ليس هناك أدنى شك في أن الكاتب الاشتراكي الأميركي آبتون سنكلير كان من شأنه، طوال النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى الآن، أن يبقى في مهب النسيان، لولا روايته الأشهر "الأدغال" التي يعاد، في كل مرة اكتشافها وطباعتها من جديد وتعيد صاحبها الى واجهة المسرح الأدبي الأميركي الملتزم. هذا بالنسبة الى الجمهور العريض من القراء، الأميركيين خصوصاً. أما بالنسبة الى نخبة أهل السينما، فإن سمعة آبتون سنكلير قائمة على ارتباط اسمه باسم المخرج السوفياتي سيرغاي ايزنشتاين، من جراء اشتغال الاثنين معاً ثم خلافهما وتوقف ذلك التعاون على فيلم ايزنشتاين الذي لم يكتمل أبداً في حياة هذا الأخير"فلتحيا المكسيك". والحقيقة أن الخلاف بين سنكلير ورفيقه السوفياتي، أدى داخل الولاياتالمتحدة على الأقل، الى الإساءة الى سمعة سنكلير في أوساط اليسار الستاليني الأميركي خلال سنوات الثلاثين من القرن العشرين، يوم كانت لا تزال لستالين، ولكل شيء سوفياتي، مكانته. وقد صدر في لندن قبل نحو ثلاثين عاماً كتاب ضخم يتحدث عن عدم انجاز الفيلم العتيد، وكان صدور الكتاب مناسبة لإعادة إحياء ذكرى سنكلير، الذي سيقال انه أوقف تعاونه مع ايزنشتاين لمجرد انه اكتشف انحرافاً جنسياً لدى هذا الأخير. طبعاً هذه الحكاية كلها ليست ما يهمنا هنا. فقط أوردناها لنموضع آبتون سنكلير في تاريخ النشاط اليساري في أميركا ذلك الحين... وليس لنموضع مكانته الأدبية، على رغم أنه كتب ونشر خلال حياته الطويلة نحو تسعين كتاباً، معظمها روايات. أما العودة الى الحديث عن هذا الكاتب الغزير اليوم، فترتبط بتحويل المخرج بول توماس اندرسون واحدة من روايات سنكلير الى فيلم سينمائي يحمل عنواناً ثوراتياً هو"ستكون هناك دماء"، وهو واحد من أبرز الأفلام المرشحة لأكثر من جائزة أوسكار خلال هذا الشهر. الرواية هي"نفط"أو"زيت"الاسم الشعبي للبترول في أميركا، التي عادت منذ أسابيع لتُطبع وتُقرأ في طول الولاياتالمتحدة، كي تحتل في طريقها مكانة كبيرة الى جانب"الأدغال"، رواية سنكلير الوحيدة التي كانت نجت من النسيان حتى اليوم. ومع هذا كله، اذا وضعنا البيئة وجوهر الموضوع جانباً، ثم شاهدنا الفيلم على ضوء قراءة رواية سنكلير، سنكتشف ان الروابط ضئيلة بين العملين. بل إن ثمة فارقاً جوهرياً، لعله يرتبط بالفوارق بين الأزمان، أو بما أراده كل من الكاتب والمخرج من صياغة عمله الدائر من حول موضوع واحد: ففيما أراد اندرسون ان يحقق فيلماً ينطلق فيه من رسم صورة لولادة الثروة النفطية وتحولها الى خلفية لصعود انسان فرد وسط وحدته اللامتناهية ? على غرار ما هو حادث في"المواطن كين"في مجال الصحافة، مثلاً -، كان مراد آبتون سنكلير أكثر اجتماعية بكثير. بالنسبة اليه تنخرط روايته"نفط"في سياق كتاباته الإبداعية التي حرص دائماً على أن يوظفها في خدمة أفكاره السياسية والحزبية والاجتماعية، ذلك أننا إذا استعرضنا مواضيع وأجواء معظم روايات سنكلير، سنجدنا أمام مرافعات نضالية تنحو الى فضخ كل انحرافات الرأسمالية ونضالات العمال والمهمشين، بمن فيهم النساء والملونون والطلاب. بالنسبة الى سنكلير، لا علاقة للأدب بالحديث عن الفرد وعن الحلم الأميركي وعن قضايا وجودية. بل إنه حتى حين كان يدنو من قضايا مثل الدين، كان ما يهمه أن يصور استغلال الرأسماليين للدين على حساب المؤمنين البائسين. ثم كيف يتحول الوعظ الديني الى دعوات الى التطرف والأصوليات. ومن الواضح هنا أن كل هذا يكاد يجعل من آبتون سنكلير كاتباً معاصراً، وبالأحرى كاتباً سياسياً مناضلاً معاصراً، ضد مساوئ وسياسات وقضايا أيامنا هذه. وهو في هذا على العكس من اندرسون الذي ستكون لنا عودة الى فيلمه في كلام لاحق. لذا نبقى هنا مع"نفط"آبتون سنكلير. نشر آبتون سنكلير هذه الرواية سنة 1927، مستفيداً بخاصة من السمعة التي كانت جعلتها له رواية"الأدغال"التي أدى نشرها قبل ذلك بأكثر من عقد من الزمن الى اتخاذ الحكومة الفيديرالية اجراءات راديكالية لإصلاح أوضاع التغذية في أميركا، وضبط فوضى المسالخ، حيث نعرف أن ما يعنيه بپ"الأدغال"هذا الكاتب في عنوان روايته، انما كان مسلخاً في شيكاغو صوّر قذارته والصراعات الدموية الدائرة فيه ومن حوله، والسموم والقاذورات التي تمتلئ بها علب اللحم المعلب وكل أصناف اللحوم المباعة الى الجمهور. وفي"نفط"أراد سنكلير، وقد بات الآن مستقراً في جنوب كاليفورنيا، أن يصور كيف ولدت ثم نمت عمليات استخراج النفط واستيلاء الشركات الكبرى وبعض المقاولين على الأراضي بغية استخراج النفط فيها. وسنكلير صور هذا من خلال العلاقة بين جو روس ملياردير النفط، الذي كان عامل مناجم فاشلاً أول الأمر، وبين ابنه باني روس، الذي لا يتوقف جو عن تعليمه كل ما يتعلق بالنفط والثروة التي ستؤول اليه ذات يوم. غير ان العلاقة بين الاثنين ستصبح علاقة صراعية، بمقدار ما يكبر باني في العمر، وتزداد ثروة جو وعزلته عن العالم وسط أملاكه وأحقاده وتعلقه بباني على اعتبار انه الوحيد الذي يربطه بهذا العالم. ونحن من خلال هاتين الشخصيتين وهذا الصراع، يمكننا أن نرى كل ما أراد آبتون سنكلير تصويره:"جشع الرأسمالية"وپ"رشوة أصحاب الشركات الكبرى للسياسيين كي يغضوا الطرف عن كل ضروب الاستغلال والنهب المنتظم"وپ"الحملات الصليبية التي يشنها الوعاظ"، وپ"مطاردة المناضلين اليساريين كما يطارد السحرة من جانب اليمين المتحالف مع السلطات الحاكمة"... بل حتى لن يفوتنا في هذه الرواية أن نشاهد بأم العين كيف تتجه هوليوود في ذلك الحين الى تسخير أفلامها لشن حملات دعائية لليمين الأميركي المتطرف. وفي خضم هذا كله تروى لنا حكايات وحكايات عن مزارعين صغار من أصحاب الأراضي الذين تجبرهم الشركات على التخلي عن تلك الأراضي مقابل دريهمات، فإذا بالأراضي تحمل في جوفها كميات من النفط تزيد من ثروة الأغنياء. كل هذا وضعه آبتون سنكلير في روايته ولن نجد كثيراً منه في فيلم بول توماس اندرسون بالطبع. وكان كل هذا فاقعاً الى درجة ان واحداً من اليساريين أنفسهم قال عندما قرأ الرواية حين صدورها:"لو جاء السوفياتي الستاليني شولوخوف الى كاليفورنيا ليكتب رواية عن النفط والحياة فيها لطلع بعمل أكثر رأفة بأميركا من هذا العمل!". لكن مثل هذا الكلام النقدي والهجومي أحياناً لم يدفع آبتون سنكلير الى التخفيف من حميّا همومه الاجتماعية والاقتصادية، لا خلال حديثه عن"نفط"والترويج لها، ولا في الروايات الكثيرة التي كتبها وأصدرها من بعدها. فالرجل، وكما قلنا، كان مناضلاً اشتراكياً وعنيداً، من النوع الذي بالكاد كان يمكن أحداً أن يجد مثيلاً له خارج أميركا، إلا في صفوف أعتى الستالينيين الذين لا يرون من الألوان إلا الأسود والأبيض. ولد آبتون سنكلير سنة 1878، ليرحل بعد ذلك بأكثر من تسعين عاماً 1968. وهو نشأ يتيماً تقريباً، في بيئة شديدة الفقر وفي بيت يتحكم به أبٌ سكير، ما دفعه لاحقاً الى الاشتراكية والشيوعية، وبعد ذلك الى فوضوية تجلت لديه، خلال العقود الأخيرة من حياته، حين أدت به خيبة أمله ازاء ستالين والاتحاد السوفياتي الى البحث عما كان يعتبره"على يسار هذين". أما بداية شهرته ككاتب فكانت مع"الأدغال"، التي كان، على أي حال، قد نشر أكثر من عشرين رواية قبلها. وهو ظل يكتب ويصدر كتباً في شتى الأنواع حتى سن متقدمة جداً، حتى وان كان من الصعب القول ان أياً من رواياته أو كتبه الأخرى بما فيها روايته المميزة عن الحرب الإسبانية"لن يمروا!"، وصلت الى شهرة"الأدغال"قبل اهتمام السينما اليوم بپ"نفط"وتحويلها فيلماً من المؤكد أن آبتون سنكلير كان من شأنه أن ينكره لو قام اليوم من قبره وشاهده. [email protected]