يحتل الوضع العراقي مرتبة متقدمة في هموم "مذكرة" وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت لتنصح في النهاية الرئيس الأميركي الذي سيخلف جورج بوش بأن السبيل الوحيد للحفاظ على"اجتماع العراق"قد يكون"السماح بانقسامه". وتتوقع أن تلازم عهد الرئيس المقبل ثلاثة كوابيس:"القاعدة"تسيطر على مناطق السنّة، وإيران تسيطر على الحكومات العراقية، والعراق يتصدع فيشعل حرباً تشمل المنطقة! وفي نقد لاذع لإدارة بوش تقول أولبرايت:"حاولت الإدارة متأخرة أن تُبطل الضرر بالهبوط بالمظلة على النزاع العربي ? الإسرائيلي لتجد ان إطار العمل الذي دعم ذات يوم عملية السلام بحاجة الى إعادة بناء من الصفر". وتستعيد أولبرايت نجاحات حققتها بلادها لتقول إن البراعة الأميركية في التعامل مع أخطار القرن العشرين قامت على دعامتين:"القيادة الأميركية والمشاركة التامة لشركائنا... ولن نستعيد موقعنا في الشرق الأوسط والخليج إلا إذا وضعنا أولاً جدول أعمال يدعمه حلفاؤنا، ويمكن التوفيق بينه وبين احتياجات البلدان الأخرى الرئيسة ... كما علينا استعادة ثقة أبناء المنطقة". في ما يأتي حلقة ثالثة مختارة من المذكرة: لننظر الآن في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط. منذ ديبلوماسية هنري كيسنجر المكوكية النزيهة أوائل السبعينات، تعاملت أميركا مباشرة مع كلا الجانبين للتوصّل إلى سلام عربي - إسرائيلي، وساعدت في النهاية مصر والأردن في إيجاد تسوية مع الدولة اليهودية. وجمعنا بين إسرائيل والفلسطينيين في حوار حول احتياجات كل طرف، ودفعنا سورية باتجاه الاتفاق، لتتراجع بسبب التنازع على شريط من الأرض الساحلية لا يزيد اتساعه على نصف ميل. وعملنا كشركاء مع الحكومات العربية لاحتواء الأنظمة المعادية في ليبيا والعراقوإيران. وساعدنا إسرائيل في أن تصبح قوية بالمقدار الكافي لردع العدوان، فيما حضضنا قادتها على التفاوض استناداً إلى مبدأ الأرض مقابل السلام. وسعينا إلى إيجاد طرق لتحقيق الطموحات المشروعة للفلسطينيين، وأجهد بيل كلينتون نفسه وكل من حوله في محاولة لإيجاد صيغة للتسوية. لم ينجح، لكنّ الطرفين اقتربا في الاتفاق أكثر من ذي قبل. وما من شخص نزيه يستطيع القول أثناء رئاسة كلينتون، إنّ أميركا لم تكن تهتمّ بالشعب في جانبي النزاع. اعتقد جورج دبليو بوش أنّ لديه نهجاً أفضل. فازدرى القادة الفلسطينيين، ولم يكتفِ باحتواء صدام حسين فحسب، بل باشر - مقتنعاً بأنّ القوة الأميركية تستطيع إقامة الديموقراطية على الفور - تنفيذ خطة أحادية لتغيير الشرق الأوسط بأكمله. وبذلك العمل، أحال الهيكل الأمني غير المثالي إلى حطام. في الشرق الأوسط، يشكّل تأثير كرة البلياردو في الشؤون الدولية خطراً كبيراً. فالكرات لا تصطدم الواحدة بالأخرى فحسب، بل عند ضربها بقوة كافية، تنفجر وتشعل الكرات الأخرى إذا التفّت في شكل خاطئ. ومن ثم تحوّل غزو العراق إلى حرب أهلية متعدّدة الأطراف، فاقمت التوتّر بين المسلمين السنّة والشيعة، وزادت نفوذ إيران، وأوصلت تركيا إلى شفا نزاع مع الأكراد العراقيين، ومنحت"القاعدة"حياة جديدة. انقلب الرأي العام في أماكن كثيرة من العالم ضدّ الولاياتالمتحدة، في حين احتل القادة الذين يتحدّونها وإسرائيل في شكل مباشر قوائم الشعبية في أوساط المسلمين. وحاولت إدارة بوش متأخّرة أن تبطل الضرر بالهبوط بمظلة على النزاع العربي ? الإسرائيلي، لتجد أنّ إطار العمل الذي دعم ذات يوم عملية السلام بحاجة إلى إعادة بناء من الصفر. قامت البراعة الأميركية في التعامل مع أخطار القرن العشرين على دعامتين: القيادة الأميركية والمشاركة التامة لشركائنا في الحلف. ولن نستعيد موقعنا في الشرق الأوسط والخليج إلا إذا وضعنا أولاً جدول أعمال يدعمه حلفاؤنا ويمكن التوفيق بينه وبين احتياجات البلدان الأخرى الرئيسة. وحتى عندئذ سنكون في نقطة البداية، إذ علينا استعادة ثقة المنطقة. ولكسب تلك الثقة، علينا أن نحسن فهم ما يريده الشعب في الشرق الأوسط، ولماذا يفعل ما يفعله. لن نستطيع إقناع أحد إذا لم ننجح في فهم رأي هذا الشعب في نفسه وفينا.... صباح 18 تموز يوليو 1921، تجمّع ممثّلون عن اليهود والمسيحيين والمسلمين في فناء الحاخام الأكبر في بغداد، لتحية حاكمهم الجديد وسماع كلمته. كان هؤلاء أبرز الرجال في البلد، إذ كانوا قادة سياسيين ووزراء ورجال دين. جلسوا في صفوف وهم يعتمرون العمائم ويرتدون الملابس التقليدية، فيما راقب المشهد الأطفال والنساء من الشرفات المحيطة والنوافذ المفتوحة للغرف العالية. تركّز اهتمام الجميع على رجل متوسّط الطول ذي لحية مشذبة ووجه وقور. كان اسمه فيصل بن الحسين، وهو من سلالة النبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والمؤتمن على أسرار لورنس العرب، وسرعان ما سيصبح ملكاً. قدّم الحاخام الأكبر، المضيف الكريم، إلى ضيفه كتاب توراة كبيراً، فقبّله فيصل. ثمّ قدّم إليه بعد ذلك نسخة جيّدة التجليد من التلمود، ونسخة مذهّبة من الوصايا العشر. عندما دعي الأمير العربي إلى الكلام، قال للمستمعين:"لا معنى لكلمات يهود ومسلمين ومسيحيين في مصطلحات الوطنية، هناك بلد يدعى العراق وكلنا عراقيون. إنّني أطلب من مواطنيّ أن يكونوا عراقيين فحسب، لأنّنا جميعاً أبناء سلالة واحدة، سلالة جدنا سام، كلنا ننتمي إلى العرق السامي، ولا فرق بين مسلم ومسيحي ويهودي". لم ينصّب فيصل ملكاً بدعوة من الزعماء المحليين، بل بدعوة من البريطانيين الذين حرّرت قوّاتهم المنطقة من مضطهديها الأتراك. وكان البريطانيون يعوّلون على فيصل لبثّ روح الوحدة الوطنية بإقامة نسيج عراقي من الخيوط السنية والشيعية والكردية والمسيحية واليهودية. كان البريطانيون يخطّطون لپ"عصرنة"العرب والاستفادة من نفطهم، لكنّ العراقيين أصرّوا على السيناريو الخاصّ بهم، فتقاتلوا بين بعضهم بعضاً وتمرّدوا على إملاءات لندن. وخلال أربعة عشر شهراً، كتب المسؤول البريطاني عن العراق، ونستون تشرشل، إلى رئيس الوزراء ديفيد لويد جورج يشكو إليه بيأس:"إنّني قلق جداً في شأن العراق. أصبحت المهمّة التي عهدت بها إليّ مستحيلة حقاً... ليست هناك أي صحيفة - محافظة أو ليبرالية أو عمالية - ليست معادية لبقائنا في هذا البلد... إنّني أعتقد بأن عليّ أن أوضح الموقف بجلاء، لا لفيصل فحسب بل للجمعية التأسيسية... إذا لم يكونوا مستعدّين لحضنا على البقاء والتعاون بكل الطرق، فسأنسحب. وهذا هو الحل على أي حال... إنّنا ندفع حالياً ثمانية ملايين دولار في السنة من أجل امتياز العيش فوق بركان لا يقرّ بالجميل، ولا يمكن أن نحصل منه في أي ظرف على أي شيء يستحق أن نأخذه". بعد أكثر من ثمانية عقود، ستكون فكرة الاجتماع في بيت الحاخام الأكبر مستغربة، ولا يعتقد بدرجة أقل بقليل أنّ القادة المسيحيين سيكونون مناسبين. لكن ما لم يتغيّر هو أنّ الغرب ما زال يعتقد بأنّ"هناك بلداً يدعى العراق وكلنا عراقيون"، فيما الموجودون في ذلك البلد ما زالوا يتبعون سيناريو آخر. وتتماثل أيضاً العلاقة الخرقاء بين قوة محتلة تعبت من مهمتها وحلفاء محليين سئموا من التهويل، لكنّهم يخشون أيضاً ما سيحدث إذا انسحبت القوات الأجنبية. وأصبح لك الآن، بركان ونستون تشرشل، الناكر للجميل. قلت في كتابي"الجبروت والجبار":"يمكن في النهاية أن يكون غزو العراق - وما تلاه - من أسوأ كوارث السياسة الخارجية في التاريخ الأميركي، على رغم أنّ علينا أن نأمل بحرارة، خلاف ذلك". ومنذ ذلك الحين، كرّرت تلك العبارة على المستمعين في كل أنحاء أميركا، وذهلت من الردّ: التصفيق. في البداية لم أتمكّن من فهم الأمر. لماذا يصفّقون؟ أملت بأن أكون مخطئة، ثم تبيّن لي أنّ الناس يصفّقون لأنّني قلت ما توصّلوا إليه قبل ذلك بوقت طويل: الحرب خطأ، وعلينا إيجاد أفضل طريقة للخروج. لست ممن قدّموا الحجة لمصلحة الانسحاب المبكّر لكل القوات الأميركية من العراق. وأعتقد بأنّ الرئيس بوش كان مصيباً عندما زعم أنّ الانسحاب المتهوّر يمكن أن يؤدّي إلى كارثة، ومخطئاً في افتراض أنّ وجود قواتنا سيحول دون الكارثة. غالباً ما أُسأل أثناء المقابلات إذا كان بقاء أميركا في العراق إلى أن يعود إليه الاستقرار واجباً أخلاقياً تجاه شعب المنطقة. وكنت أردّ بأنّ ذلك صحيح، ولكن لدينا أيضاً واجب تجاه قواتنا. فيجب تقييد مهمّتنا العسكرية - بمقدار ما نحافظ عليها - بما نستطيع تحقيقه. الصدقية الأميركية مهمة، لكنّها لا تتعزّز باعتماد استراتيجية لا أمل لها في النجاح ثم الإصرار عليها. ستجد كرئيس أن لا خيارات جيّدة في العراق، سواء غادرت قواتنا على الفور أم ببطء أم لم تغادر. والسبب أنّنا لا نمتلك النفوذ لتحديد النتيجة في العراق، واتضح ذلك منذ سنوات. مسؤوليتك هي الحدّ من الضرر. ثمة ثلاثة كوابيس قد تلازم رئاستك. يمكن أن تصبح المنطقة التي يسيطر عليها السنّة في العراق، نظراً الى افتقارها للمؤسسات الحاكمة الشرعية، ملاذاً آمناً ومنطقة تدريب وتجنيد لپ"القاعدة". ثانياً، قد يظهر خنوع الحكومات العراقية المقبلة أمام إيران التي تزداد قوة، فتتقاسم معها المعلومات الاستخباراتية، وتتعاون في المسائل العسكرية، ما يهدّد إسرائيل. ثالثاً، قد يصبح العراق شديد التصدّع بسبب النزاع، بحيث يشعل حرباً تشمل المنطقة. إذا كنت أنت وفريقك محظوظَين قد تتمكّنان من تجنّب كلٍ من هذه الكوابيس، وإذا لم تكونا كذلك فقد تقع ثلاثتها. الحظ مهمّ لأنّ مستقبل العراق لا تحدّده أفعالنا فقط. حتى عندما كان حجم قواتنا في ذروته لم نسيطر على البلد، لأنّنا لم نستطع تحقيق الأمن، ما يعني أنّ اللوم وقع علينا لما نتج من اضطراب الكهرباء، والنشاط الاقتصادي، وسلامة الناس. الميزة الوحيدة التي نمتلكها الآن هي أنّ لدى الآخرين كوابيس تشبه كوابيسنا. فما من حكومة في المنطقة تؤيّد"القاعدة"، وليس بينها - باستثناء إيران - من يريد أن تسيطر إيران على العراق، ولا أحد متلهّف للحرب. علينا الاستفادة من هذه الأصول إلى أقصى حدّ، إذ ليست هناك نقطة توقّف طبيعية للعنف. ويمكن أن تتدخّل إيران وسورية والمملكة العربية السعودية والأردن ومصر وتركيا، إذا تعرّض العراقيون الذين يشاركونهم الدين أو العِرق لخطر الذبح. وتشعر الحكومات بالقلق أيضاً من أن تؤجّج أعمال القتل في العراق مشاعر السنّة في سورية، والشيعة في الكويت ... والبحرين، والأكراد في تركياوإيران وسورية. وفي أسوأ الحالات نسرّع دورة القتل والتخريب التي تؤدّي إلى إعادة رسم الحدود، ومزيد من الدمار الاقتصادي، وتدمير المزارات الدينية التي لا يمكن استبدالها، ما يولّد عطشاً للثأر لا يروى له غليل. أما بالنسبة إلى"القاعدة"، فمن يشكّك في أنّها ستستغلّ كل فرصة؟ أدّى العنف الطائفي إلى سقوط عدد هائل من المدنيين، وإلى واحدة من أكبر عمليات النزوح السكاني في تاريخ الشرق الأوسط الحديث. إذ هجر أكثر من مليوني عراقي منازلهم بحثاً عن أحياء أكثر أمناً، أو فرّوا عبر الحدود إلى سورية والأردن وإيران. وكلّف هذا الخروج العراق نواة من العاملين المهرة الذين يحتاج البلد إلى مواهبهم. كما أنّ نزوح السكّان يميل إلى إطالة القتال بدلاً من تبريد النزاع، إذ ينتظم النازحون لاسترجاع بيوتهم. وإذا لم تمارس رقابة شديدة على مناطق اللاجئين، فيمكن أن تتحوّل إلى قواعد للميليشيات ومعسكرات للتدريب، حيث تشجع المنافي المريرة الجيل المقبل على خوض معارك خسرها الجيل السابق. شهدنا ذلك لدى الفلسطينيين لستة عقود، ورأيته بنفسي في إفريقيا الوسطى، حيث أطلق اللاجئون من رواندا جولة إثر أخرى من سفك الدماء .... قد يكون السبيل الوحيد للحفاظ على العراق هو السماح بانقسامه، لا في شكل رسمي أو كامل، بل بمقدار كاف يتيح إنشاء حيّز للعيش للشيعة في الجنوب، وللأكراد في الشمال، وللسنّة في ما بين الشيعة والأكراد. يجب أن يحدث ذلك نتيجة لسياسة معلنة لأنّ العراقيين قطعوا شوطاً نحو التقسيم. ويجب أن يكون هدفك، بالتشارك مع من يرغب من القادة العراقيين، تثبيت استقرار العملية بحيث تتمّ سلماً ومن دون القضاء تماماً على مفهوم العراق الوطن. فما من سبب يدعو شخصاً ما على سبيل المثال يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعائلته ومعتقده أولاً ألاّ يحافظ على بعض الولاء للهوية الوطنية أيضاً. لبنان ليس نموذجاً جيداً لكثيرين، لكنّه يحافظ على بقائه كبلد على رغم التصدعات على الطريقة العراقية. ويجب أن تكون بغداد مكاناً يستطيع فيه السنّة والشيعة وغيرهم الاختلاط معاً. وذلك يعني وجوب وقف حملات التطهير العرقي التي تشنّ من شارع إلى آخر. وعلى الحكومة العراقية، سواء بقيادة جديدة أو لا، أن تتفق على ترتيبات تقاسم السلطة والنفط، والتي تكون مقبولة من الفئات الرئيسة، هامشياً على الأقل. على الأكراد الذين ليس لديهم منفذ على البحر أو كثيرون من الأصدقاء، التوصّل إلى أنّ الاستقلال الذاتي داخل عراقٍ قابل للحياة أفضل من الاستقلال داخل منطقة تسودها الحرب. ورأينا كيف أنّ فرض حلول سياسية أو عسكرية في العراق أمر يتجاوز قوّتنا، ولكن بالمساعدة الفاعلة من جيران العراق يمكن تصوّر التوصّل إلى توازن هشّ. لن تكون النتيجة بلداً سوياً بمقدار ما ستكون ثلاثة إقطاعات، لكل منها ميليشيا، ولكن كل منها يحترم أيضاً منطقة نفوذ الآخرين. وهذا العراق المفدرل أمر سيئ في أحسن الظروف، ولكن عندما يلحق الدمار الشديد ببلد ما، فإنّ الأسلاك والشرائط اللاصقة ستظهر. عندما كنت وزيرة للخارجية، واجهنا نزاعاً عرقياً في البلقان. ومعروف تاريخياً أنّ لكل فئة في المنطقة حليفاً خارجها، تحصل منه على السلاح والدعم السياسي. رأينا أنّ الحلّ قد يكون في دفع كل البلدان التي لديها مصلحة في البلقان إلى العمل معاً، لذا أنشأنا أداة ديبلوماسية سميناها مجموعة الاتصال، تضمّ ممثّلين من ستة بلدان، وحرصنا على تنسيق سياساتنا. نجح هذا الأسلوب وقلت أنا وآخرون قبل حرب الخليج الثانية وبعدها إنّه يجب تجربة شيء مماثل هناك. لكنه لم يجرّب وكان الفشل ذريعاً. ربما بدأت أميركا النزاع، لكن لجيران العراق ولحلفائنا مصلحة كبرى في إنهائه. وكان في إمكان الإدارة اجتذاب المساعدة بالاعتراف بأخطائها وعرض مشاركتها المسؤولية في اتخاذ القرار. بدلاً من ذلك، أصرّ المسؤولون الأميركيون على أنّ الائتلاف يستطيع تحقيق الغلبة بمفرده. وفي أيار مايو 2003، رفضوا عرضاً من إيران بإجراء مفاوضات شاملة، استناداً إلى فكرة عراق ديموقراطي وغير ثيوقراطي. لم توافق الولاياتالمتحدة إلاّ في 2007 على اعتماد الديبلوماسية الإقليمية، وفي ذلك الوقت أصبحت عملية حرية العراق ترتبط بإنقاذ ما يمكن إنقاذه أكثر من ارتباطها بالحرية .... يجب أن تكون ديبلوماسيتك واقعية جداً. فليست لديك القدرة على فرض إرادتك. وكممثّل لأميركا، ستُحَمَّل المسؤولية عن الخراب الذي أحدثه غزونا وعن أي فوضى نخلّفها وراءنا عندما نرحل. ومن غير الواضح أيضاً إذا كان من ستحتاج إلى مساعدتهم متوفّرين. عليك أن تبدأ بتذكير حلفائنا بأهمية مساعدتهم، لا للعراق ولنا فحسب، بل لمصلحتهم أيضاً. فلا ضرورة لأن يكون المرء تحت القنبلة أو فوقها ليشعر بتأثيرها. يتوقّف الكثير على استعداد جيران العراق للتعاون في الحدّ من الأسلحة وتهدئة التوتّرات الداخلية، ومنع مثيري الاضطراب من دخول البلد. ويتوقّف مثل هذا التعاون على الثقة، وهي الآن أكثر ندرة من ثلج الصحراء. إذا أرادت إدارتك إنشاء هيكل أمني مستقرّ في المنطقة، فسيكون عليك بناء الجسور مع كثيرين ممن في داخل العراق وخارجه ممن عرّفناهم سابقاً بأنّهم أعداء أو أشرار: إيران وسورية والميليشيات الشيعية والمشايخ السنّة والأعضاء السابقون في حزب صدام حسين، ويا لها من لائحة. غير أنّ المرونة لا تقع على عاتقك فقط، لأنّ كلاً من هذه الكيانات وصفنا أيضاً - وبعضها بعضاً في الغالب - بأنّنا أشرار. المشاعر السيئة موجودة لدى الجميع. وعلى الديبلوماسية ألاّ تقوم في هذه الحالة على تقديم خدمات إلى بعضنا بعضاً، بل على الاتفاق على أنّ اشتعال العراق لا يخدم مصلحة أحد باستثناء عدوّ الجميع، أي"القاعدة". وكما بيّنت المبادرات السابقة، من الصعب مدّ اليد للقادة السنّة والشيعة في آن، من دون أن نتعرّض للاستغلال. وفي هذا التاريخ المتأخّر، هناك حاجة إلى لمسة سيميائي لإنشاء إطار عمل متعدّد الجنسية ومتعدّد الأديان لدعم الاستقرار في عراق فيديرالي. غير أنّه الهدف الصحيح الذي تنشده وأفضل فرصة تمتلكها. تنتهي الحروب الأهلية عادة بطريقة من ثلاث: أن يهزم طرف الطرف الآخر، أو أن تتدخّل قوة خارجية لفرض السلام، أو أن ينهِك الطرفان نفسيهما بالعنف. النتيجة الأولى غير محتملة في العراق، والثانية لم تنجح، والثالثة قد تستغرق عقداً أو أكثر. دفع الأميركيون ثمناً باهظاً للأخطاء في العراق، لكننا لم ندفع بالتساوي. من المرهق القتال في عمل عسكري جيّد التخطيط وناجح، ومن المؤلم جداً أن تشاهد أحد رفاقك يسقط في حرب أفسدها القادة السياسيون. خلّفت لنا طبيعة هذا النزاع الاستثنائي آلاف القبور التي حفِرت حديثاً، وبضعة آلاف من الرجال والنساء المشوّهين بدنياً وعقلياً. شعر سلفك بالألم الشديد وصلّى مع الضحايا وأحبّائهم، لكنّه كان مقيّداً بمنطقه الخاطئ، فلم يصف الغزو كما ينبغي: هجوم على الإرهاب أدى إلى تقويته، وعرض للقوة الأميركية كشف حدودها، وحملة شنّت باسم الديموقراطية فأضعفت اسم الديموقراطية، وضربة ضدّ التطرّف خدمت جدول أعمال الراديكاليين في إيران، والأهم من ذلك أنّه مأساة إنسانية رهيبة.... خلال الحملة الانتخابية، اتفقت في الرأي مع المرشّحين الآخرين على أنّ إيران تشكّل أكبر تهديد جدي للمصالح الأميركية، إذا وضعنا"القاعدة"جانباً. ويستند هذا التقويم إلى حدّ كبير، إلى الخوف من أن تتحدّى إيران الضغط الدولي، وتنتهك التزاماتها أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتصنع أسلحة نووية. وربما تنخرط إيران المسلّحة بأسلحة نووية في الابتزاز الديبلوماسي، أو تنقل التكنولوجيا إلى مجموعة إرهابية، أو تطلق شرارة سباق تسلّح إقليمي، أو تحاول تدمير إسرائيل. عندما سُئِلتم ما الذي تنوون عمله حيال ذلك، اتخذت أنت وخصومك مواقف متماثلة: كنتم واضحين في شأن الأسلوب، وغامضين نوعاً ما في شأن كيفية تحقيق ذلك. وأملتم جميعاً بأن يدفع ائتلاف من الديبلوماسية والعقوبات إيران إلى التراجع، لكنّكم قلتم إنّ إيران النووية غير مقبولة، وإنّ كل الخيارات مفتوحة، وذلك رمز شفّاف للتهديد بالقوة. تساءل العالم منذ غزو العراق إذا كان السيّد بوش سيحاول فرض تغيير النظام في إيران، أو سيطلق على الأرجح صواريخ لتدمير المنشآت النووية الإيرانية الناشئة. وذكّرني هذا الاحتمال لماذا يجب أن تسمّى واشنطن عاصمة الإشاعات في العالم. في السنة الماضية، أُخْبِرت سراً من أناس زعموا أنّهم أقسموا على الحفاظ على السرية، بأنّ القرار بمهاجمة إيران اتخذ بالفعل. وأبلغت همساً بأنّ الرئيس لن يغادر منصبه من دون أن"يسوّي"برنامج إيران النووي .... تتحدّد السياسة الخارجية الإيرانية تحت حكم آيات الله بمعاداتها لأميركا من دون هوادة. فبما أنّنا نصّبنا الشاه ودعمناه، ونظراً الى سياستنا الشرق الأوسطية، فإنّ إيران تعتبرنا ورثة كل الخطايا التي ارتكبها البريطانيون، ومتواطئين فيها، ومسهّلين لكل الخطايا التي ترتكبها إسرائيل. وزاد الطين بلّة أنّ إدارة ريغان وقفت في الثمانينات إلى جانب العراق في حربه العدوانية على إيران، والتي كلّفت أكثر من مليون قتيل. وفي 1989، أسقطت بحريتنا، أثناء عملها في حراسة الخليج، طائرة مدنية إيرانية من طريق الخطأ، وقتل كل من كان على متنها. عندما تحدّى الرئيس محمود أحمدي نجاد الرئيس بوش أن يشاركه في مناظرة، كما يفعل بين الحين والآخر، كانت القضايا التي يريد التحدّث عنها: الشاه، وحرب الثمانينات، وإسقاط الطائرة، والمعاملة الإسرائيلية للفلسطينيين. وفي القضايا النووية، يرى أنّ لبلده الحقّ في إعادة معالجة الوقود النووي للأغراض المدنية، وأن يخضع لتفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وعندما نعترض قائلين إنّ إيران غشّت في الماضي، ولا يمكن الوثوق بها، يردّ بأنّنا منافقون، بالنظر إلى ترسانتنا النووية وقرار إسرائيل تطوير أسلحة نووية خارج آلية عمل الوكالة. أما بالنسبة إلى من يمثّل الشرّ، فإنّ أحمدي نجاد يشير إلى أنّ إيران الحديثة لم تحتلّ أرض أحد، خلافاً لأميركا وإسرائيل.... منذ ثورة 1979 وما تلاها من أزمة الرهائن، بحث الأميركيون من دون نجاح يذكر عن قادة إيرانيين يمكننا أن نمارس معهم الديبلوماسية المثمرة. وأملت عندما كنت وزيرة للخارجية بأن تكون اللحظة حانت. ففي 1997 انتخب الإيرانيون رئيساً إصلاحياً، محمد خاتمي، أذهل العالم وفاجأنا بالدعوة إلى الحوار والتعبير عن احترام التقاليد والمثُل الأميركية. شهدنا سابقاً معتدلين زائفين يومئون إلى بلدنا، لكن خاتمي الدمث بدا صادقاً. وشعرنا بأنّه فتح الباب لتحسين الروابط وأنّه ينتظر ردّنا .... وأدليت مرتين، تفصل بينهما سنتان، بخطابين رئيسين عن إيران. وتضمّن كل منهما عرضاً لطهران بالجلوس لبحث كل القضايا، من دون شروط. وأرسلنا سراً رسائل مماثلة عبر سفارة بلد ثالث، وخاب أملي لعدم قبول دعواتنا. إذا كان خاتمي صادقاً، فإنّه لا يمتلك النفوذ لانتشال إيران من حفرة معاداة أميركا. ولا يزال الردّ الإيراني علينا:"الحكومة الأميركية لم تصل بعد إلى الجاهزية اللازمة لإجراء حوار رسمي". كانت تلك فرصة ضائعة. وبعد أن غادرت منصبي، أخبرني وسطاء أنّ بعض المسؤولين الإيرانيين على الأقل شعروا بالندم لأنّهم لم يوافقوا على عرضنا. والدرس الذي تستقيه هو أنّ إيران تتحدّث بأكثر من صوت واحد. فكما لم تكن لإعلانات خاتمي سوى أهمية ديبلوماسية ضئيلة، من المحتمل أن نجاد لا يتحدّث إلاّ باسمه. وهو لا يتحدّث عن كل إيران بالتأكيد، ولا يعكس حنكة الشعب الإيراني وذكاءه. بصرف النظر عما قلته في حملتك الانتخابية، عليك أن تعزف عن العمل العسكري. فهناك كثيرون غاضبون منا أو لا يثقون بنا بحيث تكون الآثار السلبية للضربة الأميركية كبيرة، إذا لم تكن دفاعاً عن النفس.... ربما يكون استخدام القوّة ضرورياً في النهاية، مع ذلك، عليك تحديث خطط الطوارئ باستمرار، وأن تكون مستعداً لاحتمال وقوع حوادث عرَضية في الخليج. فالمسطّح المائي صغير، والسفن الحربية كبيرة، والتوتّرات عالية، والأخطاء تقع. وإذا ارتكب الأميركيون خطأ، فلن تستطيع أبداً إقناع إيران، وستجد صعوبة في إقناع أحد، بأنّنا لم نكن ننوي إثارة القتال. وإذا كانت إيران مخطئة، فستواجه ضغوطاً داخلية هائلة للردّ بقسوة، خصوصاً إذا أزهقت أرواح أميركيين .... ستشغل إيران حيزاً كبيراً من اهتمامك بطريقة أو بأخرى. وأتوقع ألاّ تسعى إيران إلى مواجهة خلال عهدك، إذا تحلّيت بالصبر والمرونة الكافية. وعلى رغم أنّ إيران أقوى الآن مما كانت عليه سابقاً، فإنّها تفتقر الى الموارد كي تكون أكثر من قوة إقليمية. ربما يؤمّن النفط معظم الدخل الإيراني، لكنّه مورد متراجع، لأنّ الطلبات المحلية المتزايدة تقلّل الإمدادات. فإيران بحاجة الآن إلى استيراد 40 في المئة من البنزين، نظراً الى القدرة المحدودة على التكرير، وبدأ في عهد نجاد تقنين توزيع الوقود. كما أنّ حاجة البلد إلى المساعدة التقنية تجعلها معتمدة على النية الحسنة للآخرين. هناك أيضاً حدود اجتماعية وديبلوماسية وعسكرية للقوة الإيرانية. ولا بدّ من حدوث ظروف استثنائية جداً كي يتمكن بلد فارسي من السيطرة على منطقة تتكوّن من دولة يهودية وأخرى تركية وبقية الدول عربية. بل إنّ على حلفاء إيران في العراقولبنان توخّي الحذر لئلا يبدوا دمى لطهران.... أن الكثير يتوقف على ما إذا كانت القيادة الجماعية الإيرانية تريد حماية المكاسب التي حقّقتها أو هي مصمّمة على اتباع استراتيجية أكثر عدوانية، انطلاقاً من طموحاتها أو استيائها أو أيديولوجيتها أو خوفها. يمكن أن تبدّد إدارتك المخاوف بطمأنة الحكومة الى أنّ نياتنا سلمية، ونقبل وجود مصالح مشروعة لإيران تريد حمايتها، وأن ليست لدينا أي خطط لاستخدام القوة في محاولة لتغيير حكومتها. وعلينا أيضاً أن نكون مستعدين للتحدث مع القادة الإيرانيين في كل المواضيع، من شكاواهم منّا إلى خوفنا من ارتباطاتهم بالعنف في الشرق الأوسط، ونشاطات"الحرس الثوري"الإيراني والقضية النووية. ويجب أن تكون اتصالاتنا متكرّرة وروتينية وسرية .... * نقل المذكرة الى العربية عمر سعيد الأيوبي