" في العراق إلا عندما تنسحب الولاياتالمتحدة الأميركية في نهاية الأمر، لأن معظم العراقيين - وبالطبع معظم العرب - لا وقت لديهم ل"القاعدة"، فهي تكسب الشعبية فقط من خلال معارضتها للعدوان الغربي. أما في ما يتعلٌّق بمسألة سيطرة إيران على المنطقة، فقد كانت الولاياتالمتحدة الأميركية هي التي قلبت موازين القوى في الخليج من خلال سحق العراق، وبالتالي، إعطاء إيران فرصة الظهور كالقوة المحلية الأقوى. فقبل تدخّل أميركا، تمكّن العراق من السّيطرة على إيران، كما أظهرت بوضوح الحرب الإيرانيةالعراقية التي استمرّت لمدة ثماني سنوات 1980 - 1988. ومن التداعيات الأخرى للغزو الأميركي تقويض التوازن الداخلي العراقي بين الشيعة والسّنة والأكراد - ما منح الشيعة فرصة حكم بغداد للمرة الأولى منذ آلاف السنين. قد تكون هذه التطوّرات غير قابلة للرجوع عنها، أقله على المدى القصير. إلا أنه، ومرّة أخرى، لن يستعاد التوازن الإقليمي والداخلي إلا بوضع حدّ للتدخل الأميركي وبرحيل القوات الأميركية. ومن مصلحة الدّول المجاورة للعراق كلها - تركياوإيران والمملكة العربية السعودية والأردن وسورية ودول الخليج - أن يكون العراق مستقراً وموحّداً. في الوقت الراهن، على هذه الدّول أن تتخطّى الاختلافات في ما بينها وتظهر حسّ القيادة الحقيقي. ولقد حان الوقت بالتأكيد لدول المنطقة كي تأخذ مصيرها على عاتقها. ولا بدّ لها أن تعقد مؤتمراً حول العراق ? والطّلب بتهذيب من كوندوليزا رايس ألاّ تتدخّل. وفي ما يلي المسائل العاجلة التي لا بدّ لجيران العراق من معالجتها: * الولاياتالمتحدة الأميركية بحاجة للمساعدة للانسحاب بشكل منظّم من المستنقع العراقي، وفق جدول زمني دقيق. ويتطلّب الأمر حواراً أميركياً بناء مع دول على غرار إيران وسورية، اللّتين سعت الولاياتالمتحدة الأميركية إلى معاقبتهما وعزلهما، بدلاً من استيعابهما. وتحتاج واشنطن للاقتناع بأن الدفاع عن مصالحها المشروعة لا يتطلّب الوجود المسلّح الواسع النطاق على أرض العراق وفي أنحاء الخليج. بالعكس، يخلق وجود القوات الأميركية في البلدان العربية أعداء ويعرّض المصالح الأميركية للخطر. * الفصائل الشيعية المتنازعة ? ولا سيما"جيش المهدي"التابع لمقتدى الصّدر والمجلس الإسلامي الأعلى الذي يؤيد رئيس الوزراء المالكي ? بحاجة لإنهاء المواجهات العنيفة والتحاور بشأن الشراكة. وسيتطلّب ذلك بشكل شبه مؤكّد وساطة إيرانية بينها. * حتى إذا استمرّ الشيعة بالسيطرة على الحكومة العراقية، فلا بدّ من منح السنّة مكاناً مضمونا ومحدّدا بشكلٍ واضح ضمن النظام السياسي الجديد. وسيتطلّب ذلك تدخّل المملكة العربية السّعودية الديبلوماسي إلى جانب إيران ودول أخرى مجاورة. * لا بدّ من منح الأكراد هامشا من الحكم الذاتي الفعلي - على أساس أكثر أمناً من الواقع الحالي - والذهاب ربما إلى منحهم سيطرة معترفاً بها في كركوك، إنما فقط بشرط أن يؤكدوا ولاءهم لعراق موحّد وأن يرفضوا بكلّ وضوح أي طموح الى الاستقلال الكامل. وذلك يتطلّب بشكل شبه مؤكّد تدخلاً من قبل تركيا. * يعتبر الاتفاق على التنقيب عن النفط العراقي، وعلى اقتسام العائدات بين مختلف المجموعات والمناطق، أولويّة ملحّة. وقد يتطلّب مساعدة المؤسسات والوكالات الدولية. * ستكون إعادة إعمار العراق من الدمار الذي خلفته الحرب، بالإضافة إلى إعادة ما يقارب مليوني لاجئ وإعادة توطين مليوني عراقي تم تهجيرهم من مساكنهم داخل العراق، بمثابة المهمّة العملاقة. وعلى دول الخليج المساعدة في تمويل هذه الجهود، وذلك لتفادي امتداد حالة عدم الاستقرار العراقي إلى المناطق الخليجية المزدهرة. وتستحقّ أيضا سورية والأردن تعويضا لاستضافتهما اللاجئين بكلفة كبيرة تحمّلها المجتمع في البلدين. في مقال صدر أخيراً في صحيفة"إنترناشيونال هيرالد تريبيون"، في 8 نيسان أبريل الجاري، دعا وزير الخارجية الأميركي السابق في السبعينات، هنري كسنجر، إلى مناقشة في اميركا لسياسة الأمن القومي. إلا أنه للأسف، وعلى غرار بوش، يلوم"الإسلام الأصولي"الذي، بحسب زعمه،"لا تترك أيديولوجيته مجالا كبيرا أمام الدول الغربية للمفاوضات". ويعتبر كيسنجر، بدل ذلك، أن الصراع ضدّ التهديد الإسلامي هو"متجذر"، معترفا بصعوبة الوصول الى تسوية."لا فرصة أمامنا للانسحاب. يمكننا الانسحاب من أي مكان مثل العراق، إلا أننا سنجبر على المقاومة انطلاقا من مراكز جديدة، وربما في ظروف اقل ملاءمة لنا". هذا كلام منمّق وتعمية بطابع الاستعمار الجديد. إذا أرادت الولاياتالمتحدة الأميركية أن تحجّم قوة"الإسلام الأصولي"- وهي قوة يجدها كلّ من بوش وكيسنجر خطرة ويتعهدان بمحاربتها حتى النهاية - فعليها أن تتوقف عن قتل المسلمين في العراق وأفغانستان، ووضع حدّ ل"حربها الشاملة على الإرهاب"، والحدّ من القمع الإسرائيلي المتوحّش للفلسطينيين. وتشكّل هذه المسائل مصدرا فعليا للدمار في الشرق الأوسط ولتهديد أمن الغرب. لا بدّ من إيجاد مقاربة جديدة بعيدة كلّ البعد عن التفرّد والعمل العسكري والخطوات الاستباقية المتعجرفة التي ميزت السنوات السبع الأخيرة. قام بوش بتدمير بلد عربي كبير من خلال قتل عشرات الآلاف، إلا أنه دمّر أيضا سمعة الولاياتالمتحدة الأميركية، وحمّل الجيش الاميركي فوق طاقته، وأغرق المالية الداخلية في العجز. وبناء على كل ذلك، فإن الرئيس الأميركي المقبل بحاجة إلى القيام بمراجعة جذرية للسياسة الأميركية تجاه العالم العربي والإسلامي. ومن متطلبات هذه المراجعة القيام بتحقيق صريح في سلوك الأشخاص ومجموعات المصالح التي دفعت بأميركا إلى الحرب. * كاتب بريطاني متخصص في قضايا الشرق الاوسط