أي خيط يمكن نسجه بين النايلون، الذي مرت سبعون سنة على أول منتج منه، ومقاهي "ستارباكس" التي انطلقت من مدينة"سياتل"الأميركية في العام 1971؟ وهل يمكن الانطلاق من أشياء متعاكسة؟ يكثّف كتاب"تجربة مقاهي ستارباكس"، تأليف: جوزف أ. ميشالي، ترجمة الدار العربية للعلوم - ناشرون، قصة نجاح"ستارباكس"بعبارة"تحويل العادي إلى استثنائي". بمعنى أن تلك المقاهي لم تبتكر منتجاً جديداً، ولا اخترعت مادة لم ترها الأعين من قبل، بل أخذت شيئاً عادياً، من يوميات الناس منذ قرون، حوّلته"ستارباكس"قصة نجاح كبيرة، فأحدثت ثورة في العلاقة بين كوب القهوة ومكانه وجمهوره. ويكتب ميشالي الجملة الآتية:"تُلخّص قصة ستارباكس مفهوم"تخيّل"، Imagine، بكل معانيه". أي أن هذه المؤسسة الأميركية استندت إلى بنية متخيّلة وجملة افتراضات لصور مختلفة عن النظرة إلى المقهى والعلاقة مع الزبون، ومع العاملين بمنحهم صفة"الشركاء"لمديرين أثرياء، وتحفيز هؤلاء الشركاء المفترضين بإمكان الارتقاء إلى مراتب عليا تدغدغ خيال نادل في مقهى. ويشير ميشالي إلى تلك البنية المتخيلة ب"ثقافة ستارباكس". وضربت تلك"الأخيلة"مقهى وحيداً في"سياتل"، فانشقت عنه سلسلة تزيد على 12 ألف مقهى تتوزع على 37 دولة، يعمل فيها 100 ألف موظف، ويزورها 35 مليون شخص أسبوعياً. ويُقدر نشوء 5 مقاهي"ستارباكس"يومياً، ويكون عددها قد زاد لدى وصول هذه الأرقام... إلى عين القارئ! جوارب نايلون كاروثرز ساندت بنية خيال"ستارباكس"كوب القهوة، فنجحت في جعل شيء ملموس بديهي، مثل القهوة، شيئاً استثنائياً، بلغ من القوة درجة بات فيها يساهم في تغيير أسلوب العيش والعادات. فعلى سبيل المثال، تغيّرت عادة الإنكليز الراسخة في الميل إلى الشاي، وصار احتساء قهوة"ستارباكس"مرادفاً لجيل بريطاني شاب يميل إلى السير في العولمة التي تقودها الولاياتالمتحدة، راهناً. وبمعنى ما، يمكن وصف النايلون بأنه"ستارباكس"النسيج والثياب، ولو أنه سار إلى تلك الصورة في شكل مقلوب معكوس. والراجح أن في الإمكان وصف النجاح الهائل للنايلون بأنه"تحويل الاستثنائي إلى عادي"، بمعنى اندراجه في صلب الحياة اليومية. واستباقاً، راكَم النايلون صورته وأخيلته استناداً إلى نجاحه كمنتج مادي. وانطلق نجاح الخيط البرّاق الشفيف وسطوته، من ابتكار منتج مادي لم تره الأعين سابقاً. وتجمّعت خيوط بريقه الجذّاب لتُراكم حولها صوراً وميولاً وأوهاماً جنسية عن الأجساد وخصوصاً الانثوية المحوّطة بالنايلون وأرديته. جاء المنتج ونجاحه أولاً، ثم تراكمت بنيته الخيالية تدريجاً، في تعاكس واضح مع أخيلة"ستارباكس". وفي قصة النايلون الشائعة، ان شركة"دي بون"الأميركية أعطت عالِماً شاباً لامعاً، اسمه والاس هيوم كاروثرز، مختبراً متطوراً ليعمل في بحوث الأنسجة الاصطناعية. وتوصل كاروثرز أولاً إلى اكتشاف المطاط الاصطناعي في العام 1932، وبعد ثلاث سنوات ابتكر النايلون، الذي سُمي الحرير الاصطناعي. وطرحت الشركة أول جوارب نسائية من النايلون في العام 1938. واستخدمت في ترويجها عارضات يتمتعن بسيقان طويلة. ولاقت نجاحاً مُدوياً. وبيع 4 ملايين زوج منها، يوم إطلاقها. وتسبّب التهافت الهائل عليها في اضطرابات كبرى في محال البيع، فسمتها الصحافة"شغب النايلون". وفي حينه، بدت أردية النايلون متقاطعة مع صورة ذكورية نمطية عن الأنثى المُغرية، التي تبدي وتشف وتمتنع وتصد في آن معاً. وراهناً، تبدو المرأة المعاصرة وكأنها تستفيد من تلك الصورة، ولكنها تقلب المعادلة لتستخدمها ضد الرجل وهيمنته. وترافقت أردية النايلون أيضاً مع دخول النساء في أميركا والغرب إلى الأعمال المكتبية والخدماتية، بعدما عملن في الصناعة وقبلها في الزراعة. وتزامن ذلك أيضاً مع رواج زي نسوي يعتمد على تنورة عملانية، ما جعل للساق أهمية خاصة في الموضة. وترصد عالمة الاجتماع الأميركية، كيتي ديكرمان، في مؤلفها الضخم"النسيج واللباس في الاقتصاد العالمي"، أن النايلون الذي مهّد لسيل من الخيوط الاصطناعية مثل الاكريليك والبولييستر، كان أساساً في الاتفاقات الدولية المتتالية عن النسيج وصولاً إلى تلك التي تتبناها"منظمة التجارة العالمية"، والتي ساهمت في إعادة صوغ دورة الاقتصاد الدولي. وتوثّق ديكرمان لعلاقة قوية بين الدولار والانسجة الاصطناعية. فمثلاً، ترافق انهيار البورصة العالمية في ثمانينات القرن الماضي، مع تراجع الإقبال على التنانير القصيرة والأزياء المرتبطة بها، بفعل مقاومة النسوة غرباً، محاولات دور الموضة إدخال تلك الموضة في حينه. وفي المعاكسة بين"ستارباكس"والنايلون، قضى كاروثرز منتحراً بشرب السيانيد، ولم يعش نجاح ابتكاره، فيما بات أصحاب"ستارباكس"من أساطين المال وملايينه. وفي المقابل، يتقاطع النظيران في اندراجهما في خيالات العولمة الراهنة وتوهماتها ووعودها. واستطراداً، تبدو العولمة راهناً قيد امتحان عسير، مع الأزمة الاقتصادية العالمية ووصول شعوب إلى حوافي الجوع... حرفياً. حلقة الخاتم في"طريق الحرير" قصة ذات دلالة تجيء من الهند، أحد أكثر البلدان ارتباطاً بالحرير وأنسجته وأثوابه. في بلدة"بنغلور"، عاصمة ولاية"كارنتاكا"الجنوبية التي توصف بأنها"وادي السيليكون"الهندي، هناك مخزن شهير للحرير، بلغت من شهرته أن معظم أميرات موناكو وملكات أوروبا، يقصدنه، إن زرن تلك الولاية، أو يذهبن إلى فروعه المنتشرة في بلاد"الغانج". ويحمل ذلك المخزن اسماً بريطانياً، لأنه اندرج في سلسلة محال"دبنهامز"منذ زمن الاحتلال البريطاني للهند. ويُقصد المخزن لحريره، الذي يوصف بأنه أجود نوع من ذلك النسيج وأغلاه ثمناً. وفي المخزن، لا يتردّد العاملون في تكرار"حيلة"تنجح غالباً في جذب زبائنهم. ففي ثقة تامة، يُلف ثوب كبير من الحرير يكفي لصنع"ساري"فاخر، على بعضه كمن يجدل حبلاً. ويدخل طرفه في حلقة خاتم ينزعه البائع ببراءة من إصبعه، وكأنه يجري ذلك العرض للمرة الأولى. ثم يمسك بطرف ثوب الحرير. ويسحب الثوب بطوله عبر الحلقة الصغيرة. ويخرج الثوب من الطرف الآخر، من دون أي ثنية فيه. ويفرده البائع في الهواء، فينتشر ملساً ولامعاً. وفي الطرف الآخر من المدينة عينها، ثمة سوق للحرير. هناك، تباع أثواب من حرير يتباهى بها الأهالي قبل الباعة. ولا يخفى على الأعين ان تلك الأنسجة مملوءة بالتكسرات والثنيات، بل ويبدو بعضها مُجعداً، ولكنها حرير طبيعي كلياً! وتتداول الألسن، في ذلك السوق، كما في"دبنهامز"، أن الحرير الطبيعي يميل إلى التجعّد بسرعة، فلا يكون ملساً، ويستحيل عليه أن يجتاز اختبار تجربة الخاتم. ولا ينال نسيج"دبنهامز"صيته الهائل إلا بفضل… النايلون! وتُخبر"بنغلور"زائرها ان نسيجاً مصنوعاً من مزيج الحرير الطبيعي مع نسبة معينة من النايلون، يستطيع وحده أن يمر في قطعة كبيرة ومتصلة عبر حلقة صغيرة من دون ان يتثنى أو يتجعّد. هو النايلون، الخيط الاصطناعي الذي لم تشهده أعين البشر، قبل أن يكتشفه كاروثرز الذي قلب علاقة المجتمع مع أحد أقدم الأنسجة التي استخدمت في صنع الأردية والملابس. وفي المعنى التاريخي والاجتماعي، يبدو مثال حرير"دبنهامز"في بنغلور أكثر وضوحاً كنموذج عن قوة النايلون. إنه يحدث في البلد الذي اتصل بتاريخ الأنسجة الطبيعية، منذ حقب موغلة في القِدَم، عبر"طريق الحرير"الممتد من الصينوالهند إلى بلاد العرب ومنها إلى أوروبا. وبقي الحرير الطبيعي صنو القهوة حكراً على النخبة، أي أنه بقي استثنائياً إلى أن وصل إليه النايلون، فأدى امتزاجهما إلى نشر"الحرير"عبر تدرّج اجتماعي واسع. وصنع الحرير الطبيعي ذلك السوق العالمي العابر للجغرافيا، مع البهارات والتوابل والبخور والأفاويه والقهوة، ووصفات الطب وكتب الحكمة المشرقية والمعادن. ومع ولادة الامبراطورية الرومانية، جاء الاسكندر المقدوني محاولاً السيطرة على درب ذلك النسيج الطبيعي، ومحققاً حلمه في صنع"نظام عالمي جديد"! هل تبدو تلك الأشياء وكأنها تشبه خطاب العولمة المعاصر، إذ يرى البعض أنها الموجة الثامنة تاريخياً من العولمة؟ لعل ذلك يدعو إلى تفكير من نوع آخر. مايكروسوفت"نايلون"المعلوماتية تتقاطع"بنغلور"مع العولمة الراهنة في احتضانها المعلوماتية أيضاً. ولعل أقوى خيالات النجاح راهناً هي تلك التي تحوط أيقونة المعلوماتية بيل غيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت العملاقة. وفي ما يشبه كثيراً، قصة"ستارباكس"، تحوّلت مايكروسوفت من مغامرة لشاب في العشرين، أسس مع مجموعة من أصدقائه، شركة راهنت على عملها في نُظُم تشغيل الكومبيوتر، الذي كان في مستهل انتشاره. وسرعان ما حلّ نظام"دوس"في تلك الأجهزة الإلكترونية، ثم تلاه"ويندوز"الذي يدير راهناً أكثر من 90 في المئة من الحواسيب. ولا يصعب الحديث عن النجاح الهائل لشركة"مايكروسوفت"وبيل غيتس، الذي يعتبر من أبرز رموز الزمن الراهن. وجعلت تلك الأشياء من غيتس ومايكروسوفت، أسطورة ضخمة في أدمغة البشر. وعلى عكس"ستارباكس"، استندت مايكروسوفت إلى منتج مادي، هو نظام التشغيل الرقمي"لكنه ليس منتجاً"مادياً"كلياً، على الأقل ليس كالقهوة، بل منتج يأتي معظمه من جانب فكري غير ملموس ومبتكر، وهو استثنائي بهذا المعنى أيضاً مثل اكتشاف النايلون. ويرتدي كذلك نظام التشغيل، بصفته ابتكار الفكر والموهبة والخيال، إهاباً مادياً واضحاً في الاسطوانات التي تحمله إلى الكومبيوتر، مثل تحوّل اكتشاف خيوط كاروثرز إلى جوارب نسائية. ومنذ انطلاقته، لقي منتج بيل غيتس هذا رواجاً هائلاً. ويمكن القول إن مايكروسوفت هي كوب قهوة"ستارباكس"، والطريف أن كليهما يتبنى شعار"تخيّل"، إذ جعلته مايكروسوفت شعاراً لمبادراتها الرئيسة الموجهة إلى الشباب المعاصر. وتبدو مايكروسوفت أيضاً وكأنها نايلون الصناعة الرقمية من حيث تحويلها الاستثنائي أي نظام التشغيل المبتكر إلى شيء عادي بات مندرجاً في ثنايا الحياة اليومية إلى حدّ البداهة التي تصنع تلك الحياة أيضاً. [email protected]