في عام 1979 فوجئنا في موسكو حيث كنا نشارك في مهرجانها السينمائي، بالاعلان عن العرض العالمي الاول لفيلم "لتحيا المكسيك" ل... سرغاي ايزنشتاين. وبالفعل عرض "الفيلم"، الذي اعاد تركيبه غريغوري الكسندروف، مساعد ايزنشتاين ومشاركه في كتابة النص الاصلي للفيلم الذي كان منذ بداية سنوات الثلاثين يعتبر واحداً من اساطير تاريخ السينما. طبعاً كان ما امامنا على الشاشة عمل يحمل في لقطاته وأجوائه سمات عدة من عبقرية مخرجه الأصلي، لكنه في مجموعه كان عملاً ثانوي الاهمية. ومن هنا سرعان ما طوى النسيان تلك المحاولة الجديدة - والاكثر جدية على اي حال - لاحياء مشروع ايزنشتاين المجهض عن تاريخ المكسيك. ونقول هنا "المحاولة الجدية" لأن الواقع يفيدنا إن منذ فشل المشروع واعترف ايزنشتاين بخيبة امله ازاء تجربته الاميركية في شكل عام، جرت محاولات عدة بين عامي 1933، و1954 لصنع فيلم عن الموضوع نفسه، او اجزاء منه، تستفيد من ألوف الامتار التي صورها عبقري السينما العالمية وأودعت كلها في هوليوود بمعرفة الكاتب ابتون سنكلير، الذي كان في الاصل رائد المشروع والدافع اليه، والذي هو الآخر سيكون آخر سنوات الستين، وراء صدور كتاب في غاية الاهمية عنوانه "صنع ولا صنع لتحيا المكسيك"، روت فصوله حكاية الفيلم وحكاية ايزنشتاين معه، من الألف الى الياء. وما جاء في الكتاب يبدو موثقاً ومقنعاً، حتى ان كان ينقصه امر اساسي وهو وجهة نظر ايزنشتاين. ذلك ان الاخير كان رحل عن عالمنا منذ زمن، وفي قلبه غصة من حول "لتحيا المكسيك" بين غصات عدة اخرى. كل هذه الحكاية قد تبدو في السطور السابقة اشبه بجملة من الكلمات المتقاطعة، لذلك نوضح ان الأمر يتعلق بفيلم حاول ايزنشتاين تحقيقه عن تاريخ المكسيك، لكن بعدما صوَّر 35 ألف متر من الافلام هناك، أُبلغه شريكه الاميركي ابتون سنكلير، صاحب رواية "المسلخ" الشهيرة أن المشروع توقف ولم يعد مسموحاً له، من السلطات الاميركية، بالعودة الى الولاياتالمتحدة. كان ذلك نهاية مغامرة ايزنشتاين الاميركية. وهذه المغامرة كانت بدأت في عام 1929، حين قرر سرغاي ايزنشتاين، اثر مشكلات جابهته في وطنه السوفياتي واثر خلافات عدة مع سلطات هذا الوطن الستالينية، ان يذهب الى هوليوود استجابة لدعوة تلقاها من استديوات "باراماونت" للعمل هناك. وهكذا اصطحب معه مساعده الاثير الكسندروف، ومصوره المبدع ادوارد تيسيه وتوجهوا الى عاصمة السينما. صحيح ان الشركة لم تبخل عليهم بالمال، اذ واظبت على دفع مرتب شهري له ولرفيقيه، لكنها عجزت عن الاستجابة لأي من المشاريع التي عرضها، فلا هي اقتنعت بتصوره ل"حرب العوالم" عن رواية ه. ج. ويلز، ولا هي وافقت على مشروع لتحويل "ذهب" سندرارس او "مأساة اميركية" لدريزر الى فيلم وكلها وغيرها كانت مشاريع عرضها ايزنشتاين واشتغل عليها. ازاء هذا كله بدأ ايزنشتاين يسأم ويسأل عما اذا لم تكن حاله الجديدة امام "ديكتاتورية رأس المال" اسوأ كثيراً من حاله السابقة امام "ديكتاتورية البروليتاريا"؟ وهنا في هذه اللحظة بالذات جاءه الفرج: تمكن صديقه ابتون سنكلير من ان يجمع من بعض الشركات والرأسماليين الاميركيين - ومن بينهم مصانع جيليت للشفرات ! - مبالغ تكفي لتمويل فيلم عن تاريخ المكسيك الحديث. وهكذا انطلق صاحب "الدارعة بوتمكين" و"اكتوبر" الى المكسيك مع مساعديه وبدأ يصور ألوف المشاهد وغايته ان يحول كل ذلك في نهاية الامر الى فيلم طويل جداً، يرصد تاريخ هذا البلد الفاتن، منذ ديكتاتورية بورفيريو دياز، حتى الثورة التي اندلعت بين عامي 1910 و1916، مع توقف في النهاية عند تصوير الحال الراهنة لهذا البلد الذي كان يعيش زمن تصوير الفيلم فترة لا بأس بها من تاريخه، ما يفسر الاستقبال الرسمي الطيب الذي كان من نصيب المكسيك. لم يكن الاستقبال رسمياً فقط، بل ايضاً من القوى التقدمية والديموقراطية التي كانت تهيمن على الحياة الثقافية الى حد كبير. من هنا اندفع ايزنشتاين في عمله وراح يصور، في حماسة شديدة، كل مظاهر الحياة وآثار التاريخ، يستنطق البشر والحجر، ويطل على التاريخ القديم والحديث. وكان من الواضح مدى افتتان المخرج بهذا البلد وتاريخه. اما المشروع الذي كان يداعب خياله، فكان يقوم على عمل من اربعة اجزاء وخاتمة: يحمل الجزء الاول عنوان "فييستا"، والثاني "ساندونغا"، والثالث "ماغوي"، اما الرابع فعنوانه "لاسولداديرا"... اما الخاتمة فتتوقف عند مظاهر الحياة والتقدم في المكسيك زمن تصوير الفيلم. وللوصول الى مشروعه الذي كان يتعين عليه، في نهاية الامر، ان يكون مشروعاً توليفيا، راح ايزنشتاين يصور ما يشبه الخبط عشواء ظاهرياً، اما في الحقيقة، فإنه كان يرتب المشاهد والتفاصيل في ذهنه وعلى اوراقه، كما دأبه دائماً. اما ما يصوره، فكان يرسله تباعاً الى ابتون سنكلير في الولاياتالمتحدة. وذات يوم من بدايات عام 1932، فيما كان ايزنشتاين يصور بعض المشاهد الاخيرة الخاصة بالجزء المعنون "لاسولداديرا"، جاءه النبأ اليقين من سنكلير: اوقف تصوير اي شيء آخر. وكان في ذلك بداية النهاية للمشروع، حتى وان كان قد اجتمع لسنكلير عشرات الوف الامتار من مشاهد وصور رائعة في حاجة الى فنان عبقري كان اصلاً احد كبار مبتدعي فن التوليف المونتاج ليعيد جمعها وتركيبها محولاً اياها الى فيلم - او افلام عدة كبيرة. فشل المشروع، اذاً، وانتهت مغامرة ايزنشتاين الاميركية وعاد صاغراً الى الاتحاد السوفياتي ليواجه هناك، ومن جديد، عشرات المشكلات والاخفاقات. اما "الفيلم" نفسه فلسوف يكون له مصير آخر تماماً... اذ هناك اليوم، كما اشرنا، افلام عدة ولدت منه - اذا استثنينا فيلم الكسندروف مفاجأة مهرجان موسكو! الذي يبدو من الناحية التقنية فقط، الاقرب الى ما كان ايزنشتاين يريد قوله، من دون ان يكون الاقرب الى الكيفية التي كان ايزنشتاين يريد ان يقوله بها. ومن هنا ذلك التفاوت الكبير في الفيلم، بين بيئة اللقطات وبيئة المشاهد والفصول التي رُكبت بمعرفة الكسندروف. وقبل هذا الفيلم، حققت افلام عدة، من اللافت ان الذين تولوا تحقيقها دائماً، لم يكونوا مخرجين محترفين، بل نقاد سينما او مؤرخين. ومن ابرزهم دون هايز وهاوارد إيسز اللذان اشتغلا تحت اشراف سنكلير على فيلم عنوانه "عاصفة على المكسيك" وصول ليسر الذي حقق في العام 1933 فيلماً حقيراً عنوانه "الكرمس الجنائزي" وماري سيتون التي حققت "زمن في الشمس" 1939. ثم خصوصاً جاي لايدا، احد كبار المتخصصين في سينما ايزنشتاين والذي حقق في عام 1954 فيلماً/ تحية لايزنشتاين عنوانه "مشروع ايزنشتاين المكسيكي". المهم ان سرغاي ايزنشتاين 1998-1948 لم ير ابداً نتائج عمله الباهر على هذا الفيلم الذي حققه بعد "الاضراب" 1925 و"الدارعة بوتمكين" 1926 و"الخط العام" و"اكتوبر" 1928، وقبل ان يعود الى وطنه ليحقق "ألكنسدر نيفسكي" 1938 و"ايفان الرهيب" في جزأيه، اللذين كانا آخر انجازاته السينمائية ومحور معاركه الاخيرة مع الستالينيين.