تعوّدت النخب السياسية المتحكّمة بالحقل السياسي الفلسطيني (المنظمة والسلطة والفصائل)، تسمية الأشياء بغير مسمياتها. فقد بات ذلك من أدوات السياسة الجارية، أو قل من أدوات «اللعب» والشطارة السياسيين. هكذا اختزل المشروع الوطني الفلسطيني، مثلاً، بقدرة قادر، بمشروع أوسلو، على رغم أن هذا المشروع وصف، حتى على لسان اصحابه، بأنه مجرد مقامرة أو مغامرة، وأن التوقيع عليه كان اضطرارياً، في لحظة سياسية دولية وإقليمية وعربية حرجة. هذا من دون عن ان نتحدث عما يتضمنه هذا المشروع الجزئي والناقص والمهين من اجحافات بحقوق شعب فلسطين، وضمنها تلك التي أقرّها له المجتمع الدولي. وعلى الأقل فهذا المشروع الذي اختزل فلسطين إلى 23 من أرضها الكاملة، وجزّأ شعبها، لا يمكن أن يسمى بمسميات من مثل المشروع الوطني، او مشروع الاجماع الوطني. فهذا، أقلّه، خسارة للمشروع الوطني، أو اخفاق له، بالقياس للأهداف المتوخاة التي انطلقت على أساسها الحركة الوطنية الفلسطينية في منتصف الستينات. أيضاً، هذا يحصل في الحديث عن الاستراتيجيات التي يجري اعتمادها لتحقيق المشروع العتيد، فمثلاً تأخذ أوساط «فتح» على «حماس»، المنافسة لها، إخفاق خيارها في المقاومة المسلحة، بينما هذه تأخذ على «فتح» اخفاقها في خيار المفاوضات، وفي جلب الدولة المستقلة في الضفة والقطاع. الآن وبغض النظر عن تقييم أي من الخيارين، فإن الكلام على هذا النحو، ووفق العقليات المغلقة، لا يفيد البتة، لسبب بسيط مفاده أن هذين الخيارين لم يصلا إلى النتيجة المتوخاة، لأسباب عديدة مختلفة، تأتي ضمنها الطريقة التي أدير بها كل خيار، وهذا ما يفترض أنه يهمّ المعنيين ويهم كل الفلسطينيين. لكن اللافت أكثر في هذا الأمر أن قيادة حركة «فتح» (وهي قيادة المنظمة والسلطة أيضاً) لا تقبل الحديث عن فشل مشروعها التفاوضي، ولا تبحث عن خيارات سياسية أو نضالية بديلة، وإن تحدثت عن ذلك فمن قبيل الاستهلاك او الابتزاز، لا أكثر، كما ثبت في التجربة. والوضع ذاته ينطبق على حركة «حماس»، التي لا تقبل الإقرار بأن طريقها في العمل المسلح، لا سيما وفق نمط العمليات التفجيرية، لم يكن خيراً بالنسبة الى مصير العمل الوطني، بدليل ما حصل، وأيضاً بدليل وقفها هي لعمليات المقاومة المسلحة، تفجيرية كانت او عادية، في الضفة او في غزة (إلى جانب وقف القصف الصاروخي). ويمكن أن نضيف إلى ذلك التخبّط في تحديد مكانة غزة في العملية الوطنية الفلسطينية، على ضوء وضعها الراهن، لأن الأمر لا يحتمل تعريض القطاع إلى مزيد من الحروب المدمرة، والتي تجعله بمثابة حقل رمي للأسلحة الإسرائيلية. هذا الكلام بمناسبة التجاذبات الجارية حول قضية المصالحة وإنهاء الانقسام في الساحة الفلسطينية، بين «فتح» و «حماس»، وبين سلطتي الضفة وغزة، يتناول القضية التي انقضى عليها نحو سبعة أعوام، بين اجتماعات ووساطات واتفاقات من دون جدوى، بحيث باتت معها قضية المصالحة لا تقل تعقيداً عن المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية. المشكلة في تلك القضية أن الطرفين يتحدثان عن مجرد مصالحة في حين أن الأمر في الحقيقية يتجاوز ذلك بكثير، فما شأن قضية المصالحة وانهاء الانقسام في السلطة بقضية إعادة بناء منظمة التحرير؟ وما شأن انتخابات المجلس التشريعي بانتخابات المجلس الوطني؟ واضح من ذلك أن القضية الأولى، والأساسية، التي يجري التباحث في شأنها، منذ 2005، لا سيما منذ 2007 (مع الانقسام) هي أكبر وأعمق من قضية مصالحة، إذ إنها تشمل إعادة ترتيب الحقل السياسي الفلسطيني بمجمله (المنظمة والسلطة والفصائل). وربما كان هذا ناجماً عن ادراك قيادة «فتح» لعدم القدرة على الاستفراد بقيادة المنظمة، أو إبقاء حركة حماس خارجها، كما في السابق. وفي المقابل يبدو أن قيادة «حماس» باتت تدرك أيضاً أنها لا تستطيع العمل كسلطة من دون تكريس شرعيتها في المنظمة، والتعاون مع «فتح». أما في موضوع السلطة فيبدو أن الطرفين باتا يدركان المخاطر الناجمة عن عمل كل واحدة منهما إزاء الأخرى بطريقة تنافسية وتعارضية في ظلّ الانقسام. وبالنسبة الى الفصائل فإن أي ترتيب جديد سيفرض عليها بدورها إعادة ترسيم وضعها على أسس جديدة، تمثيلية وانتخابية، بعيداً من النظام القديم الذي تأسس على ما يسمى الشرعية الثورية، او المحاصصة الفصائلية («الكوتا»)، ما ستتمخّض عنه خريطة فلسطينية جديدة ومغايرة حتماً. أما القضية الثانية التي يجرى الإعداد لها، والعمل على تخريجها، فهي تتعلق بضمان كل من الفصيلين المهيمنين لمكانتهما السلطوية، حيث أن كلاً من «فتح» في الضفة و «حماس» في غزة، ترغبان بالمصالحة وإنهاء الانقسام، لكن كل واحدة منهما تحرص، في الوقت ذاته، على أن لا تأتي الترتيبات الجديدة على حسابها، في الإقليم الذي تسيطر عليه. لكن ثمة مشكلة أخرى هنا وهي تتمثل في أن حركة «حماس» لا تريد أن تسهّل في الملف الثاني، أي المتعلق بكيانية السلطة، من دون ان تضمن مكانة متميزة لها في الملف الأول المتعلق بالمنظمة، في حين أن حركة «فتح»، على العكس من ذلك، تبدو أكثر استعجالاً في ما يتعلق بإجراء ترتيبات جديدة للسلطة، وأكثر تمهلاً في شأن الترتيبات المتعلقة بالمنظمة، ما يعني ارتباط ملف ترتيب السلطة بملف ترتيب المنظمة. ويستنتج من ذلك أن ملف المصالحة الفلسطينية بات محملاً بأعباء الأزمة السياسية الفلسطينية كلها، أي ازمة المشروع السياسي، وأزمة الكيانات السياسية، بما في ذلك أزمة الفصيلين المهيمنين، اللذين يشتغلان وفق عقلية ومصالح السلطة والهيمنة، اكثر من الاشتغال وفق عقلية ومصالح حركة التحرر الوطني، التي ما زالت لم تحقق أهداف شعبها، وهذا ما ينبغي الحديث عنه بوضوح وصراحة. مع ذلك فمن تفحّص واقع الكيانات السياسية الفلسطينية، في هذه الظروف الصعبة والمعقدة، وضمن ذلك التغيرات الحاصلة في البيئة السياسية العربية، يمكن ملاحظة تعذّر السير وفق طريقة العمل السابقة، بالقدر نفسه الذي تتعذّر فيه القدرة على توليد حالة جديدة بكل معنى الكلمة، ما يعني، أن الفلسطينيين مقبلون، ولو اضطرارياً، على تغييرات ما في حقلهم السياسي. والراجح أن الصيغة الممكنة اليوم والمتاحة إنما تتمثل بتوليد حالة انتقالية هجينة، تجمع بين الجديد والقديم، وهي حالة قد تتأسّس ربما على نوع من الشراكة، او تقاسم السلطة والقيادة، بين «فتح» و «حماس»، في السلطة والمنظمة. * كاتب فلسطيني