الصراع الذي عاشه لبنان منذ ثلاثة أو أربعة قرون لم يستطع أن يخلق نظاماً ديموقراطياً على رغم تنوع تشكيلاته السياسية نظراً الى الطابع الطائفي الذي تميز به هذا الصراع وان طافت على سطحه بعض الحركات التي تدعو الى الديموقراطية ونبذ الطائفية فقد ظلت ضعيفة وظل شحنها للجمهور اللبناني ضعيفاً أمام الشحن الطائفي والديني للطائفة، أي طائفة، ظناً منها ان انفراط عقدها يشكل خطراً على وجودها وهويتها الطائفية المذهبية لذلك تبقى متعلقة بشخص زعيمها الذي يقوى بها وتقوى به. هذا الصراع العائلي السياسي المتعدد الهويات من الصعب جداً أن تجمعه هوية واحدة، الهوية الوطنية مثلاً، ولا توجد قواسم مشتركة للتآلف في ما بينها سوى تقاسم السلطة والنفوذ السياسيين التي تظل الفواصل المشتركة التي تفصل كل طائفة وكل مذهب عن الطوائف والمذاهب الأخرى. ولا يقتصر الصراع على القسمة بين طائفة وأخرى بل بين العائلات في الطائفة الواحدة الذي يصل أحياناً الى درجة التصفية الجسدية، كما حصل في الطائفة المارونية والطائفة الشيعية أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. أما الحركة الوطنية التي أطفأت شعلتها القوات السورية بدخولها لبنان وأغلقت أبواب البيوتات الحزبية الأخرى، فليست هي التي أشعلت الحرب الأهلية، بل ان من أشعلها هو الذي كان يريد القضاء عليها والدليل على ذلك اغتيال رئيسها آنذاك كمال جنبلاط الذي لم تبدأ تصفية هذه الحركة به ولن تنتهي باغتيال جورج حاوي وكل من طاولته وتطاوله هذه اليد لوأد الحركة الوطنية والقضاء على رموزها واضعاف كوادرها، مع العلم ان من حل محلها لم يكن بمستوى هذه الحركة على الصعيد الداخلي والاقليمي والدولي، فالذي حل محلها ميليشيات طائفية مذهبية مزقت نسيج المجتمع اللبناني الذي أرادت الحركة الوطنية الحفاظ عليه لتحيك منه مظلة فضفاضة يستظل بفيئها كل اللبنانيين على اختلاف مذاهبهم لجمعهم هوية واحدة وانتماء واحد"الهوية والوطنية اللبنانيتان". والغريب ان الشعب اللبناني ليس غبياً ولا جاهلاً، بل على العكس شعب ذكي ومثقف ويبذل كل ما له من أجل تحصيل العلم ثروة أبنائه الحقيقية التي تغني اقتصاده وتنميه ورأسماله الوحيد الذي استطاع أن يجعل من هذا البلد الصغير بلداً كبيراً لم تتسع بلاد العالم كلها لطموحاته فهو في كل مكان من هذا العالم فكيف يسمح لزمرة من السياسيين يتلاعبون بمصيره من أجل مصالحهم الشخصية، فإذا كانوا ينتظرون كفاهم انتظاراً وكذباً وخداعاً وتسويفاً، كفاهم سكوتاً على ما يجري من حولهم لم يصنعوا لهم نصراً فكيف يجعلون من أنفسهم ضحايا لهم ولم يسهروا يوماً على أمنهم فكيف يقدمون أولادهم قرابين لآلهتهم"المال والسلطة والجاه". الجميع يتذكر سنوات الحرب الأهلية وقد رواها لأولاده ان لم يعيشوها فهم يحصدون نتائجها فقراً وبطالة وهجرة، فمن هم أمراء هذه الحرب بل من كانوا غربانها؟ انهم هم أنفسهم عادوا الى ثكناتهم وجددوا متاريسهم، عاد من غُيِّب وخرج من سُجن وكبُر من ورث جده وأباه، عادوا يشحذون سكاكينهم كما شحنوا ويشحنون نفوس أبناء طوائفهم، لم يتغير المشهد الدرامي ولم تتغير المسرحية المهزلة، حجزوا لأنفسهم مقاعد في البرلمان وفي الوزارات واستعدوا لخوض الحرب، كل شهر سيفه وسحب سكينه ونزع صمام أمان قنبلته ليرميها في وجه الآخر. انهم هم أنفسهم، فمتى يستيقظ هذا الشعب من سباته، متى يصحو من سكرته ليقول كلمته ويسقط هذه التماثيل بالحجارة التي دمرتها حروبهم الوسخة، فإن لم تدفنوا تاريخ هذه الاقطاعات السياسية فلا مستقبل لكم ولا لأولادكم، وتبقى الديموقراطية حلماً بلا أمل ولا رجاء. عادل محبوبة - أستاذ في الفلسفة وعلم الاجتماع فرنسا - باريس