مع أن أحداً لم تساوره أية شكوك في شأنه، فإنه كان غريباً بعض الشيء منظر ذلك العامل الفضولي الذي بثيابه المتسخة ونظراته الفاحصة، كان لا يتوقف عن التجوال طوال سنوات عدة دخل المسالخ ومصانع اللحوم المعلبة في مدينة شيكاغو الأميركية عند السنوات الفاصلة بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين. إذ، في نهاية الأمر، لم يكن ذلك العامل عاملاً... كان كاتباً ومناضلاً اشتراكياً. وهو إذ تنكر وخاطر وعاش تلك الحياة، فإنما كانت غايته أن يكتب، وربما سائراً في ذلك على خطى الفرنسي اميل زولا، نصاً يفضح به الفساد والقتل والاستغلال والغش، وغيرها من المساوئ التي كانت مستشرية في أدغال صناعة اللحوم في أكبر المدن الأميركية الصناعية في ذلك الحين: شيكاغو. في البداية كان ذلك الكاتب المتنكر في زي عامل، يريد أن يكتب تحقيقات صحافية يفضح فيها ما يدور في ذلك العالم الكئيب الغامض. لكنه قرر في نهاية الأمر أن يحول النص الى رواية. وهكذا ولدت في العام 1905 رواية "الدغل" التي وقعت كالصاعقة على رؤوس الأميركيين... أذهلتهم، أحزنتهم. وكان من بين أولئك الأميركيين الرئيس تيودور روزفلت، الذي ما إن قرأ الرواية بعد الضجة التي أثارتها، حتى استقبل الكاتب في البيت الأبيض، طالباً منه مزيداً من التوضيحات. ولقد كانت توضيحات الكاتب مقنعة الى درجة ان الرئيس طلب على الفور أن يجري تحقيق سري حول ما يجري حقاً، داخل صناعة اللحوم، في شيكاغو... علماً بأن شيكاغو كانت تزود يومياً، باللحم الطازج، ملايين المواطنين، كما تزود أميركا كلها باللحم المعلب. والمؤلم ان كل هؤلاء المواطنين الصالحين، إذ قرأوا "الدغل" قبل الضجة وبعد الضجة ذهلوا إذ تبين لهم أن لا لحوم طازجة هناك ولا يحزنون، أما علبهم من اللحم المعلب فإنها تحتوي على أي شيء بما في ذلك لحوم وجلود الخنازير المشعة، ولحوم الجراذين المسمومة، بل أحياناً لحوم جثث عمال يقتلون خلال العمل. كان الأمر أكثر غرابة من أن يصدق... لكن التحقيق أثبت ان الكاتب كان على حق وأن المشكلة لا تكمن في فساد اللحوم بل في فساد النظام الاقتصادي الذي ينتجها أيضاً. بدا الأمر في النهاية نقيضاً واقعياً لحلم أميركي ساء الأميركيين أن يتبينوا يومها على ضوء ذلك الواقع الجزئي، انه تحول كابوساً. الكاتب كان ابتون سنكلر لم يشتهر كروائي قدر اشتهاره كمناضل، في سبيل الاشتراكية هو الذي كان مناصراً للحزب الاشتراكي الأميركي، خائضاً معاركه الى جانب الفقراء ضد الأغنياء، وضد الادمان على الكحول في سبيل مجتمع أكثر عدلاً، اضافة الى نضاله في سبيل تحرير المرء، وتحرير الأطفال من عبودية العمل... وهو من أجل الدفاع عن القضايا الأثيرة لديه لم يتوقف عن الكتابة، مسرحاً وروايةً وتحقيقات صحافية، بل ان اهتماماته صارت ذات حقبة، أممية، إذ تعرف انه خلال الربع الثاني من القرن العشرين كان هو وراء - وكاتب سيناريو - الفيلم الذي لم يتمكن الروسي ايزفشتاين من استكماله أبداً: "فلتحيا المكسيك". كان ابتون سنكلير دينامية لم تهدأ. ومع هذا تظل "الدغل" والمغامرة التي وراء "الدغل" أشهر انجازاته وأهمها. ذلك ان سنكلير تمكن في هذا العمل من أن يقدم "الوجه الآخر لأسطورة الحلم الأميركي"، بحسب تعبيره الخاص. وقال كيف ان هذا الحلم، إن كان له وجود، فإنه لم يبن إلا على الغش واستغلال البروليتاريين ولا سيما في المدن الكبرى، مثل شيكاغو. وهو في "الدغل" لكي يوصل فكرته هذه، اختار بعد أن عاش سنوات في أوساط المسالخ وعمالها أن يفضح ما يحدث من خلال نص روائي. وبنى ابتون سنكلير النص من خلال أحداث تقع في العام 1901 معطياً دلالة أساسية لكون ذلك العام يفتتح القرن العشرين، القرن الأميركي بامتياز، وسط عائلة مهاجرين جاؤوا أميركا من ليتوانيا، في الشرق الأوروبي، معتقدين، كما كان غيرهم من المهاجرين الآتين من المانيا وبولندا وايرلندا وايطاليا، انهم في وصولهم الى العالم الجديد، عالم الحلم السعيد، انهم يهربون نهائياً من البؤس والاستغلال اللذين كانوا يعيشونهما في أوطانهم الأصلية... لكنهم في الوطن الجديد لم يجدوا - بحسب ما نكتشف في الرواية فصلاً بعد فصل - سوى تلك الرأسمالية الضارية التي لم تلبث أن تبدت، خلال سنوات قليلة، ظالمة لهم، مستنفدة لطاقاتهم، مستنزفة لدمائهم ماحية لديهم كل أمل... وكل هذا يصفه ابتون سنكلير في فصول الرواية وصف شاهد عيان يكتب ما يشبه التحقيق الصحافي، دخلاً في التفاصيل المذهلة، راسماً كل ذلك من خلال نظرات بطله، ابن تلك العائلة الليتوانية، المدعو جورجيس، والذي بعد أن يعاني ما يعاني يكتشف، على رغم كل شيء، أن الدرب ليست مسدودة كلياً: فهو يجد نفسه وسط دوامة الأحداث وسط رفاق ينقلون اليه الافكار الاشتراكية التي سرعان ما تجعله قادراً على ادراك اوالية ما يحدث وأسبابه... ان هذه الأفكار هي التي تلقته كل الحقائق حول مصدر الشر ومصدر بؤسه، معطية اياه في الوقت نفسه، الأدوات الفكرية التي تمكنه من المقاومة. ان كثراً من الباحثين والنقاد الذين تناولوا هذه الرواية، أخذوا على كاتبها تلك الخاتمة الايجابية التي تنتمي الى المصدر الايديولوجي نفسه الذي سوف يغذي لاحقاً معظم أدبيات الواقعية الاشتراكية ذات البطل الايجابي. غير هذا لم يكن هو العنصر الأساس والرئيس في "الدغل". فابتون سنكلير كان، في حقيقة الأمر، يعرف أين يريد أن يصيب. بل سوف يقال لاحقاً ان الجانب "الاشتراكي" في روايته كان ذا فاعلية كبيرة، لأنه - من قبل سلطات البيت الأبيض - اعتبر بمثابة تحذير حقيقي: ان لم يتم تدارك الأمور سوف تعم أميركا مثل هذه الأفكار. طبعاً من الصعب أن نعتقد ان سنكلير كان يريد التنبيه ضد مخاطر استشراء فكر كان، هو، يؤمن به، لكن الرسالة وصلت في تلك الرواية التي كان جاك لندون أحد كبار المدافعين عنها حين هوجمت من قبل اليمين الأميركي واحتكارات صنع اللحوم، فقال عنها انها "كوخ العم توم في مجال الحديث عن استعباد العمال المأجورين"، مشيراً بالطبع الى رواية "كوخ العم توم" التي فعلت فعلها في مجال اعتاق الزنوج. ولعل الطريف في هذا كله ان ابتون سنكلير نفسه كان نباتياً لا يقرب اللحم، لا قبل مغامرته تلك ولا بعدها. وهو حين كتب "الدغل" كان لا يزال في مقتبل شبابه وذا حماسة لأفكاره الاشتراكية المشاكسة، إذ انه ولد في العام 1878، وانخرط منذ شبابه المبكر في الصحافة وفي العمل السياسي سواء بسواء. وهو ظل قومنا بأفكاره لفترة طويلة ما جعل الأمور تختلط لديه، بل ما جعله "يقتل الكاتب المبدع في داخله لمصلحة المناضل الصاخب" بحسب تعبير واحد من متناولي سيرة حياته. ولقد كتب ابتون سنكلير، الذي سيرحل العام 1968 عن تسعين سنة، مئات النصوص والبيانات السياسية والفكرية، كما كتب الكثير من المسرحيات، اضافة الى ثمانين رواية من أبرزها ثلاثية "بترول، متروبوليس" عن أثرياء نيويورك كما كتب أيضاً عن قضية ساكووفانزيني، وعن المضاربات في البورصة. وكان يعتبر كل كتاب له، معركة يخوضها.