كتاب فؤاد رفقة "خربشات في جسد الوقت"، دار نلسن للنشر في السويد ولبنان وإن كنت أجده يتصل رؤية ورؤيا بكتبه الأُخرى، حتى تلك الشعرية الخالصة، فكل شيء في هذا الكتاب يجري ضمن حياة الشاعر الكاتب على الأرض. وإذا كان فؤاد رفقة قد اعتاد، في ما يكتب، أن يجعل لكل كتاب من كتبه"مركزاً موضوعياً"، فإن ما يصدر عنه في هذه الپ"خربشات..."هو ما يقع ضمن حركات وتجليات بين الكلمة والذات، وبين الذات والوجود. وفي هذا الكتاب يتحرك الكاتب/ الشاعر في زمن إنساني بالغ الإنسانية هو: زمن الفعل الحي والرؤية الحيوية الحية التي تحتضن الحيوات الأُخرى وتلتقط التفاصيل لتعبّر عنها تعبيراً يقع بين النثر وجواره الشعر. ينبغي أن لا تفوتنا الإشارة الى أننا إنما نتكلم على كاتب/ شاعر ينتمي الى لغة، ويتكلم هذه اللغة إبداعاً، والانتماء المعنيّ هنا ليس بمعنى كون"اللغة العربية"هي لغته، وإنما هو هذه اللغة بوصفها لغة إبداع، وهي باعتبارها هذا تضع الذات في مواجهة العالم، وهو، الكاتب، يؤكد ذاته/ موقفه في هذا العالم/ ومن العالم بهذه اللغة/ ومن خلالها. غير أن السؤال الذي يثار هنا، لكي نتخطى من العموم الى التخصيص، هو: عمّ تكشف هذه الكتابة؟ ماذا تقول؟ والأهم عمّ تكشف؟ وليكن الجواب من خلال متابعة المسار: ففي هذه"الرحلة"عبر"الذات الزمان"وفي"الواقع المكان"كما وجد يوماً أستاذه، أيام كان الكاتب طالب فلسفة،"فريدريش كومل"قد"حمل كيسه وراح الى الهند، وفي الهند غرق في البوذية، منها عاد راهباً يعدّ طريق الروح للآخرين"، إذا به، هو الآخر، من بعد سنين على ما حدث لأستاذه في سبعينات القرن الماضي، يغادر بيته ويذهب الى ذلك المكان الذي ربما غدا بعيداً، بعض الشيء، في الزمان. ومن هناك يبدأ رحلة العودة الى الذات. رحلة بطلها"بيدر"، هذا الاسم الذي وجد فيه الكاتب/ الشاعر ما يتعين به ذاتاً ورمزاً. وپ"عندما كان بيدر حّصيداً كان يعرف كل شيء". أما يوم انحدر الى الكتب.."حين صار النقاط والفواصل والحروف ما عاد يعرف شيئاً". مع هلدرلن بدأت"رفقة الشعر للفلسفة"، فپ"الشعر والفلسفة كما يرى المؤلف رفيقان، إنهما في حوار مستمر". هكذا اتخذهما في دراسته هو الشاعر الذي درس الفلسفة هناك، في"تبنغن نفسها التي فيها"كان هيغل يصغي الى كلمة هلدرلن الشعرية"محاولاً"تفسيرها واكتشاف الرؤيا المتجسدة فيها، رغم أنه في النهاية اعتبر الفلسفة الأقدر على تجسيد المطلق". وهو، الكاتب، إذ يجد في تلك البلاد"الشعر والفلسفة صديقان"يتساءل مّرة أُخرى:"وعندنا؟"وبديل الجواب يضيف سؤالاً لعله يحمل الجواب:"أين الشعر الذي يصادق الفكر؟ وأين الفكر الذي يصادق الشعر؟". من هذه التساؤلات تكون للرحلة مسارات أُخرى: باتجاه الذات، ولكن باتجاه الواقع أيضاً، حيث التمسك بالأرض التي امتدّ جذوراً فيها، والحنين الى الأُفق الذي تعلّق به زماناً ورؤيا بحثاً عن"اللحظة"التي تغرقه كما أغرقت لحظة العشق عاشقين في المقهى، وقد رآهما رؤية العين. ليعرف، من اللحظة ذاتها، أن أيامه المشرقة لن تعود إليه مهما عايشتها الذاكرة. ونجده يفضي من دروب الحياة الى طريق المعرفة: المعرفة التي"حفرت خطوطها عمقاً في الأراضي الفكرية المعاصرة". فإذا ما غشي المبنى تذكّر واستعاد:"في هذا المبنى حاور هايدغر الكينونة والزمن، فيه حاور هلدرلن، غامر في أدغال تراكل، هبط أعماق ريلكه، وعلى جسور الرؤيا عَبَر الى نيتشه". فپ"الفكر والشعر نجمتان في سماء الليل". لا يمتلك المؤلف"حكايات"يحكيها بل"أفكاراً"يتعاطى معها. وكما كانت أفكاره منطلق مغامرة في الكتابة، فإنه سيجد، من تجربته، أن الكتابة والشعر ليسا صعيدين، وإنما هما صعيد واحد. فقد تظهر الفكرة هنا في صورة من صور رؤية الوجود، أو من خلال أُسطورة أو رؤيا تتماهى معها.. كما قد يكون لها وجهها المستقل. فالمهم، في هذا، هو تجديد التفكير الأدبي بالأدب عبر أعمال من شأنها أن تحقق ذلك. فهو لا يجد العمل الفني يكتمل، أو يمكن أن يكون له ذلك، بل هو"دائماً وأبداً يبقى في البداية". ومن هذا فإن ما يحرك الكتابة عنده هو"هذا التّمزق الدائم الشعلة بين الواقع والحلم". إلاّ أنه وهو يمضي في سياق مثل هذه الرؤية الفلسفية للوجود إنما يكتب"ذاته"، هو، في رؤيتها/ تمثلها هذا الوجود، ما نخلص من خلاله الى أن اللقاء بينه وبين"الهيدجرية"عميق غاية العمق، ويتعدى نطاق التأثيرات المباشرة الى حالة امتداد الجذور في الفلسفة ذاتها وهو، لا أحد سواه الذي رأى في"هايدغر"الزلزال في بيئة القرن العشرين وإن كنا، هنا، نتكلم على كيانية فلسفية وضعها الكاتب/ الشاعر في سياقات شعرية، أدخلت الفكرة، بقوّة الإمكان فيها، الى الشعر فجعلت القول الشعري مثيراً للتفكير أكثر من إثارته للشعور. ألم يكن"المعلم هيدجر"هو من"اثقلته الأفكار والأسئلة؟". عن طريق هذا الاستدلال الفلسفي الى الكتابة تثار أكثر من مسألة فلسفية مطروحة في سياق شعري: - فهناك المعنى الذي يشكل حالة ثابتة في"النص". والكاتب/ الشاعر لا يدور حول المعنى في النص وإنما يخترقه، أو يفجره شعرياً فالشعر عنده"سراج الليل في مسارب الوديان". - وهناك الشخصي، في ما هو خاص ذاتاً واحتواءً، والفردي في ما هو رؤية للوجود، ورؤيا في الوجود، ينسجهما من خلال الاستمرار"في حياته اليومية". - وهناك التماثل، كما هناك الاختلاف، حيث تشكلات الموقف لا الموقف المجّرد، وإنما الموقف في الوجود/ من الوجود، حيث الميل الدائم عنده، كاتباً وشاعراً، الى العزلة، ليظل"في عزلته كساقية الوعر، كنجمة غير مرئية". إلاّ أنه، من طرف آخر، يجد الأسئلة تنتعش في العزلة. ومن خلال العزلة يحدث التحوّل عنده، فهو"مصيريّ الدرب والإتجاه... لأنه شاعر"، والشعر، وإن كان لغةً، لغته"لغة المنبع الأوليّ، لغة الكينونة". - وهناك التوحيد بين العقل والقلب، العقل الذي ينظر الى الأشياء نظرة حبّ وإشفاق مشفوعة بالتساؤل عن المصير البشري، آخذاً الأفكار بمعطياتها الحقيقية. والقلب الذي يخضع هذه الأشياء للحواس، ويتعاطى معها في مستوى الخيال والفن في محاولة لإمتلاك صورة جديدة للأشياء. وهو في هذا كله لا يحلم بقدر ما يبني مما يراه ويتشكل لديه إحساساً بأفكار كبيرة، غارساً ما يبنيه، أو يقيمه، في التاريخ - التاريخ الذي هو هنا الزمان مرهوناً بالمكان.. حتى لتبدو الأرض وهو يضع"خربشات" عليها أرضاً متعددة المعالم لتعدد ما عليها من آثار البشر. ولكنها تظل، أمامه، مثل إمتداد شعري.