ليس بوسع أحد التقليل من خطورة الاستيطان على سير عملية السلام باعتباره السبب الرئيس في فشل المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية التي تحاول الإدارة الأمريكية الآن إنقاذها بعد وصولها إلى طريق مسدود. ويتلخص الموقف الإسرائيلي الراهن في استعداد إسرائيل الإفراج عن عدد محدد من الأسرى ليس بينهم مسؤولون كبار، وفي رفض وقف الاستيطان، وتطالب الطرف الفلسطيني في الوقت ذاته بتجميد كل الخطوات باتجاه الانضمام إلى المزيد من المعاهدات الدولية، إلى جانب إفراج واشنطن عن جاسوسها جوناثان بولارد، فيما يتلخص الموقف الفلسطيني في إبداء الاستعداد للامتناع عن الانضمام إلى أي معاهدات إضافية وتمديد المفاوضات بحيث تركز على الحدود، مقابل إطلاق سراح الدفعة الرابعة من الأسرى (30 أسيرًا) إضافة إلى ألف أسير آخر، بينهم مسؤولون كبار، والتوقف عن البناء الاستيطاني. لكن كل المؤشرات تؤكد على أن إسرائيل ليست بصدد التوقف عن الاستيطان ولو جزئيًا - وخاصة في القدس-، فقد استبقت زيارة كيري الأخيرة بتدشين بناء 700 وحدة استيطانية جديدة في القدسالشرقية. وتزامنت محاولات الوزير كيري والمبعوث الأمريكي مارتين إنديك لاستئناف المفاوضات لنهاية العام في إطار هذه الصفقة الجديدة التي ما تزال قيد المراهنة بافتتاح مطلة مجسم للهيكل المزعوم قرب المسجد الأقصى في خطوة استفزازية جديدة للمسلمين والعرب، إلى جانب تكثيف الاقتحامات لباحات المسجد الاقصى ومنع المقدسيين من الصلاة فيه واعتداء المستوطنين عليهم. الحقيقة الصادمة التي اعترف بها كبير المفاوضين د. صائب عريقات بقوله الشهر الماضي بأن إسرائيل ضاعفت الاستيطان في ظل المفاوضات تعني ببساطة أن إسرائيل استغلت المفاوضات لزيادة تمددها الاستيطاني في الضفة الغربيةوالقدس، حيث بلغ عدد تلك المستوطنات وفق آخر الإحصاءات 262 مستوطنة، منها 28 مستوطنة في القدسالشرقية تشكل ثلاث منها مدنًا في حد ذاتها، بسبب ضخامة مساحتها والعدد الكبير لسكانها وهي جيلو، وراموت، ومعاليه أدوميم التي تقع جميعها ضمن ما تطلق عليه إسرائيل «القدس الكبرى». وفيما بلغ عدد المستوطنين في الضفة الغربية 375 ألف مستوطن، فإن عددهم في القدسالشرقية أصبح يقترب من عدد سكانها العرب. هذه المستوطنات بهذا العدد الكبير وبانتشارها في كافة مناطق السلطة الفلسطينية تمنع إقامة دولة فلسطينية ذات تواصل جغرافي وإنساني، أو بمعنى آخر دولة فلسطينية قابلة للحياة. الاستيطان: أخطر أنواع الاستعمار الاستيطان هو في جوهره التطبيق العملي للصهيونية. وهو الشكل الأكثر خطورة من أشكال الاستعمار، فهو في واقع الأمر استعمار بيوريتاني إحلالي وسكاني، أي أنه لا يرمي فقط إلى الاستيلاء على الأرض، وإنما أيضًا إحلال سكانه محل السكان الأصليين أصحاب تلك الأرض، وهو ما حدث سابقًا في الجزائر وجنوب إفريقيا وروديسيا عندما حاول الاستعمار إحلال السكان في تلك البلدان بالمستعمر البريطاني والفرنسي، وهو ما حدث وما زال يحدث الآن على الأراضي الفلسطينية من قبل إسرائيل كآخر شكل من أشكال هذا الاستعمار. ويعرف د.حنا عيسى الاستيطان الصهيوني كمصطلح بأنه السيطرة العملية على الأرض لتحقيق الاستراتيجية الإسرائيلية التي انتهجت فلسفة أساسها الاستيطان الاستعماري الاحتلالي التوسعي، للاستيلاء على الأرض الفلسطينية، بعد طرد سكانها بحجج وخرافات دينية وتاريخية زائفة، وترويج مقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، من خلال عدوان متواصل أداته إرهاب الدولة بهدف تهويد كامل فلسطين وترسيخ مفهوم أن المستوطنين جزءًا حيويًا من النظام الأمني الإسرائيلي، ولخلق حاله من التبعية بين الاحتلال والمحتل في مقومات الحياة كافة لمنع التوصل إلى تسوية إقليمية فلسطينية إسرائيلية تسمح بإقامة كيان فلسطيني ذي ولاية جغرافية واحدة متواصلة. ويعتبر الاستيطان في حد ذاته مثالًا للإجراءات التي تتخذ من جانب أحادي، إضافة إلى ما يمثله من انتهاك صارخ لاتفاقيات جنيف، ولحقوق الإنسان الفلسطيني، ولمحكمة العدل الدولية، ولخطة خريطة الطريق، وموقف الرباعية الدولية، إضافة إلى تأثيراته السلبية على الاقتصاد الفلسطيني، إلى جانب ما هو معروف من أن المستوطنات المقامة على أراضٍ فلسطينية تستنزف الموارد والمصادر الطبيعية المخصصة للفلسطينيين، بما في ذلك المياه. كما يجب التذكير بتصريحات الأمين العام للأمم المتحدة التي أدلى بها في أبريل 2012 بقوله إن كافة الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية غير شرعية وتتعارض مع التزامات إسرائيل بموجب خريطة الطريق. والحقيقة التي تتفق حولها كافة دول العالم تنص على أن المستوطنات الإسرائيلية بنوعيها غير شرعية. وتحاول إسرائيل شرعنة البناء الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية التي احتلتها في حرب يونيو 67 بالرغم من إدراكها بأن تلك الأراضي تنطبق عليها قواعد وأحكام القانون الدولي العام، والقانون الإنساني الدولي المعبر عنه باتفاقيات جنيف الأربعة (1949) التي استندت إلى المبادئ العامة التي أرستها اتفاقية لاهاي لعام 1907، وذلك في الوقت الذي تصر فيه على عدم التخلي عن مواصلة سياستها الاستيطانية خلال مفاوضاتها مع الفلسطينيين كإحدى المحاولات التي تبذلها. وهي تحاول إضفاء تلك الشرعية من خلال الحصول على الغطاء الشرعي الذي توفره المفاوضات في ظل عدم تمسك الجانب الفلسطيني بوقف الاستيطان بكل صوره وأشكاله - وليس تجميده فقط - كشرط أساس لاستئناف المفاوضات. ومن جهة أخرى يرى الباحث في القانون الدولي السفير نبيل الرملاوي أن إسرائيل تحاول شرعنة الاستيطان من خلال الاستناد على وعد بلفور باعتبار أن ما جاء في الوعد كان كافيا لجعل فلسطين كلها وطنًا قوميًا لليهود، واعتبرت ذلك قانونًا «فحرفت بذلك حقيقة ما جاء من نص في الوعد المذكور لتبرير إنشاء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية باعتبارها تبنى على أرض إسرائيل واعتمادًا على مصادقة مؤتمر سان ريمو بإيطاليا 1920 على ذلك. هذا بالرغم من أن هذا الوعد (المجحف) الذي استغله الصهاينة بأبشع الطرق تحدث عن جزء من فلسطين لليهود،إلى جانب أنه عبر في جزئه الأخير عن حرصه على عدم المساس بحقوق شعب فلسطين من مسلمين ومسيحيين بقوله: «على أن يفهم جليًا أنه لن يؤتي بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى». البدايات يعتبر مؤسس المذهب البروتوستنانتي مارثن لوثر أول من نادى بالاستيطان اليهودي في فلسطين عبر مقولته الشهيرة: «إن اليهود شعب الله المختار، وطنهم المقدس فلسطين، ويجب أن يعودوا إليه». وتبعه في ذلك العديد من دهانقة الاستعمار القديم والحديث، يهودًا وغير يهود. ففي عام 1799 اقترح نابليون بونابرت إنشاء دولة يهودية في فلسطين أثناء حملته الشهيرة على مصر وسوريا. ومع ضعف الدولة العثمانية وزيادة الأطماع الأوروبية في ممتلكاتها طلب السفير البريطاني في القسطنطينية بالتدخل لدى السلطان العثماني للسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين. ويذكر أستاذ القانون الدولي د.حنا عيسى أن النشاط الاستيطاني اليهودي الفعلي لفلسطين بدأ بالظهور عام 1840 بعد هزيمة محمد علي، واستمر حتى عام 1882 بوصول 3000 يهودي من أوروبا إلى فلسطين. وبدأت المقاومة الفلسطينية فعليا مع بداية هذه الهجمة الاستيطانية الأولى، تحديدًا عام 1886 عندما هاجم الفلاحون المطرودون من الخضيرة وملبس (بتاح تكفا) قراهم المغتصبة التي أجلوا عنها رغم إرادتهم. وقد تدفقت الهجرة اليهودية بأعداد كبيرة على فلسطين طيلة فترة الانتداب البريطاني التي استمرت ثلاثين عامًا، وعندما انتهت تلك الفترة وأعلنت العصابات الصهيونية عن قيام دولة فلسطين على 78 % من أراضي فلسطين التاريخية حتى إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948 على 77% من مساحة فلسطين التاريخية، وفي عام 1967، تمكنت إسرائيل من احتلال كافة الأراضي الفلسطينية مدشنة بذلك مرحلة جديدة من الاستيطان، هذه المرة على أراضي الضفة الغربيةوالقدسالشرقية وقطاع غزة الذي انسحبت منه عام 2005. أما الاستيطان في القدس فقد بدأ عام 1855 بعد نجاح المليونير اليهودي موسى مونتيفيوري بموجب الفرمان الصادر عن الباب العالي في شراء أول قطعة أرض في القدس خارج أسوار المدينة أقيم عليها فيما بعد ما عرف باسم «حي مونتيفيوري» الذي شكل نواة الاستيطان اليهودي في مدينة القدس. ووصل عدد المستوطنات التي غزت شمال غرب المدينة 36 مستوطنة حتى العام 1918. ثم ازدادت حدة الاستيطان اليهودي في القدس بعد صدور وعد بلفور في 2 نوفمبر 1917، وهو ما أدى إلى زيادة عدد سكانها اليهود. ومع نهاية العام 1947 وصل عددهم إلى قرابة 100 ألف (أي حوالى 60 % من سكان المدينة). فيما وصل عدد سكانها العرب 65100 نسمة فقط. وقد أدت حرب 1948 إلى احتلال اليهود 85 % من المساحة الكلية للقدس فيما عرف منذ ذلك الحين بالقدس الغربية. وبعد حرب 67 أصبحت القدس كلها تحت السيطرة الإسرائيلية، وقامت إسرائيل منذ الأيام الأولى من الاحتلال بهدم حي المغاربة، وشرعت في إجراء الحفريات تحت أساسات المسجد الأقصى. وفي 30 يوليو أعلنت إسرائيل القدس - بشطريها - عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل. وصدرت موافقة الكنيست على الضم في 30/7/1980، حيث بدأت حمى الاستيطان تستعر في القدسالشرقية منذ ذلك الحين. مخطط تهويد القدس يتلخص مخطط تهويد القدس في العمل على الاستيلاء على كامل المدينة التي يعتبرونها العاصمة الموحدة الأبدية لإسرائيل، وتمددها من خلال إحاطتها بحزام من المستوطنات ضمن ما يعرف بالقدس الكبرى، وهذا الحزام أو الطوق الدائري يشمل، كما يذكر د.حنا عيسى، مستوطنات هار حوما - معاليه أدوميم - أبو ديس- بزغات زئيف - حزما وبيت حنينا - نفي يعقوب - جبعات زئيف - وريخيس شفاط . ويرمي المخطط الذي قدر له رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت الانتهاء منه في العام 2020 إلى تقليص عدد المقدسيين إلى نحو 12%، وإلى عزل الأحياء المقدسية بجدار الفصل العنصري. وتعتبر الهجمة الاستيطانية الشرسة التي استعرت خلال العقدين الأخيرين الأداة الأكبر في تنفيذ مخطط تهويد القدس. وقد لعب نتنياهو دورًا كبيرًا في تنفيذ وتسريع هذا المخطط حيث أقيمت خلال ولايته السابقة (1996- 1999) مستوطنة جبل أبو غنيم (هارحوما) على جبل أبو غنيم. كما اتخذت حكومته قرارًا بالموافقة على إقامة مستوطنة «معاليه هزتيم» على جبل الزيتون، وتم في غضون ذلك توسيع البناء في مستوطنة معاليه أدوميم المخطط لها أن تصبح أكبر من تل أبيب. ثم عمل عام 1996 على فتح أنفاق حائط البراق التي ارتبطت باسمه، بما أدى إلى اندلاع ما عرف حينذاك بانتفاضة الأنفاق. وقد واصل نتنياهو لعب هذا الدور خلال ولايته الراهنة عندما فتح باب الاستيطان على مصراعيه. الأمر المقلق أكثر من غيره في هذا الموضوع يتمثل في تمدد الاستيطان الإسرائيلي في القدسالشرقية بشكل متسارع، فمنذ بدء جولة المفاوضات الجديدة في 29 يوليو الماضي نتيجة المساعي الأمريكية التي بذلها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أضاف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو 10558 وحدة استيطانية، وهو ما يعادل 4 أضعاف النمو الطبيعي في مدينة نيويورك حسب ما ذكره عريقات. يمكن أن نفهم في ضوء ما سبق أن الهدف من إصرار الجانب الإسرائيلي على تأجيل موضوع القدس إلى المراحل النهائية للمفاوضات يهدف بشكل أساس إلى ابتلاع أكبر قدر ممكن من أراضي القدس، لا سيما وأنه يترافق مع إجراءات التهويد وهدم بيوت المقدسيين وسحب هوياتهم.