وماذا بعد؟ إلى أين ستذهب "حماس" بعد أن باتت تسيطر على قطاع غزة؟ وما هو مصير "فتح"، بعد كل العطب الذي بات يدبّ بها؟ وما هو مآل قضية فلسطين وشعبها، بعد كل الاستعصاءات والأزمات التي تمر بها الساحة الفلسطينية؟ هكذا فإن سؤال اليوم الفلسطيني لم يعد يقتصر على شكل وجود القضية والشعب والحركة الوطنية، وإنما بات يطال هذا الوجود من أساسه. فالواضح أن قضية فلسطين لم تعد في مركز اهتمامات العالم العربي، على صعيد الحكومات والمجتمعات، فثمة احتلال العراق، ومشاكل السودان، ومخاطر تتهدد لبنان، كما ثمة بروز للعصبيات المذهبية والطائفية والاثنية في أكثر من مكان في العالم العربي. زد على كل ذلك ضعف قدرة العالم العربي على مواكبة مسارات العولمة، وضمنها التطورات الدولية في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والعلوم والإدارة. أيضا لم تعد قضية فلسطين المصدر الوحيد للتوتر في الشرق الأوسط، فثمة الصراع على العراق، ومحاولات إيران تعزيز نفوذها فيه وفي الشرق الأوسط، في تحد للنفوذ الأمريكي، وللنظام العربي. وثمة صعود للتيارات الإسلامية المتطرفة، التي تتوسل العنف الأعمى لفرض أجندتها على مجتمعاتها وعلى الصعيد الدولي"دون أن ننسى محاولات الدول الكبرى فرض مشروعاتها، على حكومات ومجتمعات المنطقة، بوسائل القوة والضغط، دون اعتبار لأولوياتها ومصالحها. هكذا لم تعد قضية فلسطين اللاعب الوحيد في المنطقة، ما ينبغي أن يدركه الفلسطينيون في غمرة صراعاتهم وخلافاتهم، التي أسهمت في تشويه صدقية هذه القضية العادلة، بما هي قضية تحرر وطني وتقويض مكانتها، على كافة الأصعدة. أما الشعب الفلسطيني فوضعه ليس أفضل، إذ تعرض لاستنزاف طوال السنوات الماضية، بعد أن فرضت إسرائيل عليه الحصار المشدد، وجعلت من قطاع غزة مجرد سجن كبير، ما أدى إلى انتشار الفقر والبطالة، وفقدان فرص العمل، وانهيار العملية التعليمية، وازدياد مظاهر الاحباط وانعدام الأمل. ومعلوم أن المجتمع الفلسطيني بات يعتمد على معونات الدول المانحة، ما يفترض من القيادة وضمنها حماس إيجاد معادلة سياسية تمكنها من احترام الاستحقاقات التي تستوجب استمرار تدفق المساعدات"بغض النظر عن توجهاتها، أو إيجاد المخرج الذي يجنبها هذا الإحراج، ويجنّب شعبها الوقوع في دائرة الحرمان، في ظل انعدام الموارد البديلة، وهي أمور ليست، على ما يبدو، بحسبان حماس. وبالنسبة للحركة الوطنية فقد باتت في حال صعبة من الانقسام والفوضى وغياب الهدف. والمشكلة أن الانقسام السياسي ترتب عليه انقسام في الكيان بين الضفة وغزة، ما أفاد إسرائيل، وسهل عليها الاستفراد بالقطاع والتنكيل به، والترويج أمام العالم بأن الفلسطينيين ليسوا مؤهلين لإدارة أوضاعهم، وأنهم غير محل ثقة في عملية سلام بدليل القصف الصاروخي، والاقتتال فيما بينهم. والمشكلة أن الحركة الوطنية، وهي تعيش هذه الحال، تبدو منهكة ومستنزفة، بعد أن زجّت بمعظم قواها في المواجهات المسلحة التي دارت طوال الفترة السابقة أي منذ أيلول/سبتمبر 2000 2004، ضد إسرائيل. ودليل ذلك تراجع العمليات المسلحة، وضمنها العمليات التفجيرية إلى حد كبير، في السنوات الثلاث الأخيرة. فوق ما تقدم فإن الساحة الفلسطينية تبدو في مواجهة معضلة كبيرة، فثمة تآكل واضح في حركة فتح، التي دبت فيها الشيخوخة، وضعف فيها الحراك الداخلي، ما أدى إلى تكلسها وتدني فاعليتها، وبالتالي تراجع مكانتها ودورها، خصوصا بعد أن أخفقت في خياراتها، في المقاومة والتسوية وفي الانتفاضة والمفاوضة، أو على الأقل في طريقة إدارتها لهذا الخيارات، وأيضا بالنسبة لشبهات الفساد واستغلال النفوذ التي لصقت ببعض قيادييها. واللافت أن ليس ثمة مؤشرات تفيد بإمكان استنهاض هذه الحركة لأوضاعها، في المدى المنظور. ومن جهة حماس، فهي ليست ضمن إطار منظمة التحرير، وهي تحسب على منظومة الإسلام السياسي أكثر مما تحسب كحركة تحرر وطني، وفوق هذا وذاك فإن هذه الحركة غير مرغوبة في الإطارين العربي والدولي، وهي لا تبدو مؤهلة أو ناضجة، لتكييف نفسها مع الأوضاع العربية والدولية. أما خارج فتح وحماس فليس ثمة فصيل قادر على احتلال مكانة فاعلة، بحكم ضعف الفصائل وتشتت قواها وتحول غالبيتها إلى مجرد هياكل من التاريخ، ومعظمها يعمل لحسابات شخصية ضيقة، أكثر مما تعمل في الميدان الوطني. الآن ما هو السبيل لوقف التدهور في حال القضية والشعب والحركة الوطنية؟ واضح أن من الصعب الحديث عن مخرج من دون الضغط على الطرفين المعنيين، أي السلطة وفتح من جهة وحركة حماس من الجهة الأخرى، للخروج من إطار التجاذبات والمصالح الثنائية الضيقة والمضرة إلى دائرة المصلحة الوطنية والمستقبلية. بمعنى أن الحد الأدنى لهذا الأمر يتطلب توليد قناعة عند الطرفين بشأن تقنين الانقسام والاختلاف، وتنظيمه في اطر وطنية عامة، وإدارته بالطرق السياسية والسلمية والشرعية، بعيدا عن المنازعات العنيفة والاقتتال بالسلاح. وفي ذلك فإن الطرفين المعنيين ينبغي أن يدركا بأن الاقتتال والانقسام لا يدعّما تيار ضد آخر بقدر ما يشيا بإخفاق تيار الوطنية أو الاستقلالية، التي عمدتها حركة التحرر الفلسطينية، منذ أواسط الستينيات، مع التضحيات التي رافقت ذلك. أيضا فإن إخفاق خيار الدولة المستقلة وإسرائيل مسؤولة عن ذلك أكثر من غيرها، لا يعني بأن خيار التحرير بات مشرعا، بقدر ما يعني امكان العودة لخيارات أخرى من مثل الخيار الأردني، بغض النظر عن سلبيات أو ايجابيات ذلك. هكذا فإن الفلسطينيين اليوم معنيين بوقف مزايداتهم، وتحمل المسؤولية عن التدهور في أوضاعهم، ووضع حد للتوظيفات الإقليمية، التي لن تفيدهم، ووضع حد للانقسام في أوضاعهم، عبر التوافق على استراتيجية سياسية وسط واضحة وممكنة، لتجاوز التباينات في الرؤى الاستراتيجية المستقبلية، من نوع التحرير أو الدولة ثنائية القومية أو الدولة الديموقراطية العلمانية، أو الدولة المستقلة، أو الخيارات الإقليمية، التي هي من حق كل تنظيم أو كل تيار عامل في هذه الساحة. الآن تطرح قيادة السلطة أي قيادة المنظمة وفتح عودة حماس عن"انقلابها"لبدء الحوار وإيجاد مخارج للأزمة، ومع أهمية ومشروعية ذلك من النواحي السياسية والقانونية والأخلاقية وحتى لا يسجل كسابقة، فإن هذه القيادة معنية أيضا بمراجعة سياساتها وممارساتها التي دفعت حماس لهذه الخطوة وسهّلتها لها. وهي مطالبة بنبذ التفرد بإدارة الوضع واحتكار القرارات، وتطوير التعددية والمؤسسية والعلاقات الديموقراطية في الساحة الفلسطينية، وتفعيل منظمة التحرير، ككيان سياسي موحد للشعب، على أسس جديدة، تراعي التوازنات الحاصلة في هذه الساحة. بمعنى أن مسؤوليتها عما جرى لا تقل عن مسؤولية حماس، وإن كان يسجّل لصالحها عدم حسمها الخلافات بوسائل الاقتتال المسلح. وبالنسبة لحماس فإنها مطالبة بمراجعة ما حصل، وإثبات عدم تمسكها بالسيطرة الأحادية والاقصائية على القطاع، ودراسة كيفية المواءمة بين مقاومتها تداعيات اتفاقات اوسلو، وانخراطها في سلطة ناجمة عن هذا الاتفاق، من موقع القيادة والحكومة، خصوصا أن هذه الحكومة بحاجة لأموال الدول المانحة، التي تمول عملية اوسلو، لتغطية رواتب 160 ألف موظف، ولتأمين احتياجات الفلسطينيين للعيش، لاسيما في القطاع، من الموارد الحيوية، وضمنها إمدادات الكهرباء والطاقة والمواد التموينية والصيدلانية. بمعنى أن على حماس أن تخرج من حيز الشعارات والتمنيات والرغبات، والتهويل بالقدرات الذاتية إلى حيز الممكنات والاستحقاقات في انتقالها من موقع المعارضة إلى القيادة والسلطة. إضافة إلى ما تقدم فإن المطلوب من فتح وحماس، في حال اخفاقهما التوافق بوسائل الحوار، المدعومة بمداخلات وضغوطات عربية، التفكير جديا بالتوجه للشعب لطرح الموضوع عليه، بدلا من إبقاء الانقسام، وبدلا من تسعير الخلافات، وحلها بوسائل الاقتتال، وذلك من خلال تنظيم استفتاء شعبي، بشأن امكان الذهاب لانتخابات مبكرة، رئاسية وتشريعية، ليقول الشعب كلمته، ويحسم أمره. * كاتب فلسطيني