تتعرض مدينة القدس التي أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود أولمرت أنه متمسك بالاستيطان في قلب بلدتها القديمة ورحابها لأن حكومته"لن تتخلى عنها في إطار أي اتفاق مع الفلسطينيين"، وأيَد المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية جون ماكين جعلها عاصمة للدولة العبرية، تتعرض، هذه الأيام، لأخطر وأشرس حملة تهويدية منذ احتلالها عام 1967، ما يهدد بخروجها، واقعا وفعلا، من دائرة التداول السياسي الجدي، حتى وإن أكد الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة أن شطرها الشرقي خط أحمر أمام المفاوض الفلسطيني، وحتى لو اعتبرت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أن تصريح أولمرت الأخير يمثل تحولا خطيرا ونوعيا لا يمكن المرور عليه أو السكوت عنه، لأنه يقضي كليا على ما تبقى من التزامات وتفاهمات مؤتمر أنابوليس، ويشكل إعلانا إسرائيليا صريحا بأن الدولة العبرية سوف تقرر بمفردها الحدود النهائية لها والمناطق التي ستضمها بما فيها القدسالشرقيةالمحتلة على حساب حدود عام 67، والتي تمثل بالنسبة للفلسطينيين وللمجتمع الدولي بأسره الحدود الوحيدة المعترف بها للحل القائم على أساس الدولتين. صحيح أن عمليات الاستيطان لم تتوقف لحظة واحدة ليس فقط في المدينة المقدسة وجوارها، بل في كافة أرجاء الضفة الغربية المجزأة بشبكة من الطرق المنفصلة والحواجز والأسوار والجدران التي تحول المناطق الفلسطينية إلى سجون تذكَر بالبانتوستانات التي أراد البيض في جنوب إفريقيا حصر السود فيها لإقناعهم بالتنازل عن مطلب المساواة معهم، إلا أن وتيرة هذه العمليات التي ارتفعت في الآونة الأخيرة، وترافقت مع رزمة من الإجراءات الإدارية الهادفة إلى"شرعنة"عملية التهويد، وحاولت التواري خلف دخان المحرقة التي ارتكبت في قطاع غزة، والتلطي وراء استمرار المفاوضات العبثية بين السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس وبين الحكومة الإسرائيلية ورئيسها ايهود أولمرت، حملت هذا التسونامي الاستيطاني إلى بؤرة الضوء، ولا سيما في ظل الدعم الذي قدمه مرشح الرئاسة الأميركي الجمهوري جون ماكين لهذا التوجه، والذي زايد فيه على موقف إدارة بوش التي عبَر سفيرها لدى إسرائيل ريتشارد جونز عن"قلق بلاده بشأن الأماكن التي يصار فيها إلى بناء منازل جديدة في القدسالشرقية"، مستدركا بأنه"يدرك أن إسرائيل تفتقر إلى المنازل"!!، وكذلك التشجيع الألماني الذي عبَر عن نفسه بصمت المسشارة أنجيلا ميركل على تصريحات أولمرت ومبالغتها في الاعتذار عن المحرقة التي ارتكبت بحق اليهود خلال الحرب العالمية الثانية إلى الحد الذي خلَف اشمئزازا لدى مختلف الأطياف السياسية في ألمانيا، وأثار سجالا صاخبا حيال هذا الموقف. ما يستدعي دق الأجراس والتوقف عن مسيرة التدمير الذاتي الفلسطيني في كل من رام اللهوغزة، والتي تمهد التربة الاستثنائية لاستكمال عميلة تهويد القدس والفتك بما تبقى من أراضي الضفة الغربية، هو تلك البلطجة الاستيطانية المتجددة التي عبرت عن نفسها، في الآونة الأخيرة، برزمة من الإجراءات كان أبرزها: موافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود أولمرت على بناء 750 وحدة سكنية جديدة في مستعمرة"جيفعات زئيف"اليهودية الواقعة شمال غرب القدسالمحتلة"الشروع في أعمال البناء في مستوطنات هارحوماجبل أبو غنيم ومعاليه أدوميم وغوش عتصيون وأريئيل، لأن استمرار تعليقها، وفق مزاعم الوزير بنيامين بن أليعيزر،"قد يسبب خسائر مالية للمقاولين والشركات تقدر بملايين الشواقل""كشف صحيفة"هآرتس"عن مصادقة لجنة التنظيم والبناء في وزارة الاستيطان على خطة لبناء 2200 وحدة سكنية في حي"جفعات همطوس"الاستيطاني في القدسالشرقية، وذلك في إطار خطة أوسع تشمل بناء أربعة آلاف وحدة سكنية وتستهدف تطويق ضاحية بيت صفافا بحزام استيطاني"كشف مؤسسة الأقصى لرعاية المقدسات الإسلامية، بالصوت والصورة، عن حفريات كبيرة وواسعة النطاق وشبكة أنفاق متشعبة ومتعددة وخطيرة أسفل ومحيط المسجد الأقصى، لا تبعد في بعض الأماكن عن قبة الصخرة بالمسجد الأقصى سوى خمسين مترا"الانتهاء من أخطر مشروع تهويدي تحت مسمى"واجهة القدس"يستهدف المقدسات الإسلامية والمسيحية، بحيث يتحول المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وغيرهما من المعالم الدينية، إلى أجزاء صغيرة في صورة يهودية كبيرة. ووفق د. حسن خاطر الأمين العام للجبهة الإسلامية المسيحية للدفاع عن القدس والمقدسات فإن سلطات الاحتلال قطعت شوطا كبيرا في الإعداد لمخطط تهويد ما يمكن تسميته"بالمربع الأول والأهم"في القدسالمحتلة. وتحت غطاء تسجيل أملاك اليهود الواقعة داخل الحي اليهودي في القدسالمحتلة في دائرة الطابو، وذلك لأول مرة منذ عام 1967، شرعت الحكومة الإسرائيلية بتسجيل عقارات وأملاك عربية في سجلات الأراضي في الطابو باسم يهود في حارة الشرف التي يطلق عليها اسم"الحي اليهودي". ويشير الائتلاف الأهلي للدفاع عن حقوق الفلسطينيين الذي يضم 18 مؤسسة مقدسية إلى أن شركة تطوير"الحي اليهودي"تعمل على تسجيل 1300 عقار في البلدة القديمة في سجلات أراضي الطابو، ويتضمن التسجيل 585 شقة سكنية و146 محلا تجاريا وأكثر من 60 مؤسسة عامة وهي ملكية عربية بالوثائق والمستندات. وعلى الإيقاع ذاته، ترتفع وتيرة الإجراءات والممارسات الإسرائيلية المتصاعدة، والتي تهدف إلى وضع المقدسيين الذين يخضعون لنظام ضريبي احتلالي يشتمل على إلزامهم بتسديد 16 نوعا من الضريبة هدفها إفقارهم وإغلاق الأفق أمامهم، أمام خيارين: إما الخنوع والقبول بهذا الوضع أو الرحيل عن المدينة. وحسب تقرير أصدره"الائتلاف الأهلي للدفاع عن حقوق المقدسيين"الذي يرصد انتهاكات سلطات الاحتلال في المدينة، وأعده"مركز أبحاث الأراضي ومركز القدس للديموقراطية وحقوق الإنسان"، فإن ثمة مسلسلا من الإجراءات الإسرائيلية الهادفة إلى خنق المدينة المقدسة بكاملها من خلال فرض طوق وجدار أسمنتي حولها، ومصادرة 1500 دونم. وتترافق تلك السياسة المشحونة بحملات تحريض ضد المقدسيين الذين"يجب إيجاد الحل القانوني الذي يسمح بنقلهم إلى رام الله"، وفق ما يطالب وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي آفي ديختر، مع تصعيد في سياسة عمليات الهدم للمساكن، والاعتداء على المواطنين الفلسطينيين وأملاكهم. وقد شكلت عملية قتل ثمانية إسرائيليين في إحدى المدارس الدينية اليهودية في القدس، مناسبة استثنائية لاقتحام نحو 200 متطرف يهودي، من أصل نحو ألف، بلدة جبل المكبر والقيام برشق الحجارة وتحطيم نوافذ المنازل وزجاج السيارات دون عراقيل تذكر من قبل الشرطة الإسرائيلية. قد يبدو للبعض أن هذه النمط المتجدد من الاستيطان لا يشكل اختراقا نوعيا في عملية الصراع. غير أن عملية ربط عناصر الموقف الإسرائيلي يستدعي التخلي عن أية أوهام متبقية حيال تحقيق اختراق في عمليات التفاوض، والالتفات إلى إعادة بناء البيت الفلسطيني وتحصينه. * كاتب فلسطيني