الإنسان في حاجة إلى قسط من النرجسية لتعزيز قيمته الذاتية ودعم ثقته بنفسه، إلا أنها إذا تجاوزت الحدود وأصبحت المحور الأساسي في التعامل مع الآخرين، تؤدي إلى إلغاء الآخر والتركيز أكثر فأكثر على الأنا Ego، ما يضع النرجسي في عزلة مميتة أقرب إلى الانتحار. ومن صفات النرجسية المبالغة بالقدرات الذاتية إذ تضفي على صاحبها صفات الكمال وامتلاك الحقيقة، والاعتزاز بالفوقية أمام دونية الآخر. ولا يقبل النرجسي الخطأ ويعادي كل من يوجه إليه النقد، ويضع نفسه في مكانة مثالية فلا يرى أحداً في العالم قادراً على أن يتبوأ مركزه، فهو لا يعترف بالمساواة بينه وبين الآخرين، محتفظاً بمسافة عنهم. وإذا تمظهر بالتواضع، فليس بهدف التواضع إنما لإضفاء صفة مميزة يوظفها في رصيده النرجسي. والشورى بالنسبة الى النرجسي، مجرد كورس أو مجلس مديح يتغنى بفضائله وقدراته الخارقة ومواقفه الشجاعة، وهو لا يقبل من هذا الكورس أي نشاز في اللحن السماوي الذي يتغنى باسمه. وهو"الباقي ابداً"في السلطة، لا يقبل منافسة، فيما يرضى بالتضحية والضحايا في سبيله، لأنه هو القضية ولا قضية من دون وجوده. النموذج النرجسي، يمكن تعميمه على قيادات سياسية لبنانية، وتتفاوت النسبة من شخص إلى آخر، فخصوماتهم السياسية، تأخذ صفة الإلغاء، ولا تسمح بتسوية"لأن النرجسية ترفض الجمع، ولأن القائد وحدة لا تختزل ولا تجمع ولا تضرب، مهما تغيرت الظروف. ولكن في النهاية، كل مشروع يعتمد على النرجسية يحمل في طياته الموت والدمار لا سيما عندما يصطدم بالواقع الذي كانت"أنا"النرجسي تضلله عنه. من هذا المنطلق بدت لي بعض المؤشرات التي قد تؤدي في النهاية إلى تفكك الكيان اللبناني، مع التداعيات الكارثية للخطاب النرجسي: أولاًً: النرجسية البيولوجية: موجودة سواء في العائلات وتجمعاتها أو حتى في السلالات السياسية. الإنسان هنا يكتسب أهمية في انتسابه العائلي قبل أن يبرهن كفاءته. وهذه النزعة النرجسية باتجاه العائلة تأخذ في النهاية مفهوماً مضاداً للمجتمع، لأنها تعيد الفرد إلى النواة القبلية على حساب الانخراط الاجتماعي الكامل. والأخطر من ذلك عندما توظف هذه النرجسية البيولوجية في التجمعات والأحزاب والتيارات السياسية. فبمجرد أن يغيب القائد أو يعتزل، يحضر ابنه كي يحل مكانه. كما لو أن السلطة أو الموقع السياسي إرث عائلي يتناوبه الأبناء، علماً أن كل تيار سياسي فكري يخرج من الخاص المؤسس ليدخل في ملكية العام، يتناوب على ترؤسه الأجدر والأقرب من المؤسس على الصعيد الفكري والتوجه السياسي. هذه الظاهرة تدل على نرجسية القائد فلا يرى امتداداً له إلا في من كان من نسله. ويصبح الحزب ملكية خاصة مختزلاً في كل انفتاحه الفكري والسياسي بالبيولوجية العائلية. والجمهور، بما أنه يحمل البنية النفسية ذاتها، يجمع على نقل التوظيف الفكري إلى الحقل البيولوجي، فيساند ويدعم من كان امتداداً جسدياً للقائد. وفي بعض الحالات النادرة، وهي مؤشر خطير، عندما يغيب عن السلطة أحد قادتها نجد الأب يحتل مكان الإبن، وهي ظاهرة غريبة لأنها مغايرة لقوانين الطبيعة. لو كان الآباء يحتلون مكان الأبناء لانقرض الجنس البشري، فالفكر يستمر عبر الأجيال غير آبه بتواصل الجسد. وهذا يعيدنا إلى سلالة الملوك كضمانة لاستمرارية السلطة، أو بالأحرى إلى عهد الإقطاع عندما كان الإنسان يُمتلك مع امتلاك الأرض. كل ذلك يدل على دور الأب المتقاعس: فبدلاً من أن يقيم الحداد ليترك المجال أمام الأبناء الفكريين والروحيين ليأخذوا دورهم في الحياة، نراه يتمسك بملكيته للسلطة، لا يرى أي عضو مهما بلغت كفاءته مستحقاً مكان الغائب. وهذه نزوة لا نرى أفضل تمثيلاً لها سوى أسطورة كرونوس الإغريقي الذي أكل أبناءه لئلا يمتلكوا سلطته بعد اغتياله. ونحن نعرف أن الشباب الذين يغادرون لبنان يأكلون الحصرم بعدما أكل الآباء عنب الحرب الأهلية. وفي اعتقادي بأن أحد أسباب الاضطرابات النفسية عند الشباب والطموح الجامح إلى الهجرة أو حتى المخدرات، يعود إلى دور الأب الفاشل الذي ترك لأبنائه بلداً مدمراً وزرع الحقد والضغينة والبغضاء بين الأخوة. ثانياً: هجرة الشباب إذا فرغ الوطن من قدراته الفاعلة التي تؤمن الاستمرار بعد غياب الآباء، يصبح لبنان ملاذاً للمتقاعدين- مت قاعدين- ويشير ذلك إلى انقراض الجنس اللبناني الشاب ما يجعله خاوياً وفارغاً، يفتح الأفق واسعاً لمن يطمع في الحلول مكانه. ثالثاً: شلل مسيرة الموضوع المتداول منذ أن تكلم موس Mauss عن حركة الموضوع ومسيرته المستمرة، أصبح واضحاً أن المجتمعات التي تصاب بشلل"الموضوع"والتوقف عن تداوله، يضعف إنتاجها وتتعرقل عجلة اقتصادها، وفي آخر المطاف هناك موت بطيء للمجتمع عبر الفقر والمرض وفقدان الرغبة في الحياة. هذا الموضوع هو موضوع"الرغبة"، والإنسان من دون رغبة لا يمكن أن يختزل حياته بحاجاته المادية الضئيلة، فأكثر المصابين بالاكتئاب يفقدون الإقبال على الحياة لأنهم فقدوا موضوع رغبتهم. وظاهرة شلل"الموضوع"نجدها في شرائح المجتمع اللبناني كافة، لدرجة أن مرض الاكتئاب أضحى في صدارة كل الأمراض النفسية. الجميع يقولون أنه لا أمل ولا طموح في هذا البلد، أي أن المواطن لا يستطيع أن يحقق ذاته، واللجوء إلى بلد آخر هو نتيجة حتمية لغياب الموضوع وتداوله. رابعاً: الخطاب السياسي هو خطاب صدامي يؤجج الكراهية ونزعة الانتقام والتغلب على الآخر مهما كان الثمن. وهو خطاب يصب في خانة ثقافة الموت لأنه لا يحمل مشروعاً بناءً بل يستخدم أساليب الكذب والنفاق ليسجل نصراً على الآخر، تحت شعارات قد يكون بينها الدفاع عن الوطنية والحرية والاستقلال. ولو توقف الأمر فقط على مشروعه لما لجأ إلى الكذب ولما برّر كل خطيئة. أضحى الخطاب السياسي معصوماً، تضفى القداسة على كل من نطق به. فإذا كانت السياسة الرائجة تكمن في فن الكذب، فنتيجتها إباحة الفساد وتدمير الذات الوطنية، لأن الكذب يدعو إلى التكرار. وأكثر الزعماء اللبنانيين حالياً هم من خريجي المدرسة المليشيوية يعيشون تحت وطأة ماضيهم. ونحن نعلم أن الإنسان بعامة لا يتغير بالسهولة التي تتهيأ للبعض، وبهذا تصبح الممارسة التي اتبعها خلال الحرب الأهلية مغلفة الآن بمنطق عقلاني، لكنها لا تزال كامنة في اللاوعي، تعود بمجرد أن يحشر صاحبها في مأزق. وكلّ واحد على طريقته، سواء كان أيديولوجياً أو سياسياً عادياً، أو انتقامياً يغذي ثقافة الموت على حساب الحياة. وهنالك أحلاف انتقامية أو ثأرية بنيت تحت أطرٍ وشعارات وطنية. والحلف الذي يبنى على العداء لا يمكن أن يفرز إلا الكراهية والحقد. وخطورته تكمن في الانتقال من الخاص إلى العام. فمجتمع يقوم على العداوة والانتقام لا يكتب له النجاح، يرتد على مؤسسيه والجماعات المتجاوبة معه. خامساً: التفاوت الطبقي أضحى المجتمع اللبناني مقسماً إلى شرائح اجتماعية يتحكم المال بعلاقتها. فالهوة بين الفقير والغني بعد غياب الطبقة الوسطى أصبحت أعمق بكثير مما كانت في السابق. الفقير ينظر إلى الغني بعين الغيرة والحسد، لأنه يملك الموضوع الذي ينقصه. والعداوة متفشية بين الطبقات السياسية وبين الشرائح الاجتماعية وبين المذاهب. وهذه العناصر كلها إذا تجمعت، تساهم في تدمير البلد وتدخل في خدمة تناتوس Thanatos، ولا تترك فسحة لإيروس Eros لأن المحبة أصبحت غريبة عن مفهوم المواطنية. يتساءل المواطن التائه لماذا هذه القدرية ولماذا كتب عليه في هذا البلد الصغير أن يعيش في شقاء وفي اضطرابات مستمرة؟ تعاني الأقليات في العالم خوفاً دائماً من الأكثرية، لأنها تحمل هوية إتنية أو دينية مغايرة. وتكتشف أن وجودها على الصعيد الرمزي مرهون بخصوصيتها الدينية أو المذهبية. وتبعاً لذلك، وخلافاً لعامة الناس، تحمل هويتين: هوية وطنية وهوية دينية. وهي لا تقبل أن تطغى الهوية الوطنية وتجردها من الهوية الوجودية. لذلك نجدها في أزمة مستمرة تتأقلم مع الجو العام ضمن حدود، وتبدو في حالات معينة محرجة، فتنشأ عندها دواعٍ انتحارية تؤدي إلى إلغاء وجودها الوطني. وهذا ما حصل ليهود العالم العربي، فاضطر معظمهم إلى الرحيل وإلغاء وجودهم في الأوطان التي كانوا يسكنوها أباً عن جد، كي يحافظوا على هويتهم الدينية. المشكلة في لبنان أن سكانه مكونون من مجموعة أقليات تحمل في إرثها تاريخاً طويلاً من الاضطهاد والتهميش: سواء كانوا من أهل الذمة أو من أهل التقية. القاسم المشترك بين هذه الأقليات هو الوطن وسبل التعايش مكرسة في النظام الديموقراطي. التعايش كان مثمراً على صعيد النمو الثقافي والإبداع الفني والاقتصادي في فترة من الفترات. ولكنه بدا فاشلاً على صعيد الممارسة الديموقراطية التي تشكل الرابطة الأساسية بين أفراد المجتمع. والتجارب أثبتت أن الأقليات دخلت في نزاعات وفي صراعات للاستئثار بالسلطة مما أدى إلى تزايد الإحساس بالإقصاء. ويتطلب الفرز الخطر إلغاء وظيفة الديموقراطية ودورها، فتتحول اللعبة من التنافس في الحقل الرمزي الى التقاتل الفعلي، وتنطلق نزعة تدميرية فيصبح التنازع بين الهوية الوطنية والهوية الطائفية نوعاً من الإلغاء المتبادل. فإما أن يبقى الوطن وتلغى الطائفة، وإما أن يلغى الوطن وتبقى الطائفة. هذا المنحى سيؤدي حتماً إلى العنف الأهلي وفي أحسن الأحوال إلى التقسيم الجغرافي. نستدلّ على هذا الاستنتاج من الخطاب السياسي اللبناني اليوم: كل طرف نراه صدامياً كما لو كان يلعب برصيده الأخير. فإن فاز حقق فوزاً على الجميع، وإن فشل خسر وجوده ورضخ لأكثرية تلغي هويته الطائفية. لا يمكن أن يحصل هذا المأزق لولا غياب النظام الديموقراطي، فكل طرف سياسي نراه مشحوناً متأزماً يقاتل بأعنف الكلام عن قضية كما لو كان لا يوجد بعدها قضية. لا يضمن النظام الديموقراطي للتيارات السياسية نجاحاً دائماً، ولا للخاسرين خسارة دائمة، بل يضعهم امام القاعدة الشعبية سواء. فغياب الرؤيا التداولية تجعل كل طرف يتمسك بمواقفه، لا يزيح عنها قيد أنملة في الجوهر، لأن الجزء عنده قد يضيّع معه الكل. هذه الذهنية في التعاطي السياسي نتيجة وليست سبباً، فالسبب يكمن في التعايش القائم على عداوة الطوائف بعضها لبعض، ومحاولتها الدائمة التمسك بالقرار الذي يؤمن سيطرتها على الطوائف الأخرى. وإذا تكلمنا عن نزعة الانتحار في البداية، فإننا نقصد في النهاية الوصول إلى حافة الهاوية، إذ يُفرض على الطائفة أن تختار بين هويتها الدينية وهويتها الوطنية"فإذا كان الخيار الأول يخسر الوطن وإذا كان الخيار الثاني تخسر الطائفة"إنها معادلة خاطئة، لأن انتصار الوطن يضمن بقاء الطائفة. هنا يكمن المأزق لوطن اسمه لبنان لم يكتمل وجوده حتى الآن. فهل آن الأوان لصحوة شعبية إنقاذية، قبل أن ينجح رجال السياسة في جرّ الناس إلى الهاوية؟ * بروفسور في التحليل النفسي